السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
الآية 32 من سورة النجم
تاريخ النشر: ٢٤ / رمضان / ١٤٢٨
التحميل: 1894
مرات الإستماع: 2782

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمن الآيات التي قد تُحمل على غير مراد الله ما جاء في سورة النجم من قوله -تبارك  وتعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، ثم وصف هؤلاء الذين أحسنوا فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32].

فما المراد بقوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ؟ [النجم:32] كبائر الإثم يعني: الذنوب الكِبار، وضابط الكبيرة -والله تعالى أعلم- أنه كل ذنب توعد الله عليه بالنار، أو رتب عليه حدًّا، أو لعن فاعله أو نحو ذلك، هذه كبائر الذنوب، كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ [النجم:32]، الفواحش في أصلها كل ذنب عظُم وفحُش، والعرب تقول للشيء الكثير أو الكبير: فاحش، فيقال: هذا مال فاحش، وهذا دم فاحش، وهذا قول فاحش، وهذا فعل فاحش، ونحو ذلك.

فالذنوب العِظام يقال لها فاحشة، ويطلق في غالب الاستعمال على نوع من الكبائر وهو الزنا وما في معناه، والله يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء:32]، ويقول: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، نكاح زوجات الآباء، فأطلقه عليه، وفي الأول أطلقه على الزنا، فمن أهل العلم من يقول: إن الفاحشة كما في قوله: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [الأعراف:80]، يعني: الزنا وما في معناه.

والمقصود به هنا فعل اللوطية -أعزكم الله- فهذه فاحشة، فبعضهم يقول: الفاحشة إذا جاءت معرَّفة بأل فهي الزنا وما في معناه، وإذا جاءت مُنكَّرة -فاحشة- فهو الذنب العظيم، وإذا جاءت مقيدة بالبيان كما قال الله في آية الأحزاب مخاطبًا أمهات المؤمنين: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:30]، فالفاحشة المُبينة هنا قيل: هي عقوق الزوج، وقيل: التطاول على الأحماء، وقيل غير ذلك، الشاهد أن هذا قال به بعض أهل العلم، لكن لا دليل عليه، فالفاحشة كل ذنب عظيم وغالب ما يطلق ذلك على الزنا وما في معناه، فهنا قال الله عن هؤلاء الذين سيجزيهم بالحسنى -يعني الجنة، من هم؟ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، ما هذا اللمم؟ قبل نحو ربع قرن سمعت أستاذاً جامعيًّا يقول لطلابه: "إلا اللمم"، يعني: يزني مرة واحدة، فهذا لا إشكال فيه، يزني مرة واحدة، ولا زالت تُقرقر في نفسي إلى اليوم، واليوم أتحدث عنها، كيف يقول هذا الكلام ولشباب يتوقدون شهوة وقوة وحيوية وفتوة؟!، يقول لهم: "إلا اللمم"، يعني: أن يزني مرة واحدة في العمر، فهذا قول غير صحيح، وإن كان قد سُبق إليه، فالذي عليه عامة أهل العلم في "إلا اللمم": أن هذا الاستثناء منقطع، ومعنى الاستثناء المنقطع أن المستثنى اللمم هنا ليس من جنس المستثنى منه، تقول: وصلت الكتبُ إلا ثوباً، فالثوب ليس من الكتب، وصل الرجال إلا حقيبة، فالحقيبة ليست من الرجال، فهذا يقال له: الاستثناء المنقطع، فهو بمعنى لكن، فهنا على هذا التفسير -تفسير الجمهور- الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، يعني: لكن اللمم يقع منهم، اللمم يقع، واللمم: العرب تطلق هذه الكلمة على معنى الدنو والمقاربة، والنبي ﷺ حينما سُئل أيأتي الخير بالشر؟ لما تخوف على أمته من الدنيا، وقال: والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تُفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم[1]، الشاهد: أن رجلاً قام وسأل النبي ﷺ قال: يا رسول الله، أيأتي الخير بالشر؟، هذا المال، هذا الخير، هذه الدنيا تأتينا بالشر؟، فسكت النبي ﷺ، ثم بعد ذلك سأل عن الرجل فقال: إن الخير لا يأتي بالشر، وإن مما أنبت الربيعُ ليَقتل حَبطاً، أو يُلمّ إلا آكلة الخُضرة[2]، إلى آخر الحديث.

مما أنبت الربيعُ، من هذه النباتات الجميلة الخضراء ليقتلُ حَبطاً، الحَبَط انتفاخ بطن الدابة من كثرة الأكل فيصيبها البشم، يعني: يستطلق بطنها أو ينحصر فلا يخرج منه شيء، المهم أنها تموت، ولهذا بعض النساء تدعو على ولدها إذا لوث ببوله أو نحو ذلك تقول له: حَبَط، وهذه دعوة خطيرة، فهي لغة عربية فصيحة هذا معناها، فهي تدعو عليه بالهلاك، الشاهد: ليقتل حبطاً أو يُلم، أي: يقارب يوشك أن يقتل، فالعرب تطلقه على الدنو والمقاربة.

إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، ما المراد باللمم في الآية؟

الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً أنها الذنوب الصغار التي دون الكبائر، فهذا الذي عليه المحققون، ومن أحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس -ا-: "ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي ﷺ: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والفرج يُصدق ذلك أو يكذبه[3]، فما يحصل للإنسان من الاستمتاع المحرم بالسمع زنا، والنظر زنا، واللمس زنا، والمشي إلى هذه الأمور التي لا تليق زنا، الذي يذهب إلى الأسواق يمشي من أجل أن يتتبع النساء وينظر إلى النساء ونحو ذلك وأماكن الاختلاط فعله هذا يدخل في هذا الحديث: كُتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، هذا هو اللمم، ما دون الكبائر، وهو الذي قال فيه النبي ﷺ: الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن، ما لم تُغشَ الكبائر[4]، فهذه الله يغفرها إذا اجتنبت الكبائر.

وأخبر ﷺ عن الوضوء وعن أثره: أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات..[5]، وكذلك في الحديث الآخر الذي يذكر فيه النبي ﷺ: أن الإنسان إذا غسل يديه..[6]، كل هذا، وبالمصافحة أيضاً تتحاتّ الخطايا[7]، فهذا كله من اللمم، فالله واسع المغفرة، يغفر له مثل هذه الصغائر بشرط أن لا يصر عليها؛ لأن الإصرار عليها يحولها إلى كبائر، ولهذا قيل بأنه "لا يوجد صغيرة"[8]، والمقصود بذلك كما وجهه الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن الإنسان إذا نظر إلى عظمة من عصى فإن ذلك ليس بصغير بهذا الاعتبار[9]، وإلا لا شك أن الذنوب منها ما هو صغائر ومنها ما هو كبائر، وهذه الآية تدل على ذلك دلالة واضحة، وكذلك الأحاديث الصحيحة المُخرجة في الصحيحين وغيرهما.

وبعض السلف فسر اللمم بما فعلوه ووقع منهم في أيام الجاهلية إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، ما قارفوه وقاربوه وواقعوه من هذه الأعمال من الفواحش والكبائر في أيام الجاهلية، والإسلام يجبّ ما قبله، لكن هذا القول ضعيف، يكفيهم إسلامهم ليمحو كل ما قارفوا قبله ما لم يكن منهم إصرار، فهذا هو المعنى، فليس لأحد أن يزين لنفسه مقارفة الفواحش والكبائر، ويقول: إن الله يقول: إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، ونحن لا زلنا نسمع إلى هذا اليوم من يشتكي من بعض من يراه، ولربما المرأة من زوجها ونحو ذلك أنه يقارف بعض هذه الأمور الكبار من شرب للمسكر، أو مراهقة متأخرة تحصل له فيسافر هنا وهناك؛ ليقارف بعض الفواحش، ويحتج بمثل هذه النصوص، إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، ويفسر ذلك على أنها مواقعة الكبيرة قليلاً، أو يحتج بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا [آل عمران:135]، هذا احتجاج فاسد، مِن أفسد الاحتجاج وأبطله، ليس لأحد أن يحتج بالنصوص الشرعية على فعل ما حرمه الله -تبارك وتعالى، فهذه النصوص تفهم على ضوء النصوص الأخرى، ولا يجوز أن يحملها الإنسان على معانٍ توافق هواه.

هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبصرنا وإياكم بما ينفعنا، وأن ينفعنا بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا هداة مهتدين.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، برقم (3158)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم (2961).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (11157)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  3. أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج، برقم (6243)، ومسلم، كتاب القدر، باب قُدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره، برقم (2657).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، برقم (233)، عن أبي هريرة .
  5. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة، برقم (528)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تُمحَى به الخطايا، وترفع به الدرجات، برقم (667).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء، برقم (244).
  7. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (8553)، ولفظه: والمسلمان إذا تصافحا لم يبقَ بينهما ذنب إلا سقط.
  8. بمعنى هذه العبارة: "لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار، وَلَا كَبِيرَة مَعَ الاسْتِغْفَار"، انظر: تفسير السمعاني (2/ 412)، وتفسير أبي السعود (2/ 171)، وفتح البيان في مقاصد القرآن (13/ 266).
  9. انظر: الجواب الكافي (ص:51).

مواد ذات صلة