الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- في سورة الحج: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج:52-53]، هذه الآية من نظر في كثير من كتب التفسير وجد أن الكثيرين منهم يذكرون في معنى هذه الآية قصة الغرانيق، وذلك أن النبي ﷺ فيما تذكر تلك الرواية: "لما اشتد عليه تكذيب قومه وردهم لدعوته ﷺ تمنى أن لا ينزل عليه شيء يكون سبباً لتنفير قومه من الإسلام، فبينما هو ﷺ يقرأ في سورة النجم، قرأ قوله -تبارك وتعالى- على ملأ من المسلمين والمشركين: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20]، فجرى على لسانه أو ألقى الشيطان: تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتها لتُرتجى، ففرح المشركون بذلك، ولما بلغ النبي ﷺ آية السجدة في آخرها سجد، وسجد جميع من حضر من المسلمين والمشركين"[1]، هذه الرواية كما قال إمام الأئمة ابن خزيمة -رحمه الله: إنها من وضع الزنادقة[2]، وهي كذب، لم يقع ذلك من رسول الله ﷺ وحاشاه، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- أخبر أنه ﷺ لا ينطق عن الهوى، وأخبر أيضاً عن هذا القرآن بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأخبر -تبارك وتعالى- عن حفظه لهذا القرآن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، كما بين أن الشيطان لا يُسلط على أولياء الله ، فعباد الله المخلصين ليس للشيطان عليهم سلطان، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [النحل:100]، فكيف يُسلط الشيطان على النبي ﷺ في مثل هذه الحالات وهي قراءة وحي الله على الناس والنبي ﷺ قد عصمه الله في أمر التبليغ؟.
الحاصل أن هذه الرواية باطلة، لا أساس لها من الصحة، وقد صنف بعض العلماء كتباً خاصة في إبطالها وردها من أصلها.
بعد ذلك أقول: ما المراد بهذه الآية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، ما معنى "تمنى"؟.
"تمنى" من أهل العلم من فسر ذلك بالتمني، والتمني هو أن تتطلع النفس إلى شيء، وتطمح إلى حصوله، فهذا بمعنى الأمنية المعروفة، "إذا تمنى" يعني تمنى هداية قومه، فيكون الله -تبارك وتعالى- قد قدر لهؤلاء في سابق علمه أنهم لا يؤمنون، أو أن بعضهم يؤمن، وبعضهم لا يؤمن، فتكون أمنية الرسول ﷺ الذي بعثه الله إلى قومه زائدة ومتعدية على ما قدره الله ، يتمنى هداية هؤلاء جميعاً، فيكون الشيطان قد ألقى ذلك إليه فصارت أمنيته أكثر مما قدره الله لهم، وقد علم الله، وقضى، وقدر أنهم لا يؤمنون، أو أن الأمر لا يكون كما تمناه النبي ﷺ، هذا قاله بعض أهل العلم، وعلى هذا التفسير ليس هناك إشكال في معنى هذه الآية.
والمعنى الآخر: وهو أن معنى "تمنى" أي: قرأ، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وهذا الذي عليه عامة المفسرين من السلف والخلف، هذا قول الجماهير، لم يفسروها بالتمني، بالمعنى الأول، وإنما فسروها بالقراءة، "تمنى" بمعنى قرأ، كما قال حسان يمدح عثمان -ا:
تمنى كتابَ الله أولَ ليلِهِ | وآخرَه لاقَى حِمام المقادرِ |
وقول الآخر:
تمنى كتابَ الله آخرَ ليلِهِ | تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ |
تمنى كتاب الله: يعني قرأ كتاب الله في أول الليل، ثم في آخر الليل قُتل، هذا عثمان ، وفي البيت الآخر:
تمنى كتاب الله آخر ليلِه، في آخر الليل، تمنِّيَ داودَ، أي: قراءة داود كتاب الله الزبور، على رِسل، يعني: على تؤدة.
فالتمني يأتي بمعنى القراءة وهو أحد القولين في تفسير قوله -تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، يعني: إلا قراءة، وإن كان هذا المعنى ليس هو المشهور في تفسير آية البقرة.
فإذا فُسر التمني بالقراءة إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، فمنهم من قال: يُجري الشيطان وهو يقرأ على لسانه مثل هذه: تلك الغرانيق العُلى، والغرانيق جمع غرنوق وهو الطائر المعروف طائر أبيض، يزعمون أن هذه الأصنام تتشكل بصور أرواح على صورة هذا الطائر ثم تصعد إلى السماء وتشفع لعابديها، تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتها لتُرتجى.
فبعضهم قال: إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52]، أي: قرأ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، يعني في قراءته مثل هذا الكلام، وهذا المعنى باطل، وهو الذي نبهت عليه أولاً، ولا يمكن أن يقع ذلك، وذكرنا النصوص الدالة على هذا، ومما يدل على بطلانه من هذه الآية لو فرضنا أن ذلك وقع، وأنه كما يزعمون تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتها لتُرتجى، ماذا قال الله -تبارك وتعالى- لما ذكر اللات والعُزى في سورة النجم: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى [النجم:19-21]، إلى أن قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا [النجم:23]، فأبطلها الله -تبارك وتعالى- ولم يجعل لها شيئاً من حقيقة الإلهية أو النفع أو الضر، فكيف يكون الكلام في مدحها وإطرائها في هذه الآية: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19]، ثم يقولون: إنه قال: تلك الغرانيق العُلى، ثم يقول: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا [النجم:23].
فهذا كلام متناقض، فهذا مما يُبطل هذا القول، بمعنى أن هؤلاء الكفار لو أنهم سمعوا تلك الغرانيق العُلى سيسمعون بعده: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا [النجم:23]، سيسمعون ذمها بعد هذه، فكيف يفرحون ويسجدون، والكلام متضمن لذمها؟، فهذا القول باطل تدل على بطلانه النصوص، والرواية باطلة أصلاً، والآية فيها قرينة تدل على سقوطه وبطلانه.
وبعضهم فسر إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52]، قال: نعم هي بمعنى قرأ، لكن ماذا ألقى الشيطان؟ قالوا: يُلقي في قراءته من الخواطر والوساوس والشبهات في قلوب السامعين ما يصرف بعضهم عن قبوله، وذلك من تلبيس الشيطان، لا أنهم يسمعون شيئاً، أو أن ذلك يجري على لسان الرسول ﷺ، لكن إذا قرأ كتاب الله فإن الشيطان يُلقي في قلوب السامعين ما قد يصرفهم عنه من الشبه والتلبيس والوساوس وما إلى ذلك، وهذا معنى جيد، وعلى هذا التفسير لا إشكال في معنى الآية إطلاقاً، وهذا الذي اختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وأطال في تقريره، ومن شاء فليراجع كلامه فإنه جيد.
ومن أهل العلم من فسر "تمنى" بمعنى قال، إلا إذا قال -يعني: ليس قراءة القرآن، ألقى الشيطان في قوله.
ومنهم من فسر "تمنى" بمعنى حدّث غير القرآن.
ومنهم من قال: بمعنى قرأ، وليس ذلك مما يجري على لسان الرسول ﷺ وهو يقرأ، ولكن الشيطان يُلقيه في أسماعهم فيظنون أن النبي ﷺ قد قاله، ولم يقله، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، يعني في قراءته، ألقى في أسماع هؤلاء فظنوا أن النبي ﷺ قرأه، وهؤلاء قالوا هذا توقياً لما سبق، كيف يرِد مثل هذا على كلام الله ، والنبي ﷺ معصوم، قالوا: يلقيه في أسماعهم ولم يجرِ ذلك على لسان النبي ﷺ.
المقصود أو الخلاصة أن القول بأن النبي ﷺ جرى على لسانه: تلك الغرانيق العُلى في هذه الرواية قصة الغرانيق فهذا باطل من أساسه، لا يجوز لأحد أن يعتقده بحال من الأحوال، ولا يجوز لأحد أن يُورد ذلك على سبيل التقرير في كتاب في التفسير أو في غيره.
بعد ذلك تأتي هذه المعاني متفاوتة في القوة، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، فيما تمناه، فجمحت أمنيته وذهب بعيداً فيما تمناه، وقد قدر الله أمراً دون ذلك، وأحسن من هذا أن يُفسر إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52]، أي: قرأ، وهو الأقرب لظاهر الآية، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، أي: في قلوب بعض السامعين بعض الشبهات ونحو ذلك، ألقاه الشيطان فينسخه الله ويبطله.
وكذلك أيضاً يقرب منه وإن كان دونه في القوة قول من قال: "تمنى" بمعنى حدّث، أو قال، كما هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.
هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبارك لنا ولكم في القرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه الطبراني في الكبير، برقم (5096)، وبرقم (8316)، وقد بين الشيخ الألباني بطلان هذه القصة بجميع رواياتها وكتب في ذلك رسالة مستقلة بعنوان: (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق).
- انظر: فتح القدير للشوكاني (3/ 546)، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي (5/ 287)، ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (ص: 162).