الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
الآيات 115 و144 و177 من سورة البقرة
تاريخ النشر: ٠٧ / رمضان / ١٤٢٥
التحميل: 3203
مرات الإستماع: 2771

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

الموضع السادس من المواضع التي قد تُشكل على كثير ممن يقرأ في كتاب الله ، وقد يفهم من ظاهر الآية غير المراد بها هو ما جاء في أمر القبلة، وذلك في سورة البقرة حيث قال الله في الموضع الأول: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، فظاهر هذه الآية أن الإنسان مخير يستقبل من أي الجهات شاء، ليس ذلك مختصًّا بجهة دون جهة.

والموضع الثاني: بين الله فيه أن البر لا يُنال باستقبال الجهات: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، ثم بين أبواب البر وأصوله التي ترجع إليها فروعه، فقال: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، إلى آخر ما ذكر، فظاهر هذه الآية أيضاً أن مسألة استقبال الجهات ليست قضية ذات شأن، أو أن مرضاة الرب -تبارك وتعالى- تُتطلب بذلك، فهذا هو الموضع الثاني، فما هو المراد بهذه الآيات؟.

أقول: المراد بذلك فيما يتعلق بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، إنما يُعرف المراد إذا عُرف سبب النزول، وقد نزلت هذه الآية لأسباب متعددة صحيحة، فمن هذه الأسباب أن النبي ﷺ لما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس -وهي قبلة اليهود- ستة عشر شهراً، ثم بعد ذلك أمره الله باستقبال الكعبة، فوقع ذلك في نفوس بعض المسلمين، وكذلك أيضاً أرجف بهذه القضية اليهود فقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، لماذا تركوا هذه القبلة التي استقبلوها وهي بيت المقدس؟

وخاف بعض المؤمنين على صلاتهم السابقة التي استقبلوا بها بيت المقدس ما شأنها، هل هي مقبولة؟ فأخبرهم الله أنها مقبولة: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس[1].

وأما هؤلاء اليهود فرد عليهم بقوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فهذا من باب الرد على اليهود لا أن الإنسان مخير يستقبل من أي الجهات شاء، وكذلك أيضاً نزلت هذه الآية مرة أخرى بسبب آخر كما في حديث جابر بن عبد الله أنهم كانوا في سفر في ليلة ظلماء، فخفيت عليهم القبلة، فصلى كل رجل منهم بحسب اجتهاده، وخطوا خطوطاً -يعني: حسب ما استقبلوا-، فلما أصبحوا تبين لهم أنهم صلوا إلى غير القبلة، فلما قفلوا من سفرهم أخبروا النبي ﷺ فأنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115][2].

ولذلك يقال: إن من اجتهد الاجتهاد المُعتبر الصحيح في تطلب القبلة فخفيت عليه فصلى إلى غيرها يقال له: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، وذلك إذا كان الإنسان في سفر ولم يجد أحداً يتعرف منه إلى القبلة، ولم يجد محاريب ومدنًا ومساجد، فإنه في هذه الحالة يجتهد، وليس بطبيعة الحال أن يبقى في المدينة في أوساط الناس، ويسكن في شقة مفروشة ثم يتحرى القبلة ويتبين له أنه استقبل الشمال مثلاً، هذا غير معتبر، يستطيع أن ينزل وينظر في المساجد ويسأل الناس، وما أشبه هذا.

فالمقصود أن هذه نزلت لهذا السبب أيضاً، وهناك أسباب أخرى.

وقد جاء عن ابن عمر كما في الصحيحين أن هذه الآية نزلت في الصلاة في السفر، فقد كان النبي ﷺ يصلي على راحلته وهو راجع من مكة إلى المدينة[3]، يعني: القبلة وراء ظهره ويصلي على راحلته ﷺ، فهذا لا شك أن هذه الآية تنطبق عليه، فابن عمر يتأول قول الله : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، وكذلك النبي ﷺ، فبالسفر يستطيع الإنسان أن يصلي النافلة إلى أي اتجاه شاء، بحسب اتجاه راحلته، ولكنه يستحب له عند تكبيرة الإحرام أن يستقبل القبلة، ثم بعد ذلك حيثما توجهت به، لكن ذلك لا يجب، وكذلك في الفريضة إذا لم يستطع كأن يكون في الطائرة، ولا يمكن أن يستقبل القبلة، لا يستطيع أن يصلي وهو واقف مثلاً، يصلي في مقعده، أو يصلي في سيارة وهي تتحرك؛ لأن هذه السيارة لا تقف من أجل الصلاة، فماذا يصنع؟.  

نقول: إن استطعت أن تستقبل القبلة في ابتداء الصلاة فافعل، فإن لم تستطع فتصلي إلى أي جهة ولا تترك الوقت حتى يخرج وأنت لم تُصلِّ، فهذه كلها أسباب صحيحة، وما جاء عن ابن عمر -ا- إنما هو من قبيل التفسير -تفسير الآية، فإذا عُرف ذلك عرفت أن هذه الآية ليست في إطلاق التخيير أن الإنسان يصلي إلى أي جهة شاء كيفما اتفق، لا، يجب عليه أن يستقبل القبلة، يُبين ذلك قوله -تبارك وتعالى- بعده في سورة البقرة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فهذا من شروط الصلاة، يجب على الإنسان أن يستقبل القبلة، لكن هذه الآية فيها رد على اليهود الذين يشغبون على تحويل القبلة، وفيها تخفيف على الأمة إذا خفيت عليهم القبلة، وفيها تخفيف آخر وهو الصلاة في السفر، وكذلك في حال الخوف، في حال كون الإنسان يقاتل لا يستطيع أن يستقبل القبلة فهو يستقبل العدو ويصلي، وليس مطالباً باستقبال القبلة في هذه الحال.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم دعاة هداة مهتدين.

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، برقم (4486).
  2. أخرجه الدارقطني في سننه، برقم (1062)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (2243)، وقال: "ولم نعلم لهذا الحديث إسنادا صحيحا قويا؛ وذلك لأن عاصم بن عبيد الله بن عمر العمري،ومحمد بن عبيد الله العرزمي، ومحمد بن سالم الكوفي كلهم ضعفاء، والطريق إلى عبد الملك العرزمي غير واضح لما فيه من الوجادة وغيرها، وفي حديثه أيضا نزول الآية في ذلك، وصحيح عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن الآية إنما نزلت في التطوع خاصة حيث توجه بك بعيرك"، والطبراني في الأوسط عن عامر بن ربيعة ، برقم (460).
  3. أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة التطوع على الدابة وحيثما توجهت به، برقم (1095)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، برقم (700).

مواد ذات صلة