السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
الآية 33 والآية 37 من سورة الأحزاب
تاريخ النشر: ١٧ / رمضان / ١٤٢٨
التحميل: 1935
مرات الإستماع: 1911

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الآيات التي قد يحملها بعض الناس على غير مراد الله منها، وقد يحتجون بها على معانٍ باطلة قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب بعد أن أدب أمهات المؤمنين، وخاطبهن بما خاطبهن به من الأدب اللائق الذي يتلاءم مع بيت النبوة، وتلك المنزلة التي رفعهن الله إليها، أمرهن بالقرار في البيوت، ونهاهن عن التبرج، كما نهاهن عن الخضوع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، إلى غير ذلك، ثم قال الله معللاً لهذا: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، هذه الآيات وهذا السياق من أوله إنما هو في أزواج النبي ﷺ، فمن المراد بقوله -تبارك وتعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب:33]؟ وما المقصود بهذه الإرادة؟

بعض أهل البدع يقولون: إن المراد بهذه الإرادة هي إرادة كونية قدرية، وهذا يعني أن المراد لا بد أن يقع ويتحقق، ويفسرون أهل البيت بعلي وفاطمة والحسن والحسين وما تناسل منهم من الأئمة الذي يعظمونهم ويقدسونهم ويعتقدون فيهم العصمة، ويتلقون عنهم كما يتلقون عن الوحي، ويقولون: هؤلاء عصمهم الله من الزلل والخطأ، فصار كلامهم مصدراً من مصادر التشريع عند هؤلاء المنحرفين.

والمقصود هنا بيان المراد بهذه الآية، فهذا السياق إنما هو في أزواج النبي ﷺ، وهنّ السبب في نزول الآية، وذلك حينما اجتمعن على النبي ﷺ يطالبنه بزيادة النفقة، بالتوسعة عليهن في النفقة، لما فتح الله عليه الفتوح، فأدبهن الله بهذا الأدب: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ۝ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب:32-33]، فإذا كان السياق وسبب النزول في أزواج النبي ﷺ فمن المعلوم أن سبب النزول قطعي الدخول في صيغة العموم، ولا يمكن إخراجه منه بالاجتهاد، فيقال: أهل البيت هنا في هذه الآية من السلف من خصه بزوجات النبي ﷺ؛ لأن السياق في هذا، وأهل البيت عند التحقيق يُطلق على إطلاقات متعددة في كل موضع بحسبه، فتارة يطلق على عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، كما في حديث أم سلمة -ا- حديث الكساء، وذلك أن النبي ﷺ لما نزلت عليه الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب:33]، أدخل عليًّا وفاطمة والحسن والحسين في هذا الرداء أو الكساء، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فطهرهم تطهيرا[1]، فهؤلاء لا شك أنهم من أهل البيت.

ويطلق بإطلاق أعم من ذلك فيدخل فيه من مُنع الصدقة، كما قال زيد بن أرقم في بيان المراد بقول النبي ﷺ في وصيته بأهل بيته في قصة غدير خُم، وهي في صحيح مسلم: "فسُئل زيد عن أهل بيته، فذكر أنهم من مُنع الصدقة، وهم أربعة أبيات: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس"[2]، هؤلاء الأربعة الأبيات هم أهل بيته، هؤلاء لا تحل لهم الصدقة، فإذا قيل: لا تحل الصدقة لأهل البيت فالمراد هذه الأبيات، كلهم من أهل بيته بهذا الاعتبار.

ويطلق بإطلاق أوسع من هذا، فيدخل فيه زوجات النبي ﷺ، وهذه الآية يدخل فيها أزواجه قطعاً، ومعنى إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ [الأحزاب:33]، الإرادة هنا ليست كونية قدرية وإنما هي إرادة شرعية، بمعنى أن ذلك لا يقتضي تحقق المراد، كما نقول: الله يريد من عباده طاعته، وتقواه، ومراقبته، والخوف منه، هل يقتضي هذا وقوع ذلك منهم جميعاً؟.    

لا، هذه إرادة شرعية، ليست إرادة كونية، فهذه الإرادة في الآية هي إرادة شرعية وليست كونية، وعليه يقال: إنما يريد الله بما وجّه من هذه التوجيهات، وأمر بطاعته وطاعة رسوله ﷺ ونهى عن معصيته، ونهى عن الخضوع بالقول، والتبرج، وأمر بالقرار بالبيوت كل هذا من أجل تحقيق الطهارة لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ [الأحزاب:33]، والرجس يطلق على كل دنس وقذر في الأمور الحسية والأمور المعنوية، فلما كان عِرض من قارف المدنسات من المعاصي والذنوب، وما لا يليق من الفواحش، ونحو ذلك يتلطخ ويتندس قيل له: رجس، وإلا فالرجس يطلق على هذا، ويطلق على الأصنام، والخمر، والميسر، ويطلق على الميتة، ويطلق على الخنزير، وكل نجس وقذر ودنس من الأمور الحسية والمعنوية، هذا هو المراد بهذه الآية، ولا حجة فيها إطلاقاً لهؤلاء الذين يزعمون العصمة لغير الأنبياء -عليهم الصلاة  والسلام- ومن ثَمّ فإنهم يتلقون عنهم كما يتلقون عن الوحي المعصوم، هذه آية في سورة الأحزاب.

والآية الثانية: هي قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37]، ما الذي أخفاه النبي ﷺ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ؟.

إذا نظرت في كثير من كتب المفسرين وجدت أموراً لا تليق بحال من الأحوال مع مقام النبوة، فكان الواجب أن يُعرَض عن تلك المرويات الباطلة التي لا أساس لها من الصحة، والأقاويل الفاسدة، ويُضرَب عنها صفحاً، ولا تورد في كتب التفسير ولا في غيره، ولكنها للأسف وجدت وبكثرة، فكان لا بد من بيان المراد،  ما الذي أخفاه النبي ﷺ؟.

زينب بنت جحش بنت عمة النبي ﷺ، زيد بن حارثة مولى النبي ﷺ، وكان عبداً رقيقاً مملوكاً للنبي ﷺ، فأعتقه ﷺ وتبناه، قبل تحريم التبني، وصار يُنسب إليه، فيقال: زيد بن محمد، فأبطل الله التبني حكماً في قوله -تبارك وتعالى- في أول هذه السورة -سورة الأحزاب: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ۝ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:4-5]، تقول: أخي، ومولاي، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، فإذا سبق اللسان في مجاري العادات، وما ألفته النفوس فقال: زيد بن محمد، فإن الإنسان لا يؤاخذ على هذا الخطأ، ولكن على العمد.  

فالشاهد أن هذا كان هو الواقع، فالله -تبارك وتعالى- بين حكم التبني وأبطله، لكن ذلك يعسر على النفوس -أعني تطبيقه؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يُنزلون هذا المُتبنَّى منزلة الابن من كل وجه، فيعدون تزوج الرجل من امرأة المتُبنَّى من أفجر الفجور، فلما أبطل التبني وما يترتب عليه من قضايا عندهم ومتعلقات، أراد الله    أن يبدأ بنبيه ﷺ ليكسر ذلك في نفوسهم من الناحية العملية، فإن نفوسهم تتهيبه، تتحاشاه، والنبي ﷺ كان يتحرز ويتخوف، وذلك لما سيناله من ألسنة المنافقين، سيجدونها قضية يشعلونها، ويتحدثون عنها مع أنهم ما كان عندهم صحف في ذلك الوقت، ولا قنوات، لكن عندهم ألسنة حداد، دجاج لها مناقير من حديد، سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19]، فهؤلاء سينالونه ﷺ ويُسمعونه ما يكره، ويلوكون عرضه بألسنتهم، فكان يتحرز من هذا، فالله أخبره أن زيداً وهو زيد بن حارثة الذي زوّجه النبي ﷺ زينب بنت عمته، وبالمناسبة زيد مولى، وهذه امرأة شريفة، أمها من أشراف قريش، بنت عمة النبي ﷺ وإن لم تكن قرشية، زوّجها مولاه، فالنبي ﷺ أخبره الله أن زيداً سيطلقها، وأن الله سيزوجها نبيه  ﷺ، فلما ساءت العلاقة بين زيد وبين امرأته زينب جاء يشكو إلى النبي ﷺ ويُبدي رغبته في تطليقها، فالنبي ﷺ أعلمه الله أنها ستطلق وأنها ستُزوج منه، وكان يقول له: اتقِ الله وأمسك عليك زوجك، فالله يقول: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37]، ما الذي أخفاه؟.  

هو أن الله أعلمه بالتزوج منها، وأن زيداً سيطلقها فقط، وهذا أمر لابد أن يقع، قال: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، ليست هذه الخشية في البلاغ، وإنما كان يخشى من ألسنتهم إذا تزوجها، وأما أمر البلاغ فلو كان النبي ﷺ يكتم شيئاً من الوحي لكتم هذه، وحاشاه من ذلك، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ [الأحزاب:37]، ليس هناك أكثر من هذا، لا فيه حب، ولا عشق، ولا غير ذلك، كل هذا كذب على رسول الله ﷺ، وهذا هو المراد، وذلك ما عليه المحققون من المفسرين.

هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، عن صفية بنت شيبة، قالت: قالت عائشة: "خرج النبي ﷺ غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليٌّ فأدخله، ثم قال:  إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]"، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أهل بيت النبي ﷺ، برقم (2424).
  2. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب ، برقم (2408).

مواد ذات صلة