الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا هو الموضع الرابع والأخير الذي نقف عنده من سورة هود ، فالله في هذه السورة ذكر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من نوح إلى موسى -صلوات الله عليهم أجمعين، وذكر ما جرى لهم من أقوامهم من التكذيب ورد دعوتهم ورميهم بألوان الأباطيل، وما نتج عن ذلك من وقوع العقوبات ونزول المَثُلات بهؤلاء الأمم الذين كذبوا الرسل -عليهم الصلاة والسلام.
ثم بعد هذا قال الله : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، كهذا الأخذ الذي وقع لهؤلاء المجرمين، يأخذ الله كل مجرم ومكذب وظالم.
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود:102-103]، هذا استطراد وحديث عن عذاب الآخرة بعدما ذكر عذاب الدنيا، ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود:103]، أي: اليوم الآخر، وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود:103-105]، يوم عظيم رهيب لا يجترئ فيه أحد على الكلام إلا بإذن الله ، يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود:105-106]، أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من النار.
الزفير هو صوت خروج النفس بقوة بصوت، والشهيق هو استلهام النفس وسحبه بقوة مع صوت من شدة العذاب والمعاناة، لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود:106]، تصور هذا المشهد، ونكّره لشدته لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107]، وقوله سبحانه: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:19-22].
والله ذكر عذابهم في مواضع وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا [فاطر:37]، صُراخ شديد، فزيد فيه حرف الطاء في العبارة عنه "يصطرخون" ما قال: يصرخون، يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]، وذكر الله ألواناً من حال وأوصاف أهل النار -أعاذنا الله وإياكم جميعاً من ذلك، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48].
نحن حينما نشاهد بعض الصور التي تُعرض لأقوام ماتوا من التعذيب في العراق أو في مكان آخر، هذا يُدخل في تنور ثم يخرج وقد شوي لحمه واسود، وهذا قد صُب عليه المواد الحارقة، وآثار الضرب الذي يكسر العظام، وقد هُشمت جمجمته ونحو ذلك، تنقبض النفس ويقشعر البدن ويبقى الإنسان تتراءى له هذه الصورة أياماً طوالاً، فكيف بهذا العذاب يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21]، يجرجرون في النار ويُسحبون فيها، ويُدخل الواحد منهم في النار كما يُدخل الوتد في الحائط؛ ليكون أشد في التعذيب، ضيق وحرارة ونار سوداء مظلمة إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ [المرسلات:32-33]، كأنه إبل سوداء، فالصفرة هنا المراد بها السواد، وليس ذلك في يوم أو يومين، الإنسان قد يُفعل به شيء من ذلك في يوم أو لحظة ثم يموت، ولا يحتمل، أمّا هذا فبلا انقطاع، كما يعيش الإنسان في الدنيا ستين أو سبعين سنة، هذا مليارات السنين ولا ينتهي، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:75]، من الإبلاس والسكون واليأس، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، يتمنون الموت.
كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافيًا | وحسبُ المنايا أنْ يكنّ أمانيا |
فماذا تغني أكلة أكلها الإنسان أو شربة أو متعة استمتع بها ثم يبقى بعد ذلك في مثل هذا العذاب، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، لماذا الخلود؟
الخلود؛ لأن هؤلاء قد فعلوا فعلاً لو مُزج بمياه البحار لكدرها، الشرك، أعظم ذنب وأعظم جرم، يُصرف شكر النعمة في غير من أعطى وأسدى، يخلق ويزرق وتُصرف العبادة لغيره ، وهؤلاء مهما بقوا من الحياة فإنهم مصرون على الكفر أبدًا، ولهذا يقول الله : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، فالإصرار يعاقبون عليه، ولهذا قال النبي ﷺ: القاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟، قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[1]، فيؤاخذ الإنسان على العزم، ولهذا كان عذاب الكفار لا ينقطع أبداً مع أنهم عاشوا كم؟ عشرين سنة، ثلاثين سنة، ستين سنة، ومع ذلك العذاب مستمر، لك أن تُطلق المجال لعقلك ليتخيل مليارات المليارات بلا انقطاع من الأعوام.
ثم إن قوله تعالى هنا في هذه الآية وهو الشاهد الذي من أجله أوردتها خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [هود:107]، وقد قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، فهل معنى ذلك أن عذابهم ينقطع؟.
من أهل العلم من قال: هذا في الموحدين، مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [هود:107]، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير وغيره أن العرب قد تعلق الشيء بزائل والمراد التأبيد، تقول: لا أفعله ما تعاقب الليل والنهار، لا أفعله ما لألأت العُفر بأذنابها، هذا ينقطع وينتهي، لكن المقصود الدوام، ما غرد طائر، ما هبت ريح، وتحركت أغصان، هذا كله له انقضاء لكن يقصدون به الدوام، لا أفعل ذلك ما قامت السموات والأرض مع أنها تُبدل.
ومن أهل العلم من قال: ما دامت السموات والأرض الجديدة، كما قال الحسن البصري -رحمه الله-[2]، ليست هذه، هذه تُبدل، ولكن سموات أخرى وأرض أخرى، يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، فتلك لا تزول ولا تُبدل، والنصوص يفسر بعضها بعضاً، فدلت النصوص على أن الكفار لا يخرجون من النار،وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وهكذا قال: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107]، فهذا التعليق على المشيئة من أهل العلم من قال: إن المراد به أهل التوحيد يخرجون، والأحسن -والله تعالى أعلم- أن يقال: إن هذا الاستثناء إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107]، للتحقيق لا للتعليق على المشيئة، كما قال الله : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27]، وهم داخلوه قطعاً، لكن كل شيء بمشيئته، فهذا تحقيقاً، بل إن من أهل اللغة وهو موجود لا زال عند بعض الإخوان المصريين إلى اليوم، يقول لك: هذا جبل إن شاء الله، وأنا مُعلم في المدرسة الفلانية إن شاء الله، وهذه سيارتي إن شاء الله، وهي سيارته قطعاً، فهذا ليس للتعليق وإنما للتحقيق، وهو وجه عند بعض أهل اللغة، لكن هذا تحقيقاً لا تعليقاً.
ومن أهل العلم من قال غير ذلك، لكن لا ينقطع عذاب أهل النار، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107-108]، يقال في السموات والأرض كما سبق، إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108]، تحقيقاً لا تعليقاً، ومن أهل العلم من قال كالحسن البصري: إن ذلك إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108]، باعتبار المدة التي جلسها بعض المعذبين من أهل التوحيد في النار فاستُثني ذلك.
والقول بأن ذلك للتحقيق أحسن من هذا؛ لأن الكلام على البقاء الدائم في المستقبل، مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود: 108].
ومن أهل العلم من قال: إن أهل الجنة لا يقومون فيها بذاتهم، يبقون، وبقاؤهم ليس ذاتيًّا، وإنما بإقامة الله لهم وبتخليده إياهم، فهذا هو المراد، ونعيم أهل الجنة لا ينقطع أبداً، وقد جاء في الحديث في الصحيحين: يجاء بالموت يوم القيامة، كأنه كبش أملح - زاد أبو كريب: فيوقف بين الجنة والنار، واتفقا في باقي الحديث-فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، قال: ثم قرأ رسول الله ﷺ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] وأشار بيده إلى الدنيا[3].
وفي الصحيح: أنه ينادي منادٍ إن لكم أن تعيشوا فيها أبداً فلا تموتوا، وأن تشبوا فلا تهرموا، وأن تصحوا فلا تمرضوا، وأن تُنعّموا فلا تشقوا أبدا[4]، أربعة أشياء هي المطالب التي يطلبها الآدميون، البقاء من غير الموت؛ لأن الموت هو المنغص الأساسي للراحة والاجتماع واللذة والنعيم، نهايته الموت، يسكن أحسن القصور والنهاية خرقة بيضاء، يُدس في حُفرة، ثم ماذا؟.
لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ | نغّص الموتُ ذا الغِنى والفقيرا |
لا تموتوا أبدًا، وتشبوا فلا تهرموا أبدا، يستمتع الإنسان بأيام الشباب.
إنّ شرخَ الشبابِ والشعرَ الأس | ودَ ما لم يُعاصَ كان جنونا |
ثم بعد ذلك تبدأ شيبة واحدة، ثم تفتك بالشعر فيتحول إلى أبيض، الشيب: لا تشيبوا، والصحة: فلا تمرضوا، الدنيا هذه دار الأمراض إذا أخطأه هذا أصابه هذا، وكلٌّ بقدر، الأمراض تنتاشهم، والنعيم: فلا يشقوا أبدا، نحن نشقى بالحر ونشقى بالتعب، ونشقى بالمرض، ونشقى بالأعباء التي نتحملها، ونشقى بالهموم والأنكاد والأكدار وسوء العلاقات مع فلان وعلان، إلى غير ذلك.
الجنة نعيم كامل فهذا النعيم يحتاج إلى شيء من العمل والطاعة ومجاهدة النفس، صلاة، قيام، صيام، كف للسان، كف للجوارح عما حرم الله، هي حياة قصيرة ثم بعد ذلك يُفضي الإنسان إلى النعيم الهائل الدائم، فمبخوس حظه من آثر النعيم العاجل على النعيم الباقي، وماذا تساوي معصية أو لذة تنقضي بلحظة؟!
فالعاقل بحاجة إلى بصر وتفكير، ونحن في وقتٍ النفوس أقرب ما تكون فيه إلى الله والطاعة والعبادة فيُستغل ذلك في ترويضها على العمل الصالح دائماً.
أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم.
وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، برقم (31)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، برقم (2888).
- انظر: تفسير ابن كثير (4/ 351).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ [مريم:39]، برقم (4730)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2849).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوام نعيم أهل الجنة وقوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، برقم (2837).