الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي هذه الليلة نتحدث عن آية من سورة الأحزاب، وهي قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59]، هذه الآية الحديث عنها له اتصال بالحديث عن آية سبقت في هذه السورة، وهي ما بين الله -تبارك وتعالى- فيه ما يحل وما لا يحل من إبداء الزينة للمحارم وللرجال الأجانب، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، إلى آخر الآية.
هذه الآية التي ذكر الله فيها الحجاب ذكر قبلها قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، ثم قال: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، ثم قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، ثم قال بعدها: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:60-61]، هذه الآية التي يأمر الله بها المؤمنات بالحجاب أن يدنين عليهن من جلابيبهن، قدم الله عليها هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الأحزاب:58]، وعقّبها بهذه الآية: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:60]، فيما يُسمى بعلم المناسبات يعني وجه الارتباط بين الآية والآية التي قبلها، والآية والآية التي بعدها، ماذا نستنبط؟ ماذا نفهم حينما تقترن هذه الآية بهذه الآية؟.
الذي نفهمه أن أولئك الذين يطعنون في الحجاب، ويشككون فيه، ويصورونه على أنه نوع من التخلف والجهل، والظلامية، والرجعية، وأنه من ميراث الجاهلية البائدة، وأن مقتضى التحضر هو نبذ هذا الحجاب، هؤلاء داخلون دخولاً أوليًّا في الآية التي قبلها، وفي الآية التي بعدها: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، وكذلك في الآية التي بعدها: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:60]، لما أمر بالحجاب: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:60]، والمرض إذا أُطلق في القرآن فغالب المواضع أن المراد به مرض النفاق إلا في موضع واحد وهو قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، وهو الميل المحرم للنساء، وفي موضع آخر يحتمل أن المراد به ضعفاء الإيمان، أو أهل النفاق، وهو قوله : إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأنفال:49]، فبعض العلماء يقولون: هذا من عطف الأوصاف على موصوف واحد مثل: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:1-4]، هذا كله لموصوف واحد، فهي أوصاف متتابعة تارة بالعطف، وتارة من غير عطف، فهنا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:60]، يحتمل أن يكون المراد بالذين في قلوبهم مرض أنهم أهل النفاق، وأن هذا من باب تعاطف الأوصاف.
ويحتمل أن المراد بالذين في قلوبهم مرض أي ضعفاء الإيمان، هذه فائدة.
لكن الشاهد الذي أردت أن أتحدث عنه في هذه الآية هو أن الله قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، تُعرف أنها حرة فلا يؤذيها ضعفاء النفوس، والذين يتتبعون العورات، ما صفة هذا الإدناء الذي أمر الله به؟
صفة هذا الإدناء قال بعض السلف: "أن تغطي وجهها من فوق رأسها، وتبدي عيناً واحدة"[1]، هذا قال به ابن عباس، وقال به من التابعين عبيدة السلماني، وابن عون، وابن سيرين.
وبعض السلف قال: "أن تشد جلبابها على جبهتها، وتتقنع به"[2]، تغطي وجهها، تشده على وجهها لا تُسدله من أعلى الرأس إلى أن يغطي الوجه، لا، تشده على الجبهة وتغطي وجهها به، وهذا في المعنى يرجع إلى القول الأول باعتبار أن المقصود هو تغطية الوجه، وهذا مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما، وهو منقول عن قتادة من التابعين، هؤلاء أئمة التفسير.
فالذين يتفلسفون في هذه الأيام من العوام، وأشباه العوام، ويقولون: هذه مسألة خلافية، نحن لا ننكر الخلاف في هذا، لكن منذ متى جاء هذا الخلاف عندهم؟.
العوام مذهبهم مذهب علماء البلد الذين يفتونهم، فليس للعامي أن يتخير من الأقوال، ولا يبحث في الخلاف، وإنما يستفتي من يثق بدينه وعلمه، والناس تبع لعلمائهم، علماؤهم يفتونهم أن الوجه عورة، إذن لا يُكشف الوجه، ولا يقبل من العامي أن يقول: هذه مسألة خلافية، هذا هوى، الذي يفعل ذلك هو متبع لهواه، ثم انظروا إلى حال أولئك اللاتي يتلاعبن بالحجاب، إما بهذا النقاب الواسع الفاتن، أو بالعباءات المخصرة، أو التي لها أكمام، أو التي توضع على الكتف، أو ما يُسمى بالفراشة، أو بالعباءة الفرنسية، أو المزخرفة، أو الغراب الأبقع، أو غير ذلك من الصور والأشكال الغريبة جدًّا، نشاهدها ونستغرب كيف من الناحية الذوقية، كيف مثل هذه يقبل بها إنسان ويرتضيها؟!.
يقول النبي ﷺ: رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة[3]، وذكر أبو هريرة رقة الثياب للنساء، فقال: "الكاسيات العاريات، الناعمات الشقيات"[4]، والنبي ﷺ يقول: المرأة عورة[5]، يعني: كلها عورة، ويقول ﷺ: صنفان من أهل النار، وذكر أنه لم يرهما، وذكر أحد هذين الصنفين وهو:نساء كاسيات عاريات[6]، ما معنى كاسية عارية؟.
العلماء ذكروا في معناها أشياء كثيرة، والظاهر الأقرب؛ لأنهم ما شاهدوا ما يوجد في هذا العصر هي لابسة ثيابًا لكنها في حكم العارية، ثياب تبدي المفاتن، أعظم ممن لم يكن عليها ثياب أصلاً، أحياناً مجرد خيوط، ماذا تستر هذه الخيوط؟! وإذا نوقشت قالت: عورة المرأة من السرة إلى الركبة، لا أحد يقول بهذا، كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته[7]، إذا جاءت المرأة تخرج إلى الزواج قبل أن تخرج قل لها: أريني ما تحت العباءة، لا تجلس في السيارة وتنتظرها حتى تركب معك، عامة النساء في صالة الأفراح يلبسن العاري حتى في الشتاء، مع التأكيد والنصح والكتابة على البطاقات: نرجو لأطفالكم نوماً هادئاً، ولأجسادكم لباساً ساتراً، والنساء يسألن ما هي العبارات غير الجارحة الرقيقة التي نكبتها في البطاقة؟، ومع ذلك إصرار على هذا التعري، وإذا نوقشت قالت: عورة المرأة من السرة إلى الركبة.
دخل نسوة من بني تميم على عائشة -رضي الله عنها- عليهن ثياب رقاق، ما هي مثل الألبسة التي يلبسها النساء اليوم، لا، ثياب ساترة لكن رقيقة، فقالت: "إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات فتمتعن به"[8]، الملابس الضيقة التي تحجز المرأة وتبين الصدر، البنطال، المرأة المترجلة، هذه الألبسة اللاصقة التي تشبه أحياناً المطاط، هذا لا يجوز للمرأة أن تلبسها إلا عند زوجها فقط، عدا البنطال فإنه ليس من لبس النساء أصلاً،أُدخلت امرأة عروس على عائشة -رضي الله عنها- وعليها خمار قبطي معصفر، مصبوغ بالعصفر فلما رأتها قالت: "لم تؤمن بسورة النور امرأة تلبس هذا"[9]، هذه امرأة عروس أُدخلت على عائشة.
انظر إلى لبس العرائس اليوم، ماذا تلبس؟ يستحي الإنسان أن ينظر إليها، يقول عمر : "ما يمنع المرأة المسلمة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها، أو أطمار جارتها مستخفية لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها"[10]، ما معنى في أطمارها أو أطمار جارتها؟
يعني: في ثياب خَلِقة، في عباءة ليست جذابة، ليست من رفيع اللباس، ليست أنيقة، لا تبدو فيها المرأة أنها تلفت الأنظار، وأنها فيها شيء من الجاذبية، أو الأناقة، أو الحُسن أو نحو ذلك، هذا هو المقصود.
فالحاصل يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، فالجلباب هو الرداء الذي يكون فوق الخمار، تتغطى به المرأة، كما قالت الجَنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثيه:
تمشي النسورُ إليه وهي لاهيةٌ | مشي العذارى عليهنّ الجلابيبُ |
يعني: حتى في الجاهلية كانوا يلبسون الجلباب والحُرة تستتر، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، فإذا قلنا: إن "مِن" تبعيضية يعني تدني عليها بعض جلبابها فتغطي به وجهها.
والمقصود أن الحرة لا تكون متبذلة في درع وخمار كالأمة الماهنة التي لا شرف لها، ولا مرتبة، فتلبس شيئاً دون لباس الحرة، فالحرة تلبس عباءة، تلبس جلباباً فوق الثياب، ويُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، بعضهم يقول: أن ترخي المرأة جلبابها، وفضله على وجهها؛ لتتقنع به حتى تتميز من الأمة، يُعرف أن التي تتغطى حرة، والتي كاشفة هذه أمة تباع وتشترى، شرفها أقل، ولهذا قال الله في تربية أمهات المؤمنين: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [الأحزاب:32]، فنفيُ المساواة يقتضي التشريف والتفضيل، أنكن أفضل، فإذا كنتن أفضل فأهل المراتب العالية: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، إلى آخره، البيوت الشريفة لا يصلح لها التبذل والخضوع والتكشف والتهتك.
فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعني وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
- انظر: تفسير الطبري (19/ 181)، وتفسير البغوي (6/ 376).
- انظر: مسند الشافعي، ترتيب السندي (1/ 303).
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب العلم والعظة بالليل، برقم (115)، وبرقم (6218)، كتاب الأدب، باب التكبير والتسبيح عند التعجب.
- انظر: تفسير القرطبي (14/ 244).
- أخرجه الترمذي، أبواب الرضاع عن رسول الله ﷺ، برقم (1173)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1685)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6690).
- أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، برقم (2128).
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، برقم (893)، وبرقم (2558)، كتاب العتق، باب العبد راعٍ في مال سيده، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم (1829).
- تفسير القرطبي (14/ 244).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.