الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
الآية 106 و112 من سورة المائدة
تاريخ النشر: ١٢ / رمضان / ١٤٢٧
التحميل: 1857
مرات الإستماع: 2349

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي هذه الليلة سنتحدث عن آيتين من سورة المائدة، الأولى: قد يتوقف القارئ في معناها فلا يتبينه.

والثانية: قد تُفهم على غير وجهها.

أما الأولى: فهي قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ۝ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ۝ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:106-108]، ما معنى هذه الآية التي نسمعها ونقرؤها؟.

هذه الآية قال عنها مكي بن أبي طالب والنحاس وجماعة: إنها أصعب آية في القرآن، إعراباً، ومعنى، وحكماً، فما معنى هذه الآية وأنتم تقرءونها؟ من يفسر لنا هذه الآية؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة:106]، يعني: شهادة ما بينكم، الشهادة التي تكون بينكم في حال السفر إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106]، اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:106]، من المسلمين، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106]، إن عُدم المسلمون، كان الإنسان بمكان في بلد في أرض في برية لا يوجد معه إلا كفار، فهنا يجوز أن يشهد شاهدان من الكفار بهذين الشرطين، إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106]، في السفر، وفي الوصية فقط، تجوز شهادة الكفار بهذين الشرطين، لا يشهدون على القضايا الأخرى؛ لأنهم ليسوا بأهل لتحمل الشهادة وأداء الشهادة.

تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ [المائدة:106]، هذا إنسان مات وأوصى، عنده مال، عنده تجارة عنده متاع، ماذا يَصنع به؟ لا يوجد إلا هؤلاء الكفار، فقال لهم: هذا اذهبوا به إلى أهلي، وهذا أعطوه لفلان، وهذا لفلانة، وهذا المال يطلبه فلان، وسددوا بهذا الشيء الفلاني، تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [المائدة:106]، إذا كنا واثقين ولا يوجد أي دلالة على الخيانة نأخذ المال منهم يأخذه أولياء الميت وانتهى الأمر، إذا فيه شك فيُحبسون، أي هؤلاء الذين شهدوا على الوصية من الكفار تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ [المائدة:106]، أيّ صلاة؟ صلاة العصر، لماذا صلاة العصر؟ لأن الحلف بعد العصر أعظم وأشد، ولهذا ذكر النبي ﷺ في الرجل الذي أعطى يمينه أنه حلف بالله بعد العصر كاذباً، هذا أشد، والعصر وقت شريف عظيم، والله أقسم به، وَالْعَصْرِ [العصر:1]، وقال: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، يعني: صلاة العصر، فهؤلاء الذين يحلفون في معارض السيارات الأيمان المُغلظة على كذب، وغِش، هؤلاء ليسوا على خير، حلف بعد العصر على الكذب، تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ [المائدة:106]، لا نشتري به بماذا؟

يحتمل أن يكون به أي بالله، لا نضيع نصيبنا من الله بعرض قليل.

ويحتمل به أي بالشهادة، ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [المائدة:106]، ولو كان المشهود عليه قريبًا، فنحن لا نُحابي، وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ [المائدة:106]، يقومون ويقولون هذا الكلام بعد الصلاة.

فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا [المائدة:107]، لو جاء أهل الميت، وقالوا: لا، نحن وجدنا في الأغراض التي جاءوا بها ورقة كتب فيها بخط الميت أنه ترك كذا وكذا، والشيء الفلاني ليس موجوداً، أين هو؟ قالوا: أبدًا ما أعطانا شيئًا، هذا الذي أعطانا أحضرناه، أبداً، في شيء ناقص هو اتصل علينا بالتلفون، هو أرسل لنا رسالة بالجوال قبل أن يموت، وقال: فيه حزام من ذهب تراه لكِ يا فلانة، وترى فيه عشرة آلاف تراها لفلان في الدين الذي يطالبني به، أين العشرة الآلاف؟، وأين حزام الذهب؟، أحضرتم لنا قدورًا وصحونًا أين الباقي؟، قالوا: ما أعطانا مالا ولا ذهبًا، فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا [المائدة:107]، يعني: يوجد خيانة، فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ [المائدة:107]، وفي القراءة الأخرى المتواترة: من الذين استُحق عليهم ما معنى "استُحق عليهم"، أو "استَحق عليهم الأوليان"؟.

استَحق عليهم يعني الميراث والمال يعني أولياء الميت، استَحق عليهم الأوليان بالميت، أقرب اثنين للميت من الورثة الذين يستحقون هذا المال المجحود.

وبعضهم يقول: استَحق عليهم الإثم، فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ [المائدة:107]، الأوليان بالميت، يقوم اثنان من أولياء الميت فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [المائدة:107]، فالله يُعلل هذا كله وهذا الوقوف بعد صلاة العصر، ذَلِكَ أَدْنَى [المائدة:108]، يعني: أقرب، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا [المائدة:108]، بمجرد أن نقول له: قم احلف، يقوم ويحلف بصدق، "أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا"، يعني: إذا ما أتوا بها على وجهها من البداية، أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108]، نقول لأولياء الميت: قوموا واحلفوا، لاحظوا الآن هذا المعنى، نحن نسمع الآيات هذه ونقرؤها هل فكرنا في هذا، أو أننا نقرأ كأننا نقرأ بلغة أخرى لا نفهمها؟.

ثم انظر أيضاً إلى قضية أخرى انظر كيف احتاط الله لمال المؤمن، هذه الاحتياطات وهذه الشهادة، وهذا يدل على عظم رحمة الله بالمؤمنين، وعنايته بهم، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن أرجى آية في كتاب الله، يعني: آية تُرجِّي المؤمنين برحمة الله وسعة عفوه هي آية الديْن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ [البقرة:282]، يعني: لئلا تضل إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، إلى آخر ما ذكر الله .

كل هذه الاحتياطات من أجل مال قليل أو كثير، قالوا: فالمؤمن أعظم قدراً ومنزلة عند الله من ماله، فإذا كان الله اعتنى بمال المؤمن هذه العناية واحتاط له فالمؤمن أعظم منزلة عند الله من هذا المال فلا يضيعه، فهذه آيات فيها رجاء، هذه نقولها لمن؟ للناس الذين عندهم ذنوب وخائفون ويائسون وقانطون من رحمة الله، ما نقولها للمفرط ونقول له: ازدد تفريطًا، وإلا فهناك آيات أخرى في الوعيد.

هذه الوقفة الأولى في هذه الآية.

والآية الثانية: وهي قوله -تبارك وتعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة:112]، هذه الآية نسمعها ماذا نفهم منها؟، هل يستطيع ربك؟ هل هم يشكون في قدرة الله ؟ الحواريون هم خلاصة أصحاب المسيح الخاصة، صفوة أصحاب المسيح وأتباع المسيح  ويقولون له: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة:112]، فماذا تفهم منها؟

بعض العلماء قالوا: هؤلاء بعض من كان معهم وليس منهم، وهذا خلاف ظاهر القرآن، وهو تكلف، الله يقول: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ [المائدة:112]، وهذا يقول: لا، هذا كان معهم ما كان منهم.

ومن أهل العلم من قال: هؤلاء هم الحواريون في أول أمرهم بداية دخولهم واتباعهم للمسيح، ما كان عندهم فقه كافٍ، كما قال بعض أصحاب محمد ﷺ من حدثاء الإسلام عام الفتح: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، عندما مروا وهم في طريقهم إلى حُنين بعد فتح مكة مروا على المشركين يعلقون أسلحتهم على سِدرة شجرة يتبركون بها، قال مسلمة الفتح أو بعضهم: "يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر، إنها السُّنن، لقد قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة[1]، هؤلاء حدثاء عهد، فما كفرهم النبي ﷺ بهذا.

والأقرب من هذا كله وهو الأرجح، -والله تعالى أعلم- أن المراد أنهم قصدوا بذلك هل يفعل؟، هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة:112]، هل يفعل؟، ما كانوا يشكون في القدرة وإلا كانوا كفاراً، هل يفعل؟، مثلما أقول لك الآن: هل تستطيع أن تذهب معي الآن إلى المكتبة؟، أنت تستطيع لكن هل تفعل؟، هل تستطيع أن تجلس معي بعد الصلاة عشر دقائق؟، هل تفعل؟، هل تستطيع أن تصلي معنا التراويح ثم بعد ذلك نذهب؟، هل تفعل؟، هذا معناها، هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [المائدة:112]، يعني: هل يفعل؟، وفي القراءة الأخرى المتواترة هل تستطيع فتكون الاستطاعة موجهة لعيسى ، هل تستطيع ربَّك، واضح؟، فهذا هو معنى هذه الآية: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [المائدة:112]، ما كانوا يشكون في قدرة الله على إنزال المائدة وإنما قصدوا هل يفعل ربك؟، هل يُنزل علينا؟، هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [المائدة:112]، هل يفعل ربك فينزل علينا مائدة من السماء؟، والله تعالى أعلم.

أسأل الله أن يبارك لنا ولكم في القرآن العظيم، وأن يذكرنا منه ما نُسينا، وأن يعلمنا ما جهلنا، ويرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيه عنا.

وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، برقم (2180)، وأحمد في المسند، برقم (21897)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (5408).

مواد ذات صلة