الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:4-8]، قوله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ [الإسراء:4]، القضاء هو الفراغ من الشيء، هذا في أصل معناه، وهو في كل شيء بحسبه.
والمراد هنا -والله تعالى أعلم- أن الله فرغ إلى بني إسرائيل، بمعنى أنه قضى وحكم وأعلمهم وأوحى إليهم فيما أنزل عليهم في كتابهم وهو التوراة، لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4]، أعلمهم وأخبرهم بوقوع هذا الإفساد الذي قدره الله كوناً أنهم يفسدون في الأرض مرتين، لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4]، وفي قراءة أُبي وهي ليست متواترة: لتَفْسُدنّ في الأرض مرتين يعني: يحصل لكم الفساد والإعراض عن العمل بالتوراة.
والقراءة المتواترة: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4]، متضمنة لهذه القراءة -أعني قراءة أُبي، فإنهم إذا أفسدوا في الأرض مرتين فإن ذلك يتضمن أنهم قد فسدوا في أنفسهم، فإن المُفسد يكون فاسداً في حاله ونفسه -في خاصته، ثم يكون ذلك منه متعدياً فيحصل منه الإفساد للآخرين.
لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:4]، أي: أنهم يحصل منهم العلو في الأرض بغير الحق، وهذا الإفساد "لتُفسِدن أو لتَفسُدن في الأرض مرتين"، متى وقع ذلك منهم؟
من المفسرين من يقول: الإفساد الأول هو قتل أشعيا.
ومنهم من يقول: هو حبس أرميا.
ومنهم من يقول: مخالفة أحكام التوراة.
ومنهم من يقول قتل زكريا، وكل هذا من الإسرائيليات التي لم يدل عليها دليل لا في الكتاب ولا في السنة.
وأما الإفساد الثاني الذي حصل منهم فبعضهم يقول: هو قتل يحيى ، قتله أحد ملوكهم، كذلك أيضاً ما عزموا من قتل المسيح ، فرفعه الله -تبارك وتعالى- إليه.
المقصود أن الله لم يُبين لنا هذا الإفساد، أخبرنا أنه سيقع منهم إفساد في الأرض مرتين، قال الله : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا [الإسراء:5]، يعني: الإفساد الأول، بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5]، أصحاب قوة، وتمكن، وبطش، ولم يحدد الله هؤلاء العباد.
بعضهم يقول: في المرة الأولى بعث الله عليهم جالوت الجزري، وهو من أهل الجزيرة الواقعة بين النهرين دجلة والفرات، حتى أظهرهم الله بعد ذلك بعد أن تابوا وصلحت أحوالهم، أظهرهم الله عليه، فقتله داود في القصة المعروفة: إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، إلى أن قال: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:251].
وبعضهم يقول: إن الذي جاءهم في المرة الأولى سنجاريب.
وبعضهم يقول: سنحاريب بالحاء وهو ملك أيضاً من ملوك العراق في الموصل.
وبعضهم يقول: هؤلاء العباد هم من أهل فارس.
وبعضهم يقول: هؤلاء المقصود بهم بُخْتُنصَّر، ومن معه ممن جاءوا من بابل، فقد قتلوا في بني إسرائيل قتلاً ذريعاً حتى إنه لم يبقَ أحد يحفظ التوراة، ثم بعد ذلك أخذوا كثيراً من أبناء أشرافهم من أبناء الملوك، وأبناء الأنبياء، وذهبوا بهم إلى العراق.
ويقال: إنه كان ممن أخذوا دانيال ووضعوه في أرض العراق، ويقال: هو الذي وجده المسلمون حينما فتحوا بيت المال في المدائن، فوجدوا رجلاً مُسجى لم يتغير منه إلا شعرات في قفاه، وأنهم كتبوا إلى عمر يسألونه عنه، وقد كان الفرس قد رأوا مما يُظهر الله على يده من الكرامات، كانوا إذا أجدبوا خرجوا به يستسقون، هكذا قالوا، وإن عمر أمر المسلمين أن يحفروا قبوراً متعددة في الليل ثم يضعوه في واحد منها؛ من أجل أن يُغيب فلا يتعلق الناس به[1].
الحاصل أنه كان هذا في المرة الأولى، بعث الله إليهم هؤلاء العباد.
وفي المرة الثانية يذكرون أيضاً أشياء من هذا القبيل، وكل ذلك مما لا دليل عليه، ولو كان فيه فائدة لذكره الله لهذه الأمة، فإن الأصل في هذا الباب أن ما أبهمه القرآن بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا [الإسراء:5]، لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4]، كل هذا لم يُحدد، فكل ما أبهمه القرآن فإن ذلك لعدم جدواه، وعدم فائدته.
وقد كتب بعض العلماء كتابات فيما يُسمى بالمبهمات في القرآن، وتتبعوا هذه الأشياء، وأتعبوا أنفسهم حتى إن بعضهم ذكر أنه بقي أربع عشرة سنة مثل عكرمة يبحث عمن خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت، من هو؟
فمثل هذا لا فائدة فيه، والعبرة في هذه الآيات هو ما وجه الله إليه هذه الأمة، فإن هذا الفساد الذي وقع، أو الإفساد الذي وقع من بني إسرائيل -مع أن الله اصطفاهم على عالم زمانهم- كان سبباً لتسليط عدوهم الكافر عليهم، وبطشه بهم، ووقع عليهم ما وقع من القتل الذريع والتشريد والسبي، وأخذ الأموال، إلى غير ذلك مما حل بساحتهم.
والشاهد هنا فيما يتصل بالحديث عن هذه الآية هو أن الكثير من المتحدثين في هذا العصر يقولون: الإفساد الأول قد مضى.
والإفساد الثاني: هو ما يفعله الآن تلك العصابات من شُذاذ الآفاق الذين قد تجمعوا في فلسطين، وصاروا يفسدون في الأرض ويفعلون ما تعلمون.
فالشاهد أنهم يقولون: هذا هو الإفساد الثاني لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4]، الأول مضى وسلط الله عليهم من سلط بُخْتنصر أو غير بُخْتنصر، والإفساد الثاني هو هذا، وهذا الكلام فيه نظر، كل من وقفت عليه من المحققين من المفسرين منهم من يُعرض عن تحديد هذا ويقول: لا فائدة فيه والله لم يُحدده، ويقولون: إنما ورد ذلك في الإسرائيليات.
ومنهم من يذكر الأقوال ثم بعد ذلك يقول: الله أعلم بالمراد بذلك، لكن كل هؤلاء من المفسرين يقولون بأن هذين الإفسادين وذلك التسليط الأول والثاني كل ذلك قد مضى، لكن يقفون عند قوله -تبارك وتعالى- بعده: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8]، وهذا الذي ينبغي أن ينظر فيه المسلم، لا أن يشتغل بتحديد الإفساد الأول وتحديد الإفساد الثاني، لكن الله قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، قالوا: فعادوا بعد ذلك فسلط عليهم محمداً ﷺ فغزا خيبر، وقتل قريظة، وأجلى بني النضير، وأجلى بني قينقاع، وهكذا أيضاً كل ما وقع منهم من إفساد سلط الله عليهم من عباده ما يحصل به إذاقتهم الخوف والقتل والسبي وما إلى ذلك من التسليط.
فالشاهد أن الإنسان ينبغي أن لا يُنزل النصوص بهذه الطريقة إذا نظر إلى حديث أو آية تتحدث عن قضية معينة يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه[2]، أو بعض الأحاديث الواردة في ذكر أوصاف معينة لأحداث أو نحو ذلك ثم يشتغل بعد ذلك يقول: المراد بهذا الرجل هو فلان، والمراد بهؤلاء القوم هم بنو فلان وما أشبه ذلك، فهذا مما يصعب غالباً، وإنما يعتبر الإنسان بما ذُكر، ويحذر من الوقوع في مثل هذه الأمور التي وصفها الشارع، أما الاشتغال بأن هذا هو هذا، وتنزيل هذه النصوص عليه، وأحياناً يأتون بأحاديث منكرة وأحاديث باطلة، وأحاديث مكذوبة، كما قالوا في الحرب التي وقعت في الكويت لما ادعى من ادعى بأنه من أهل البيت ثم نزلوا عليه بعض الأحاديث المكذوبة، وأن هذا الرجل هو المذكور بالحديث الفلاني، ثم بعد ذلك رأوا عاقبته ونهايته كيف آلت وصارت، وذهبت تلك الأقوال ونسيها الناس، وتلاشت، وصارت سراباً.
فالإفساد الأول والثاني الله لم يُحدده، والذين سُلطوا عليهم الله لم يحددهم، وعامة المفسرين يقولون بأن ذلك قد مضى، ولكن هؤلاء قد توعدهم الله بقوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8]، وهذه سنة الله في هؤلاء.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يعلمنا من كتابه ما جهلنا، وأن يذكرنا منه ما نُسينا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه عنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: سيرة ابن اسحاق (ص:66)، وسيرة ابن هشام (1/ 30)، وقصص الأنبياء لابن كثير (2/ 333)، والبداية والنهاية لابن كثير (7/ 102).
- أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان، برقم (7117)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، برقم (2910).