الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
الآية 188 من سورة آل عمران
تاريخ النشر: ٠٥ / رمضان / ١٤٢٦
التحميل: 2095
مرات الإستماع: 2875

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

يقول الله في سورة آل عمران: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]، وفي القراءة الأخرى المتواترة: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188]، هذه الآية اشتهر فيها ما أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده عن ابن عباس -ا: "أن مروان بن الحكم حينما كان أميراً على المدينة، أرسل مولاه أو بوابه واسمه رافع، وقال له: اذهب إلى ابن عباس فسأله عن هذه الآية: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]، وقال: قل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذَّبًا، لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: مالكم وهذه الآية؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمران: 187]، هذه الآية، وتلا: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، وقال: "سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أنْ قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه"[1]، يعني: أنهم قد أخبروه وأعلموه كأنهم تمدحوا بذلك، فهذا القول عن ابن عباس مشهور غاية الشهرة في تفسير الآية، حتى إن الكثيرين لربما أخذوا بظاهر هذا الكلام وظنوا أن هذا الوعيد يختص باليهود، ولعل الأمر بخلاف ذلك، فهو لا يختص بهم، فالأمر كما قال حذيفة حينما ذُكر له قول كهذا فقال: "نعم بني العم -يعني اليهود- ما كان من بيضاء أو حسنة فهي لكم، وما كان من سوداء أو سيئة فهي لهم"[2]، يعني: أن الأشياء الجيدة تقولون: هذه نزلت فينا،والأشياء السيئة تقولون: نزلت في اليهود، يعني: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،حتى لو كانت الآية نازلة في اليهود، مع أن قول ابن عباس -ا- هذا ليس صريحاً في النزول، بل هو من قبيل التفسير، يقول: هذه الآية نزلت في نفر من اليهود، يعني: نزلت في هؤلاء،فهم داخلون في معناها، ولكنها تشمل هؤلاء وغيرهم.

وسبب نزولها هو ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخُدري : "أن جماعة من المنافقين تخلفوا عن رسول الله ﷺ في بعض مغازيه، فلما قفل"، لما رجع، طبعاً هم فرحوا بتخلفهم وقعودهم خلاف رسول الله ﷺ، "فلما رجع جاءوا إليه واعتذروا إليه، واستحمدوا عنده فنزلت هذه الآية"[3]، هذا صريح في هذا الحديث المُخرج في الصحيحين أن سبب نزول هذه الآية ليس اليهود بل نزلت في هؤلاء المنافقين الذين يتخلفون عن رسول الله ﷺ ويفرحون بتخلفهم وقعودهم ثم بعد ذلك يتشبعون بما لم يعطوا، ولهذا قال النبي ﷺ: المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور[4]، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، ولذلك يقال في معناها -والله تعالى أعلم: إن هذه الآية -كما قال الحافظ ابن القيم وجماعة من المحققين- يدخل في معناها كل من أتى شيئاً مما حرمه الله عليه من الشرك، أو البدعة، أو المعصية، ثم بعد ذلك أيضاً يحب أن يُحمد بما لم يفعل، فهذه ليست من صفات أهل الإيمان، وإلا فإن المؤمن مَن سرته حسنته، كما أخبر النبي ﷺ، وساءته سيئته[5]، ولمّا سئل النبي ﷺ عن العمل الذي يعمله الرجل ثم يطلع عليه الناس بعد ذلك من غير قصد منه، فأخبر النبي  ﷺ بأن هذا: عاجل بشرى المؤمن[6]، والله يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فالمؤمن يفرح بالعمل الطيب والعمل الصالح الذي يوفقه الله إليه ولا يكون معذباً بسبب هذا، ولكن هذه الآية فيمن فرح بالمخالفة، والمعصية، والذنب، أو الكفر أو الشرك، ويحب أن يُحمد بشيء ما فعله،يتشبع به وهو لم يفعل، يوهم الناس أنه فعل، وأنه بذل وأنه قدم،وليس كذلك، فهذا هو معنى الآية -والله تعالى أعلم، ولشهرة قول ابن عباس حتى ظن الكثيرون أنها في اليهود، وأنه لا بأس عليهم إذا وقعوا في مثل هذا الصنيع، فمن أجل ذلك أدخلتها في الآيات التي نذكرها في هذه الليالي، وهي التي قد تُحمَل على غير مراد الله منها.

  1. أخرجه أحمد في المسند، برقم (2712)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2778)، ولفظه: "لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس -ا: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، هذه الآية، وتلا ابن عباس: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، وقال ابن عباس: "سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه".
  2. أخرجه عبد الرزاق في تفسيره، برقم (714)، عن أبي البختري، قال: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ البقرة:229، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82]، قال: فقيل: ذلك في بني إسرائيل؟، قال: "نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لهم كل مُرة، ولكم كل حلوة، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك"، والحاكم في المستدرك، برقم (3218)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وأبو نعيم في الحلية (4/179).
  3. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا، برقم (4567)، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2777)، عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين، في عهد رسول الله ﷺ، كانوا إذا خرج النبي ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ﷺ، فإذا قدم النبي ﷺ اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188].
  4. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب المتشبع بما لم ينل، وما ينهى من افتخار الضرة، برقم (5219)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط، برقم (2129).
  5.  أخرجه الترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في لزوم الجماعة، برقم (2165)، وأحمد في المسند، برقم (114)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير علي بن إسحاق -وهو المروزي- فقد روى له الترمذي، وهو ثقة"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2546).
  6. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره، برقم (2642).

مواد ذات صلة