الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[22] من قوله تعالى "يا بني إسرائيل" الآية 47 إلى قوله تعالى "وإذ نجيناكم من آل فرعون" الآية 49.
تاريخ النشر: ٢٤ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 4580
مرات الإستماع: 3438

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى: وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه، كما قال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ [سورة إبراهيم:6]، وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى، وبه الثقة والمعونة والتأييد.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول ابن كثير: وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء: ولا شك أن هذا من العذاب الذي كانوا يولونهم إياه.

يقول تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ [سورة البقرة:49] وفي الآية الأخرى بالواو: وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ فما الفرق بين المقامين، أي لماذا جيء بالواو هناك، وهنا لم بدون الواو؟

الجواب هو أنه لما كان المقام هناك –في سورة إبراهيم- التصريح بتعداد الآلاء عليهم ناسب فيه التكثير، فلهذا قال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ، يعني أنه امتن عليهم بنعم كثيرة، منها: أنه أنجاهم من آل فرعون، حيث كانوا يسومونهم سوء العذاب بما كانوا يشغلونهم به من أمور الخدمة العظيمة الشاقة في الأمور المهينة، وكانوا يذبحون أبناءهم، وكانوا يستحيون نساءهم، فهذا هو الفرق بين المقامين.

ومعنى يَسُومُونَكُمْ أي: يولونكم، قاله أبو عبيدة.

أبو عبيدة اسمه عمر بن المثنى، ومعنى يَسُومُونَكُمْ: يولونكم، تقول: سامه بمعنى أولاه وأوقع به وأنزل به، ويمكن أن يفهم منه أيضاً معنى الإدامة من الدوام، فـيَسُومُونَكُمْ: أي يديمون ويواصلون أذيتكم وعذابكم بشكل دائم لا ينقطع.

ومنه يقولون السائمة يعني التي تديم الرعي في المرعى، أو يكون ذلك في غالب أحوالها، فهذه يقال لها: سائمة، أي أن غالب أحوالها ترعى في المرعى إلحاقاً لذلك بالأصل، فإذا كان الأصل فيها دوام الرعي في المرعى فهي سائمة.

فهؤلاء يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ أي يطيلون عذابكم ويواصلون ذلك ويديمونه، فهو عذاب ينزل بكم بشكل دائم لا ينقطع.

 كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، وقيل: معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي.

وإنما قال هاهنا: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِثم فسره بهذا لقوله هاهنا: اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:40].

وأما في سورة إبراهيم فلما قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ [سورة إبراهيم:5]، أي: بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ [سورة إبراهيم:6]، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل.

قوله: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ [سورة إبراهيم:5] الأيام هنا المراد بها الإنعام، وقد تأتي لغير هذا المعنى؛ إذ قد تأتي بمعنى العقوبات والمثلات التي تنزل بالأقوام.

في سورة إبراهيم قال تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ [سورة إبراهيم:5]، فالمقام هناك أرسخ في التذكير بالنعم، فهو يأمره أن يذكرهم بأيام الله، فهو يحتاج أن يقول لهم: اذكروا كذا، واذكروا كذا، وهذا مما يلتمسه المفسرون فيما يسمونه بالمتشابه في اللفظ -يسمونه المتشابه اللفظي- والمتشابه المعنوي هو الذي يحتاج أن يرجع إلى غيره ليتبين معناه، فهذا يسمونه المتشابه اللفظي، فيذكرون مثل هذه الوجوه، وقد تكون هذه الوجوه متكلفة وقد تكون قريبة، لكن على كل حال هذا الذي ذكره هنا قد ذكره جماعة من المفسرين وله وجه لكن لا يقطع بمثل هذا، وعامة ما يذكره هؤلاء في المتشابه اللفظي يعني لا يقطع به، لكن يمكن أن يذكر، ومنه ما هو متكلف لا يستحق أن يذكر، ومنه ما لا يتضح وجهه أصلاً.

وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر كافرًا من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا، وكسرى لمن ملك الفرس، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافراً، والنجاشي لمن ملك الحبشة.

قوله:والنجاشي لمن ملك الحبشة لم يقل: كافراً؛ لأن النجاشي أسلم، وتبع ورد فيه حديث أن النبي ﷺ ذكره فقال: ما أدري أتبع لعيناً كان أم لا[1] والحديث صححه بعض أهل العلم.

على كل حال تبع هذا المشهور الذي جاب المشرق والمغرب، ولما تقرأ في كتب معجم البلدان، تجد أن عدد من أسماء بعض الأماكن يقال: إن تبع هو الذي سماها.

يقولون: إنه مر بالمدينة قبل مبعث النبي ﷺ وأنه لقي بعض الأحبار من اليهود وكلموه أن هذه الأرض أو البلدة لن يسلط عليها وأنها مبعث نبي، إلى آخره، فذكروا عنه أموراً حسنة في قبوله، ثم أخذ معه اثنين من الأحبار وذهب ناحية مكة، وأخبروه أن هذه البلدة لا يسلط عليها لأن فيها بيت الله، فيقال: إنه هو أول من كساها بالخز. 

فالحاصل أنه أجرى عليها بعض الأمور ثم رجع إلى اليمن، ويذكرون أيضاً أن في بعض الأماكن يوجد وادٍ أو منطقة هي أشبه بالوادي تبعد عن المدينة أربعين كيلو تقريباً اسمها ملل، من نزلها ولو لم يعرف اسمها يدرك أنها تستحق أن تسمى ملل، المقصود أني قرأت في معجم البلدان لما رأيت الاسم مطابق للمسمى فإذا هم يقولون: إن تبع نزل بها فملَّ فسماها ملل ثم فارقها!!

وعلى كل حال اسم تبع يطلق على من ملك اليمن، وهل يشترط أن يكون كافراً، الله أعلم.

وكذلك يقولون: من ملك الهند يقال له: بطليموس، وفرعون بعضهم يقول: أصله عربي ويزنونه بالأوزان العربية، ويقولون: إنه من تفرعن، وبعضهم يقول: هو اسم أعجمي وهو من العماليق، ويقول بعضهم بأن أصله من فارس من اصتخر، والله أعلم بهذا كله، ويذكرون اسم فرعون موسى فيقول بعضهم: اسمه مصعب بن الوليد بن الريان، وإذا كان اسمه مصعب بن الوليد بن الريان فهو عربي إذن؛ لأن هذه أسماء عربية، ولا أدري من أين جاؤوا بهذا الاسم، وبعضهم يقول: اسمه الوليد بن الريان، وبعضهم يقول غير هذا، والآن يقال اسمه رمسيس الثاني، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة البقرة:49] قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آبائكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك.

وأصل البلاء: الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء:35]، وقال: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأعراف:168]، قال ابن جرير: وأكثر ما يكون في الشر بلوته أبلوه بَلاءً، وفي الخير: أبليه إبلاءً وبلاء.

وقد يأتي هذا في مقام هذا، وعلى كل حال فقوله: وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ أي وفي ذلكم الإنجاء بلاء من ربكم عظيم، أي في إنجائهم من آل فرعون، ويمكن أن يعود إلى ما حل بهم من النقمة وهي أنهم يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم.

وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ أي هذا الذي وقع بكم من العذاب والنقمة من تذبيح الأبناء واستحياء النساء، وهذا قول الجمهور، وهو أن قوله: وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ أن اسم الإشارة ذلكم يرجع إلى ما حل بهم من العذاب.

وهنا سؤالان، الأول: أن الله قال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ والمقصود بالاستحياء للبنت أي أنه يبقيها حية، فإذا كان تذبيح الأولاد عذاب وبلاء أليس إبقاء البنات في الحياة وعدم قتلها هو من باب حنانيك بعض الشر أهون من بعض؟ فكيف كان استحياء البنات عذاب وبلاء لبني إسرائيل؟

الجواب واضح، وهو أن ذبح البنت أسهل من أن يسترقها عدوها، وتبقى أسيرة عنده، يسومها الخسف والذل، ويكل إليها من الأعمال ما يكون فوق طاقتها، وهي عِرض الرجل، وخدشها خدش لكرامته، والعار الذي يلحق بها يلحق بأبيها وأهلها وعشيرتها، فلا شك أن قتل البنت أسهل لمن أن تقع بيد عدوها، وهذا شيء لا يجادل فيه أحد، ولهذا قال الله يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ أي يبقي بنتك حية من أجل أن يوليها ذلك جميعاً، فهذا عذاب أشد من تذبيح الأولاد.

السؤال الثاني: أنه قال: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ فكيف عبر عن البنات الصغيرات بلفظ: نساءكم مع أن هذا اللفظ لا يقال إلا للمرأة الكبيرة أما الصغيرة فيقال لها جارية ومعلوم أن استحياءهن من قبل فرعون كان يتم وهن صغيرات؟

الجواب هو أن الصغيرات قد يطلق عليهن نساء باعتبار المآل فالله تعالى أطلق عليهن ذلك بهذا الاعتبار، فهي تكون بيده فيحصل الغبن حينما تكون امرأة تصلح للخدمة و تستطيع أن تعمل، فهذا جواب وهناك أجوبة أخرى، فالله أعلم.

وقوله تعالى:وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون، وخرجتم مع موسى خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلاً كما سيأتي في مواضعه، ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله.

فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ الباء هنا ممكن تكون –كما قال بعضهم- بمعنى اللام فيكون فَرَقْنَا بِكُمُ أي فرقنا لكم، فيكون في الكلام تضمين حرف معنى حرف آخر من حروف الجر، وهذا القول فيه نظر.

وبعضهم يقول: الباء هنا بمعنى السببية، فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ أي: فرقنا بسببكم البحر.

ولعل أحسن من ذلك كله أن يقال: فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ حيث إنكم دخلتموه فبمجرد الدخول والضرب بالعصا صرتم فريقين تمشون بينهما، فأنت عندما يكون معك ساطور وضربت به علبة –مثلاً- فتقول: فرقت بها هذه العلبة، فأنت هنا لا تحتاج أن تقول: من أجلها، ولا تحتاج أن تقول: بسببها، وإنما المعنى واضح، فرقت بها أي جعلتها هي الأداة التي يحصل بها هذا الانقسام والانفصال بين أجزاء الشيء الواحد.

فائدة:

يذكر أن معاوية بن أبي سفيان أرسل إليه ملك الروم يشاوره أن يكون هناك تبادل -كما يقال- في بعض الأمور فأرسل له رجلاً طويلاً ورجلاً قوياً -والقصة في محمد بن الحنفية، وقيس بن سعد بن عبادة- فالطويل أعطاه سعد بن قيس بن عبادة سراويله، فلما لبسها بلغت إلى الثديين، وأما القوي فقال له محمد بن الحنفية: تجلس أنت أم أجلس أنا، فجلس فأخذ محمد بن الحنفية بيده فتله بيده، فقال: اجلس أنت وأنا أقوم، فجلس محمد بن الحنفية، فمد الرومي يده، فشده محمد شدة فإذا هو في حجره.

وأرسل ملك الروم لمعاوية أسئلة أيضاً منها: ما هي الأرض التي لم تقع عليها الشمس قط إلا ساعة واحدة؟

فأرسل إلى ابن عباس فقال له: هي الأرض التي كانت في البحر حينما انفلق، قال تعالى: فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ [سورة الشعراء:60] فوقعت عليها الشمس تلك الساعة التي عبر فيها بنو إسرائيل، وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا [سورة طـه:77].

والله أعلم، وصلى الله وسم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه الحاكم (2174) (ج 2 / ص 17) والبيهقي (17373) (ج 8 /ص 329) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2217).

مواد ذات صلة