الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- في أول سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:2-3].
قوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2]، قدم "الزانية" هنا، قال بعض أهل العلم: لأن الزنا إنما يكون غالباً مبدؤه من المرأة، فهي التي تُجرِّئ الرجل بحركاتها ونظراتها ولباسها وكلامها وتبرجها وغنجها وما أشبه ذلك، فيميل إليها من في قلبه مرض، وهذا من أحسن الأقوال، فالرجل لا يجترئ عادة على المرأة إلا إذا رأى منها رخاوة وميلاً وإصغاءً، فيُصغي إليها عندئذ.
ومن أهل العلم من يقول: قدمها؛ لأن شهوة النساء أكثر من شهوة الرجال، وهذا قول باطل لا أساس له من الصحة.
ومن أهل العلم من يقول غير ذلك، الله قال في السارق والسارقة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، فقدم الرجل السارق، ربما لأن السرقة تحتاج إلى جراءة وشجاعة قلب، فيكون ذلك في الرجال أكثر.
قال: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وقال: "كل واحد منهما"؛ لئلا يتوهم أن المقصود أن هذه المائة على التنصيف، مائة منُصَّفة، ثم قال الله وهو الشاهد في الآية الأولى هذه: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، الرأفة رحمة رقيقة، والرأفة والرحمة تقعان في القلب من غير تطلّب، من غير قصد، فالإنسان قد يرى المحدود يقام عليه الحد فيقع في قلبه شيء من رحمته، فهل يكون مؤاخذاً بذلك، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فوقوع هذه الأمور في قلب الإنسان أمر لا يحصل بإرادته، وهناك قاعدة هي أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلفين في أمر لا يكون تحت مقدورهم فإنه ينصرف إلى سببه أو أثره، فهنا نهى الله عن أن تأخذهم رأفة في هذا المحدود، والرأفة شيء يقع في القلب من غير إرادة، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فإذا وقعت رحمة ورأفة في قلب الإنسان حينما يشاهد آخر يُرجم أو يُجلد، هل يقال: إنه يأثم؟ وهل هذا من ضعف إيمانه؟
الجواب: لا، إذاً ما الجواب عن هذا الإشكال الذي لربما يفهم القارئ من الآية أن وقوع الرأفة محرم بحد ذاته؟.
الجواب أن يقال: إن الرأفة إذا وقعت في قلب الإنسان فإن ذلك لا يكون بيده، وإنما ينصرف هذا الخطاب ويتوجه إلى الأثر، فما هو الأثر هنا؟ أثر هذه الرأفة إلغاء الحد، أو تخفيفه، إما تخفيفه بالعدد لا يُجلد مائة وإنما يُكتفى ببعض ذلك، أو يكون ذلك بالتخفيف في الضرب، يُضرب ضرباً يسيراً، فهذا كله داخل في هذا النهي.
وأما القسم الثاني وهو ما يتوجه فيه الخطاب إلى السبب فذلك كما يقال في شروط التوبة، فمن شروطها الندم، والندم يقع في قلب الإنسان من غير إرادة، وقد يقع في قلب الإنسان ويحاول دفعه فلا يستطيع، فالإنسان قد يخسر في تجارة ويندم غاية الندم ويحاول مدافعة ذلك ويعجز، فيقال في مثل هذا في طلب الندم بالنسبة للتوبة: يعود الخطاب ويتوجه إلى سببه، فينظر إلى الأمور التي تجلب الندم فيتذكر أنه عصى الله ، وقارف ما لا يليق فيكون ذلك سبباً جالباً لندمه.
ثم قال: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، الطائفة تصدق على الواحد فما فوق، ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله- وجماعة من أهل العلم بأن ذلك يُكتفى فيه بالواحد، يحصل به المقصود، وبعض السلف قال: لابد من اثنين؛ لأنه أقل الشهادة، وبعضهم قال: لابد من ثلاثة؛ لأنه أقل الجمع، وبعضهم يقال: لابد من أربعة؛ لأن ذلك يتعلق بحد في الفاحشة، والشهادة تكون فيها بأربعة، وهذا استحسنه ابن جرير ولكنه رجح القول الأول، وهو أنه يكفي في ذلك واحد، وبعضهم قال: لابد من خمسة، إلى غير ذلك، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "إن المنكر إذا ظهر فلابد من ظهور الأدب والحد"[1]، ولذلك يقال: إن هذ الطائفة تحضر لأمرين:
الأمر الأول: هو من أجل أن ترتدع هذه الطائفة، يرتدع الناس إذا رأوا عاقبة هذه الفواحش فينكفون وينزجرون.
والأمر الثاني: هو أن ذلك أنكى وأشد، يعني: لربما يحب الإنسان أن يُجلد ألف جلدة لكن لا يراه أحد، على أن يُجلد خمساً أو عشراً بحضرة الناس، فالشاهد أنه لابد من إظهار هذه الحدود، ولا تكون في مكان مغلق.
ثم قال الله : الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، قد يُفهم من ظاهر هذه الآية أن الزاني يجوز له أن يتزوج المرأة المشركة، وأن المرأة الزانية المسلمة يجوز للمشرك أن يتزوجها، مع أن الله قال: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، وقال: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، فما هو المراد من قوله -تبارك وتعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً؟ [النور:3].
يتبين ذلك بتحديد المراد بالنكاح هنا، النكاح يأتي لثلاثة معانٍ، يأتي لمعنيين ناقصين، ويأتي لمعنى ثالث أكمل منهما، يأتي النكاح بمعنى الوطء، ويأتي النكاح بمعنى العقد:فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ [النساء:25]، ويأتي بمجموع الأمرين، يعني: بمعنى العقد الصحيح مع الوطء: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، عقد صحيح ولا بد من أن يطأها من أجل أن تحل للزوج الأول، فهنا ما المراد بقوله: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً؟ [النور:3].
من أهل العلم من فسر النكاح هنا بالوطء، فقالوا: إنه لا يقع إلا على أمثاله وأشكاله، فهو إما أن يقع على امرأة تعتقد تحريم الزنا ولكنها لا تمتثل فهي زانية، أو يقع على امرأة تستحل هذه الفاحشة فهي مشركة، ولا يمكن أن يقع على امرأة عفيفة باختيارها وإرادتها، الطيور على أشكالها تقع، هذا إذا فُسر بالوطء، وإذا فُسر النكاح بالزواج بالعقد فمن أهل العلم من قال: إن ذلك قد نُسخ، كما قاله ابن عمر وجماعة من السلف ، نُسخ بقوله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، وهذا فيه بُعد، والأصل أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد بذلك هو خصوص في المعنى، وذلك أن أبا مرثد استأذن النبي ﷺ أن ينكح عَناقاً، وهي امرأة بغيّ من نساء أهل مكة، وقد دعته إلى نفسها فأبى بعد أن أسلم، وكان يحمل الأُسارى من مكة إلى المدينة، ثم استأذن النبي ﷺ في التزوج منها"[2].
ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك في المحدود، كما يقوله الحسن البصري -رحمه الله، يعني: من أُقيم عليه الحد فلا يتزوج إلا زانية أو مشركة، وكذلك المرأة إذا كانت محدودة.
وبعض أهل العلم يقول: هذا فيمن لم يتب، لا يجوز تزوج البغايا، ولا الرجل الفاجر، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر في معناها كلاماً جيداً فقال: "إن الله أمر بالعفاف وبنكاح العفائف، وهذا من الكفاءة المطلوبة في النكاح، فإذا لم يمتثل العبد مع اعتقاده بوجوب ذلك ولزومه، وتزوج امرأة غير عفيفة فإن النكاح باطل، وقد اشترط الإمام أحمد -رحمه الله- الكفاءة في العفاف، فهو يواقعها بالزنا لا ينكح إلا زانية، وإن كان لا يمتثل أحكام الله أو هي لا تمتثل فهي مشركة أو مشركة، وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، فعلى تفسير النكاح بالوطء حُرم الزنا على المؤمنين، وعلى تفسيره بالتزوج "وحُرم ذلك" أي التزوج من الزانية حُرم على المؤمنين"[3]، وأما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فذكر فيها كلاماً مفصلاً وخلاصته: أن الله نهى ومنع من معاشرة أهل المنكر فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، والزوج هو العشير، وأعظم المعاشرة ما يكون بين الزوجين، فالرجل الذي يرضى بأن يكون مع امرأة تزني أو العكس المرأة التي ترضى البقاء مع رجل يفجر ويزني لها حكمه.
وجيء لعمر بن العزيز -رحمه الله- بأناس قد شربوا الخمر وفيهم صائم لم يشرب، فأمر بجلدهم جميعاً، فقيل: هذا صائم، فقال: الله يقول: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140][4].
فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "المرأة التي ترضى أن تبقى مع رجل زانٍ لم يتب لها حكمه"، ثم ذكر أموراً أخرى، قال: "العادة أن الرجل الذي يزني أنه لا يغار، تنعدم غيرته، وتذهب وتتلاشى، ومن ثَمّ فقد تُقارف امرأته ما لا يليق، ولا ينهاها، ولا يغار عليها، فيكون سبباً لتضييعها، أضف إلى ذلك أن المرأة تتحرك نوازعها من هذا الرجل الذي يزني فيكون عندها دافع وداعٍ للانتقام منه، فإذا لم يكن عندها خوف من الله ووازع فإنها قد تكافئه بهذا الفعل، فتفعل فعله نكاية به"، وهذا كلام له وجه قوي من النظر، والله تعالى أعلم.
والمقصود أن هذه الآية لا يُفهم من ظاهرها أن المرأة المسلمة إذا كانت زانية أنه يجوز لها أن تتزوج أحداً من المشركين، ولا يُفهم من هذا أن الرجل الزاني من المسلمين يجوز له أن يتزوج امرأة مشركة، وإنما يفسر بما ذكرت، إذا فُسر بالوطء فيقال: هو لا يقع إلا على من تشاكله، إما لأنها لا تمتثل مع اعتقاد تحريم الزنا فهي زانية، أو لأنها لا تعترف بالحكم أصلاً فهي مشركة، وإذا فسرناه بالعقد والزواج فيقال عندئذ بأن الله أمر بالعفاف ونكاح العفيفات، فمن اعتقد ذلك ولزمه ديانة، ولكنه لم يقف عنده امتثالاً فإنه يكون معاشراً بالزنا، وإذا كان لا يعترف بهذه الأحكام أصلاً ولا يعبأ بها فهو مشرك ومن ثَمّ فيصدق عليه قوله تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، أي: التزوج من الزواني، وكذلك تزوج العفيفات من الزناة.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 476)، ومجموع الفتاوى (28/ 205).
- تفسير البغوي (6/ 9).
- انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 65).
- انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 473)، ومختصر الفتاوى المصرية (ص: 504).