الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
الآية 55 من سورة آل عمران مع الآية 156 و159 من سورة النساء 1
تاريخ النشر: ٢٨ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 2537
مرات الإستماع: 2451

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:  

فما زال الحديث عن الآيات التي لربما تُفهم على غير وجهها، على غير مراد الله -تبارك وتعالى، أو عما يستشكله كثير من القارئين لكتاب الله من الآيات، وكان آخر ما تكلمنا عنه قول الله -تبارك وتعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:284]، وبينا الكلام على المراد بهذه الآية، وهل يُحاسب الإنسان على خطرات النفوس وما يختلج فيها، مع أن الله كما هو معلوم لا يؤاخذ الإنسان إلا بما تكلم به، أو عمل كما ثبت عن النبي ﷺ: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به، أو تكلم[1].

وبعد الانتهاء مما يتعلق بسورة البقرة نشرع بالكلام على الآيات التي لربما تُستشكل، أو تُفهم على غير وجهها في سورة آل عمران، وأول ذلك هو الآية الخامسة والخمسون، وهي قوله -تبارك وتعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، فهذه الآية لربما يستشكل القارئ، أو كثير من القارئين قضيتين فيها:

الأولى: تتعلق بقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ.

والثانية: تتعلق بقوله -تبارك وتعالى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، يعني: أن أتباع المسيح سيكونون ظاهرين على أعدائهم من اليهود مع ما يرِد على ذلك مما سنوضحه -إن شاء الله تعالى- مما يسأل عنه كثير من الناس.

أتباع المسيح سيكونون ظاهرين على أعدائهم من اليهود مع ما يرِد على ذلك مما سنوضحه -إن شاء الله تعالى- مما يسأل عنه كثير من الناس.

فأبدأ بالشق الأول: فقوله تعالى لعيسى : إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، من المعلوم والمقرر لدى المسلمين في اعتقادهم مما دلت عليه النصوص أن عيسى لم يمت، وأن الله قد رفعه إليه وهو حي، وهذا هو الذي يجب اعتقاده ولا يجوز لأحد بحال من الأحوال أن يعتقد سواه، ثم ينزل في آخر الزمان، ويقتل المسيح الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام، أو السيف، ويضع الجزية ، فما المراد بقوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ؟ [آل عمران:55] من نظر من أهل العلم إلى قضية الترتيب المذكور هنا أنه ذكر الوفاة وذكر الرفع بعدها، بعضهم قال: هذه الآية فيها تقديم وتأخير في اللفظ؛ لأن الواو أصلاً لا تدل على الترتيب، ما هو المعنى عند هؤلاء؟ قالوا: المراد بذلك: إني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة،ثم بعد ذلك تأتي الوفاة، ومتوفيك، يعني: أن وفاته تكون آخراً، تكون في النهاية بعدما يرفعه الله ، وهذا توجيه ذكره جماعة من أهل العلم، ولكن فيما أظن لا حاجة إليه؛ لأن القاعدة أن الأصل في الكلام الترتيب، أن يكون كما ذكره الله على هذا النسق بترتيبه إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، فما المراد بالوفاة؟

الوفاة لها معنى في اللغة، ولها معنى في الشرع، أما معناها في اللغة: فهي بمعنى الاستيفاء، تقول: وفّيت فلاناً حقه، يعني: أعطيته وافياً، تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [آل عمران:161]، يعني: تُعطى جزاءها وافياً غير منقوص، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55]، ما المراد به؟ أي: مستوفيك روحاً وجسداً، أن الله رفعه بروحه وجسده، لم يقبض روحه فقط، من الاستيفاء، استوفاه إليه، أو أن يكون المعنى على هذا إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، على معنى الاستيفاء، أو الإيفاء: موفيك أجرك كاملاً غير منقوص، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ، وهذا فيه بُعد.

والأحسن من هذا كله -والله تعالى أعلم- هو أن تُحمل ألفاظ الشارع على المعاني الشرعية إن وُجدت، وهنا الوفاة لها معنى شرعي، معنى الوفاة الشرعي معروف هو مفارقة الروح الجسد بنوعيه:

النوع الأول: الذي هو الموت.

والنوع الثاني: المفارقة الأخرى التي يرتفع معها الإدراك دون أن يكون ذلك مفارقة تامة، يعني: لا يتحول الجسد إلى جثة هامدة -جماد- كما في الوفاة الكبرى، وإنما الوفاة الصغرى أن يكون ذلك بارتفاع الروح ارتفاعاً غيبيًّا الله أعلم بكيفيته، ويكون معه ارتفاع الإدراك وهو النوم كما قال الله : اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، "والتي لم تمت في منامها" سماه موتاً، وسماه وفاة، اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر:42]، يعني: حكم عليها الموت، وَيُرْسِلُ الأُخْرَى، النائمة، فالكل يتوفاه الله  فهذا هو المراد -والله تعالى أعلم، وهو الذي عليه كثير من المحققين.

والخلاصة: أن هذه الأقوال الثلاثة كلها تدور على شيء واحد ينبغي أن يُعتقد، وهو أن عيسى ﷺ لم يمت وإنما رفعه الله وهو حي، وعلى هذا القول الذي ذكرنا رجحانه يكون الله -تبارك وتعالى- قد رفعه في حال الوفاة الصغرى التي هي النوم، ألقى النوم عليه ورفعه إلى العالم العلوي، إلى الملأ الأعلى، وقد رآه النبي ﷺ كما هو معلوم، لكن الذي يجب أن نعتقده أن عيسى لم يمت، وسيموت في آخر الزمان بعدما ينزل.

وسيأتي الكلام على الجزئية الثانية -إن شاء الله .

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن.

وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، برقم (6664)، عن أبي هريرة ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، برقم (127).

مواد ذات صلة