السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
الآية 35 من سورة النور
تاريخ النشر: ١٥ / رمضان / ١٤٢٨
التحميل: 2055
مرات الإستماع: 2908

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35]، كيف تفهم هذه الآية؟.

كلام المفسرين من السلف فمن بعدهم في هذه الآية كثير، وأقاويلهم متنوعة، ويمكن أن أفسرها بتفسير يقرب إلى الأفهام، ويجمع كثيراً مما تفرق في أقوالهم، اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، النور الذي يُنسب إلى الله قسمان:

الأول: هو من قبيل الصفة، ولذلك فإن من أسمائه -تبارك وتعالى- النور، ومن أوصافه أيضاً النور، وهذا النوع هو المذكور في قوله : وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:69]، وذلك حينما يأتي الله لفصل الخطاب يوم القيامة، فهذا النور الذي هو صفته، والنبي ﷺ حينما سُئل: هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً[1]، وفي بعض الروايات: نور أنّى أراه[2].

فمن أهل العلم من فسر هذا بأن المقصود به الحجاب، كما قال النبي ﷺ: حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[3]، فيكون ذلك الذي رآه النبي ﷺ هو الحجاب، فقال: نور أنّى أراه، أو رأيت نوراً، فالنبي ﷺ لم يرَ ربه حينما عُرج به إلى السماء، هذا هو النوع الأول الذي يُنسب إلى الله وهو صفته ، غير مخلوق، نور ليس بمخلوق، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:69].

والنوع الثاني: هو النور المخلوق، كما نقول: هذه أرض الله، وهذه سماؤه، وهذه نعمه وأرزاقه، وهؤلاء خلقه، فهذه النسبة في هذه الأمور جميعاً هي نسبة خلق، ولهذا قال بعض السلف: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، بعضهم فسره بالنور المشاهد، أي: منوِّر السموات والأرض، وقول من قال بأن الله هو مدبر أفلاكها بما فيها الشمس والقمر والنجوم والكواكب وهذه النيّرات فهذا يرجع إلى هذا، أي: أن الله منور السموات والأرض، اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، فما نراه من نور القمر ونور الكواكب والنجوم ونور الشمس هذا كله نورٌ خلقه الله  ودبره لحكمة بالغة لتقوم معايش الناس، فهذه إضافة خلق، فالله خالق هذا النور، وهكذا من السلف من فسره بأمر معنوي، اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ النور:35، أي: الهادي، وهذا قال به طوائف كثيرة من السلف، هادي أهل السموات والأرض، فسمى هدايته بالنور، والله سمى الوحي بذلك قال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، سماه روحاً؛ لأنه لا حياة للأرواح إلا به، وسماه نوراً أيضاً قال: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وسمى الهدى بالنور اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]، فالكفر ظلمات والهدى نور، ولهذا في سورة النور لما ذكر الله مَثَل أعمال الكافرين وصفتها وحالها قال: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، فهذه أعمال الكفار كما هو صريح في هذه الآية، فنظروا إلى هذا المعنى وإلى ما ورد في الآيات الأخرى وقالوا: من عادة القرآن أنه يقابل بين الأشياء، بين أهل الجنة وأهل النار، أهل الطاعة وأهل المعصية، أهل الهدى وأهل الضلال، فقالوا: لما ذكر أهل الضلال بعده وأعمالهم، وأنها كظلمات فهذا النور الذي ذكره الله هنا هو بمعنى الهداية.

إذن حينما يقول الله : اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، فيمكن أن نجمع بين هذه الأقوال ونقول: الله نورها بالنورين: النور الحسي المشاهد الذي لا قِوام لحياة الناس إلا به، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ [القصص:71]، فالله قدر معايش الناس وأخبر أنه جعل النهار معاشًا، وقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وهي القمر وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [الإسراء:12]، فجعل الشمس مبصرة؛ لنبتغي المعايش، وتُحصل الأقوات والأرزاق، وينطلق الناس في هذه الحياة لمصالحهم ومنافعهم، فهذا هو النور الحسي، اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، أي: منور هذه السموات بهذا النور المخلوق الذي نشاهده، وكذلك هو منور السموات والأرض بالنور المعنوي وهو نور الوحي والهدى الذي لا تكون لهم حياة حقيقية وهي الحياة الكريمة التي يحصل معها السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة إلا بالنور الآخر وهو نور الوحي فينقلهم من الحياة البهيمية إلى الحياة الآدمية الكريمة التي تعيش على هدى الله ، اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35].

ثم قال: مَثَلُ نُورِهِ [النور:35]، الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ولهذا قال بعض السلف: "مَثَلُ نُورِهِ [النور:35]، أي: مثل نور الله كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35]، مثل نور الله في قلب العبد المؤمن"[4]، الهدى، الإيمان، الوحي، وبعضهم يقول: النبي ﷺ.

وبعضهم يقول: إن الضمير يرجع إلى غير مذكور، مَثَلُ نُورِهِ [النور:35]، أي: مثل نور المؤمن، كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، وهذه الأقوال الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه لا منافاة بينها، فمن قال: مَثَلُ نُورِهِ، أي: مثل نور الله فهو المذكور قبل قليل اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ، أي: نور الله في قلب المؤمن، ومن قال: مَثَلُ نُورِهِ، أي: مثل نور المؤمن، نور المؤمن هذا من الذي وضعه في قلبه ودله عليه وهداه إليه؟ هو الله، فنسبته إلى الله باعتبار أنه هو الذي قد أوجده، ونسبته إلى المؤمن باعتبار أنه المحل القابل الذي حصّله، مَثَلُ نُورِهِ، مثل نور الله في قلب العبد المؤمن، وإن شئت أن تقول: مثل نور المؤمن في قلبه، كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ [النور:35]، العلماء في تفسير الأمثال، ولعلنا إذا انتهينا من التعليق على الآيات التي قد تُفهم على غير مراد الله أن نتحدث عن الأمثال في القرآن، فهذا من هذه الأمثال.

العلماء في تفسيرها على طريقتين، هذه الأمثال التي يسمونها بالأمثال المركبة، من أهل العلم من يفسرها باعتبار التركيب، يعني في الجملة، فيقول: لا نفسر ذلك بالتفصيل، لا نقول: ما المراد بالمشكاة؟، وهي تكافئ ماذا؟ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35]، ما المراد بالمصباح؟ وما المراد بالزجاجة؟ وتكافئ ماذا في قلب المؤمن، إلى آخره؟، لا، يقول لك: هذا مثل نفسره تفسيراً إجماليًّا باعتبار التركيب، لا نفككه، وإنما نقول: "مثل نوره" أي: أنه الله -تبارك وتعالى- يذكر مثل نور الهدى والوحي في قلب الإنسان كمثل نور السراج أو المصباح الذي هو في غاية الإضاءة والتوقد، والبياض والصفاء فهذا مثَل هذا، فقط، ومن أهل العلم من يفكك هذه الأمثال، وأكثر أهل العلم على الأول، على الطريقة الأولى، وحينما يفككونها يختلفون في التفاصيل، كما في قوله تعالى مثلاً: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:19]، ما المراد بيجعلون أصابعهم؟، ما الظلمات؟ ما الرعد؟ هل هو وعيد القرآن وزواجره؟ الظلمات ما هي؟ هي الأمور التي تشتبه عليهم وتلتبس؟.   

ومن أهل العلم من يفسره بالإجمال يقول: هذا حال هؤلاء مع الوحي، بهذه المثابة، كالذي يمشي ويتخبط في حال من الارتباك والخوف، فهنا إذا فسرنا المثل باعتبار التركيب فيكون المعنى ما ذكرتُ تشبيه نور الله بهذا السراج في صفائه وبياضه وإشراقه وإنارته.

وإذا فسرناه باعتبار التفصيل وفككنا هذا المثل فيمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: مَثَلُ نُورِهِ، مثل نور الله في قلب المؤمن، كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، المشكاة المشهور أنها الكوّة التي تكون في الجدار مثل النافذة لكن لا تفضي إلى الخارج، مسدودة، يوضع فيها السراج ويكون ذلك أدعى لإضاءته وأكثر في إنارته، فهي محل يوضع للسراج من أجل أن تجتمع الإضاءة وتنعكس على المحل، لا يتفرق النور في الخارج وفي الداخل، كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، هذه المشكاة فيها مصباح، على تفكيك المثل بعضهم يقول: المشكاة هي الصدر، فِيهَا مِصْبَاحٌ، المصباح ما هو؟ المصباح هي الفتيلة بالنسبة للسراج، هذا هو المصباح.

ومنهم من يقول: حديدة الفتيلة، ولا منافاة؛ لأن هذا ملازم لهذا، فِيهَا مِصْبَاحٌ، وهذا المصباح على تفكيك المثل يقولون: هو القلب في المشكاة وهي الصدر، الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ، الزجاجة معروفة، قالوا: وهذا أيضاً شُبه بالقلب؛ لأنها تشتمل على ثلاثة أوصاف -يعني الزجاجة: الصفاء وهذا قلب المؤمن، والصلابة الزجاج صُلب فقلب المؤمن لا يقبل الشبهات، وهو أيضاً قوي على الكافرين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح:29]، وفيه الرقة؛ لأن الزجاجة تكون رقيقة من أجل أن يخرج النور منها، قالوا: وهكذا المؤمن رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، فيه الرقة والصلابة والصفاء، الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور:35]، الكوكب الدري هو الكوكب المتلألئ المنير شديد البياض، كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، من شدة إضاءته، ثم ذكر مادته: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، ثم فسرها قال: زَيْتُونِةٍ، فالزيتون مبارك، هذه الشجرة المباركة زيتها في غاية الصفاء، واجتمع معه أمر آخر وهو أنه قال: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ، هذا وصف لشجرة الزيتون التي يوقد منها هذا السراج، الشجرة إذا كانت شرقية فإنه لا يأتيها ضوء الشمس، أو أشعة الشمس إلا في النصف الثاني من النهار؛ لأنها مغطاة من جهة الشرق بأشجار، أو بناء أو غير هذا فهي في الظل من الناحية الشرقية، وترون بيوت الناس الآن هذا شرقي وهذا غربي، وتعرفون معنى هذا، فهذه لا شرقية ولا غربية، وإذا كانت غربية فمعنى ذلك أنه لا يأتيها إلا في النصف الأول، ما يأتيها شعاع الشمس ويكون ذلك نقصاً في نموها، وجودة ثمرتها، وصفاء زيتها، أما إذا كانت الشمس تطرقها في أول النهار وفي آخر النهار فهي في غاية الاعتدال، وزيتها يكون في غاية الصفاء والنقاء، فزيتها يكاد يضيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، لشدة إشراقه، فكيف إذا أوقد عليه؟.

ثم قال الله : نُورٌ عَلَى نُورٍ، الآن هذا الزيت بتفكيك المثل يكافئ الوحي، يعني: هو يُمثل الوحي الذي يكون في قلب المؤمن، ثم قال الله : نُورٌ عَلَى نُورٍ، بالنسبة لهذا المثل الزجاجة والمصباح إلى آخره نور الزيت الذي أُخذ من هذه الشجرة نور مع نور المصباح والسراج، نُورٌ عَلَى نُورٍ، فهو في غاية الإشراق، وبالنسبة لما يقابله نُورٌ عَلَى نُورٍ، نور الفطرة، فقلب المؤمن على الفطرة في صفائها ونقائها من شوائب الشرك ولوثاته، فإذا جاء معه نور الوحي فهذا هو الهدى الكامل، وذلك كضوء الشمس مع نور العين، إذا وجد نور العين في مكان مظلم فالإنسان لا يرى الأشياء، وإذا وجد نور الشمس ولو في رابعة الظهيرة مع انعدام نور العين فإن الإنسان لا يرى، الأعمى لا يرى، فإذا اجتمع نور العين مع ضوء الشمس كانت الرؤية تامة، فهنا قال الله : نُورٌ عَلَى نُورٍ، نور الفطرة مع نور الوحي، فالعقل وحده لا يهدي، لا يكفي، والفطرة وحدها تحتاج إلى الوحي من أجل تكميلها، فالله -تبارك وتعالى- يُمثل هذا المعنى بهذه الطريقة التي سمعتم.   

نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، من أهل العلم من قال: المراد به المؤمن، فسمعه نور وبصره نور وفي قلبه نور وطريقه نور، وهذا المعنى صحيح، وهو لا ينافي ما ذكرت، فإن هذا النور إذا وجد في قلب المؤمن نور الفطرة ونور الوحي فإن ذلك يبعث على إشراق في وجهه، فإن القلب إذا استنار استنار الوجه؛ ولهذا يقال: فلان وجهه مشرق، فلان وجهه نيّر، منير، فيه نور، هؤلاء وجوههم فيها نور، وهذا شيء مشاهد، فإن الوجه مرآة للقلب، ولهذا قالوا: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها على صفحة وجهه، وفلتات لسانه، فإذا أظلم القلب أظلم الوجه، حتى في الأمور العارضة، وأقصد بالأمور العارضة ما ينتاب الإنسان أحياناً من الكمد والغيظ والغل أو الحزن الشديد فيقال: اسود وجهه، وجه فلان أسود، يعني من شدة ما يجد في قلبه، فيظلم وجهه ويراه الناس، وقد يكون ذلك لازماً له -نسأل الله العافية، وذلك إذا أظلم القلب بالكفر، أو المعصية أو نحو ذلك، ولذلك تعرف غالباً أهل البدع من وجوههم، لو أتيت بمليون إنسان وأتيت بواحد من هؤلاء المبتدعة أصحاب البدع الكبيرة لعرفته من بين الملايين، وأنت تمشي في الطريق تعرف أن هذا كذا، من وجهه، وهكذا أصحاب المعاصي تظلم وجوههم بقدر ما عندهم من الإساءة، بقدر ما في قلوبهم من الظلمة، وكلما أشرق القلب أشرق الوجه، وإنك لتكاد أن تعرف حال الإنسان وعمله الباطن الخفي من وجهه، وقد تعرف ما يعرض له أحياناً من الإساءة والذنوب ولو كانت في الخلوات مما يظهر على وجهه، ولهذا دخل على عثمان رجل فقال له عثمان : "يعصي أحدكم ويدخل عليّ، فقال الرجل: أَوَحيٌ بعد رسول الله ﷺ؟!، فقال: لا، ولكنها فراسة المؤمن"[5]، فالشاهد أن ما ذكره بعض السلف صحيح أن القلب إذا أشرق بنور الله أشرق الوجه، ويشرق العمل فيكون سمع الإنسان نورًا، وبصره نورًا، وطريقه نورًا، وكلامه نورًا، ولهذا تجد بعض أهل العلم على كلامه نوراً، ويوفق إلى الحق وينتفع الناس بقوله، وهكذا الإنسان الذي هداه الله لا يصدر منه إلا طيب، بخلاف الآخر، ولهذا قال الله في نفس السورة: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26]، ابن جرير -رحمه الله- لم يفسرها بالنساء والرجال إنما فسرها قال: "الأقوال الخبيثة للخبيثين من الناس، والأعمال الخبيثة للخبيثين من الناس، والأقوال والأعمال الطيبة للطيبين من الناس"[6]، وهذا المعنى لا ينافي قول من قال بأنهم الرجال والنساء، فكل ذلك صحيح، والله تعالى أعلم.

وتعرفون في الدعاء حينما يخرج الإنسان: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي نورًا[7]، ويقول: اللهم اعطني نورًا[8]، وحتى قال: وفي عظامي نورًا[9]، فكل ذلك يحصل للمؤمن، ثم بعد ذلك إذا جاء في الآخرة -بعد أن أضاءت بصيرته في الدنيا- ظهر ذلك النور عياناً يُشاهَد، يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12]، فهذا النور يكون لهم في الآخرة ويجتازون به الصراط كلٌّ على قدر ما عنده من الهدى في الدنيا، ولذلك ينطفئ عند المنافقين؛ لأنه مُقتبَس، ولهذا قال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17]، هو ما عنده نار، "استوقد" السين والتاء للطلب، طلبه من غيره، استعاره، ففرحوا بالدنيا وحُقنت دماؤهم، وأحرزت أموالهم، وأخذوا أشياء من لُعاعها وحطامها، فإذا جاء الآخرة هذا النور المستعار "استوقد نارًا" ذهبت إضاءته وبقي الإحراق، فينطفئ نورهم، فيقولون للمؤمنين: انظرونا نقتبس من نوركم، ويقولون لهم: ألم نكن معكم؟، فليس عندهم نور حقيقي في الدنيا، فلا يكون عندهم نور في الآخرة.  

والمقصود: أن الله نور السموات والأرض، فهو الهادي وهو النور وبإنارته وتدبيره لهذا الكون جعل هذه الأفلاك النيرات والكواكب، وهدى من شاء من عباده إلى الإيمان، فأشرقت قلوبٌ بذلك، وصحّت به أعمال، واستضاءت به بصائر، وعرف هؤلاء الحق من الباطل، وبقي أقوام في الظلمات مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]. 

هذا، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم على صراط مستقيم، وأن يجعل في قلوبنا نوراً، وفي سمعنا نوراً، وفي بصرنا نورًا، وعن يميننا نورًا، وعن شمالنا نورًا، ومن بين أيدينا نورًا، ومن خلفنا، وأن يجعل لنا نوراً.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله ﷺ: نور أنى أراه، وفي قوله: رأيت نورا، برقم (178).
  2. المصدر السابق.
  3. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله ﷺ: إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، برقم (179).
  4. تفسير الطبري (17/ 304)، وتفسير البغوي (6/ 45)، وتفسير القرطبي (12/ 260، 264)، وتفسير ابن أبي حاتم (8/ 2594).
  5. انظر: تفسير القرطبي (10/ 44)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 455)، والرياض النضرة في مناقب العشرة، لمحب الدين الطبري (3/ 41)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 327).
  6. انظر: تفسير الطبري (17/ 238).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه بالليل، برقم (6316)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (663).
  8. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (663).
  9. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء ما يقول إذا قام من الليل إلى الصلاة، برقم (3419)، ولفظه: ونورًا في بشري، ونورًا في لحمي، ونورًا في دمي، ونورًا في عظامي، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1119)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (1194).

مواد ذات صلة