الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
من الآية 75 إلى الآية 81 من سورة الواقعة
تاريخ النشر: ٢٦ / رمضان / ١٤٢٨
التحميل: 2127
مرات الإستماع: 5231

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

فهذا المجلس هو الأخير -إن شاء الله- من المجالس التي نتحدث فيها عن الآيات التي قد تُفهم على غير مراد الله منها، وقد ابتدأنا هذه المجالس قبل نحو ثلاث أو أربع سنوات، وهذا ختامها وهو حديث عن القرآن الكريم، وذلك في سورة الواقعة، فالله يقول: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ۝ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ۝ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۝ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ۝ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ۝ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:75-80].

فقوله -تبارك وتعالى: فَلا أُقْسِمُ [الواقعة:75]، هذه الصيغة إذا رأيتها في كتاب الله كما في قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، ونحو ذلك فما المراد؟ هل المقصود كما يقول بعض أهل العلم: نفي القسم "لا أقسم"؛ لأن الأمر من الوضوح والظهور ما لا يحتاج معه إلى قسم؟، وهذا لا يخلو من إشكال؛ لأن الله قال هنا: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:76]، مما يدل على أنه قسم، وليس المقصود نفي القسم، أو أن المراد أن "لا" هذه لنفي شيء مقدر قبلها، لا لما تزعمون وتقولون وتدعون وتفترون، ثم قال: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، لا لما تقولون في القرآن من أنه كذب وأساطير الأولين، أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75]، ثم ذكر كلاماً معترضاً وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ۝ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:76-77]، أو أن المراد أن "لا" هذه أصلها لأقسم بمواقع النجوم، ولكن صار فيها شيء من الإشباع، أُشبعت الفتحة في لأقسم فتولدت الألف فصارت لا أُقْسِمُ [الواقعة:75]، فقد ورد بهذا "لأقسم" في قراءة لكنها غير متواترة عن الحسن وجماعة من السلف ، وهذا معنى فيه بُعد، والأقرب الذي عليه الجمهور -والله تعالى أعلم- أن "لا" هذه تزاد في القسم لتأكيده، فـ"لا أقسم"، أي: أُقسم، لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، أي: أقسم بهذا البلد، لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، أي: أقسم بيوم القيامة، فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ [الحاقة:38]، فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75]، أي: أقسم بمواقع النجوم.

ومواقع النجوم هنا ما المراد بها؟

من أهل العلم من قال: مساقط النجوم، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري[1]، يعني: مغارب النجوم حينما تغرب.

وبعض السلف قال: مواقع النجوم يعني منازل النجوم في السماء.

وبعضهم قال: مواقع النجوم أي: الأنواء.

وبعضهم يقول: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75]، أي: نزول القرآن، فالقرآن نزل منجماً لم ينزل جملة واحدة، وهذا المعنى هو الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[2]، واحتج له بما بعده أن الله قال: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ۝ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:76-77].

والأقرب -والله تعالى أعلم- هو حمل الكلام على ظاهره المتبادر المشهور، فالنجوم هي النجوم المعروفة، ومواقعها إما منازلها في السماء، أو مساقطها، يعني: مغاربها، فهي تغرب، هذا هو المشهور الذي عليه عامة السلف، وبعضهم فسر ذلك بيوم القيامة

الأقرب -والله تعالى أعلم- هو حمل الكلام على ظاهره المتبادر المشهور، فالنجوم هي النجوم المعروفة، ومواقعها إما منازلها في السماء، أو مساقطها، يعني: مغاربها، فهي تغرب، هذا هو المشهور الذي عليه عامة السلف، وبعضهم فسر ذلك بيوم القيامة

كما جاء عن الحسن يقول: "انكدارها واندثارها في يوم القيامة"[3]، ما يحصل لها من التغير، ينطفئ نورها ويذهب في ذلك اليوم الرهيب، الحاصل: هذا معنى فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75].

ثم قال: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ۝ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:76-77]، ثم قال -وهو موضع الشاهد الذي من أجله تحدثت عن هذه الآية: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ۝ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:78-79]، ما المراد بهذا الكتاب، ما المراد به؟

فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]، مكنون: أي مستور مصون، إما مصون عن الأعين، أو كما يقول ابن جرير: "مصون عن كل أذى ودنس وقذر وغبار"[4]، مصون، فهو محفوظ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]، أي: محفوظ، مُغطى، مصون، مستور وما إلى ذلك من العبارات.

فبعضهم قال: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]، أي: محفوظ عن الباطل، إن أُريد به اللوح المحفوظ فلا تصل إليه الشياطين، وإن أُريد به الذي في أيدي الملائكة في الصحف فلا تصل إليه الشياطين، والله يقول: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ۝ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ۝ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:210-212]، وإن أُريد به هذا القرآن فهو مصون من التحريف، والتبديل، والتغيير، والله -تبارك وتعالى- قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

الشاهد أن قوله -تبارك وتعالى- هنا: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]، منهم من فسره باللوح المحفوظ، وهذا قال به جماعة من السلف، ومنهم من قال: التوراة والإنجيل، وهذا قال به عكرمة، يعني: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۝ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:77-78]، أي: مذكور تجدون ذكره في التوراة والإنجيل، ومن السلف من قال: الزبور، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:196].

وبعضهم يقول: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]، هو هذا المصحف الذي بأيدينا، لكن هذا يرد عليه إشكال فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]، كما يقول الحافظ ابن القيم: كل من كتب شيئاً يمكن أن يكون في كتاب[5]، فهل هذا يحتاج إلى قسم وهو يدل على عظمته أنه في كتاب، مع أن القرآن حينما نزل لم يكن في كتاب، وإنما كان في قلب النبي ﷺ، نزله جبريل على قلب محمد ﷺ، والصحابة تلقوه عنه مشافهة وسمعوه منه ﷺ.

إذن الأرجح والأشهر من أقوال أهل العلم أن قوله: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]، ليس المقصود هذا الكتاب الذي بأيدينا، الآيات تتحدث عن القرآن إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۝ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:77-78]، أين؟ إما اللوح المحفوظ، وإما الصحف التي بأيدي الملائكة كما قال الله : فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:13-16]، فهو بأيدي هؤلاء الملائكة، والقرآن له تنزلات كما هو معلوم، نزل إلى اللوح المحفوظ كما قال الله : فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:22]، ونزل أيضاً إلى السماء الدنيا في ليلة واحدة وهي ليلة القدر، كما صح عن ابن عباس وله حكم الرفع، "فُصل القرآن من الذكر في ليلة القدر"[6]، وله تنزل ثالث بأيدي الملائكة في الصحف، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:14-16]، السفرة سفراء بين الله وبين خلقه، ولهذا قال النبي ﷺ: الماهر بالقرآن وهو يحفظه مع السفرة الكرام البررة[7]، لما كان هذا يشتغل بكتاب الله صار مع السفرة الذين ينقلون الوحي، وهو مشتغل بالوحي يحفظ، وماهر بهذا القرآن، ماهر وحافظ، كما جاء في بعض روايات الحديث[8].

في قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، الضمير يرجع إلى ماذا لا يَمَسُّهُ؟ [الواقعة:79].

أكثر أهل العلم على أنه يعود إلى الكتاب المكنون فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ۝ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:78-79]، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، لا يمس هذا الكتاب المكنون إلا المطهرون، من هم المطهرون؟.

أكثر أهل العلم يقولون: الملائكة، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:13-16]، والقرآن يُفسر بعضه بعضًا، والمس ما المراد به؟.

من أهل العلم من يقول: المقصود به اللمس لا يلمسه إلا المطهرون، من هم المطهرون؟ إذا قلنا: هم الملائكة وكما يعبر ابن جرير يقول: المطهرون من الذنوب، من هم المطهرون من الذنوب؟ كل بني آدم خطاء، فهم الملائكة، وكلام ابن جرير يُفهِم أيضاً أن الرسل يدخلون في ذلك باعتبار أنهم مطهرون من الذنوب بهذا الاعتبار، على هذا القول.

فهنا المس لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، إذا قلنا: المس هو اللمس فقيل: معناه لا ينزل به إلا المطهرون وهم الملائكة، وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:210]، كتاب محفوظ ما تقترب منه الشياطين، ولما بعث الله محمداً ﷺ قالت الجن والشياطين: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ۝ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:8-9]، مرصود، الشهب جاهزة تُضرب بها هؤلاء الشياطين، فهم استغربوا هذا الذي حدث.

فالشاهد أنه هنا قيل: لا يمسه أي لا ينزل به، وقيل لا يقرؤه إلا المطهرون، فهذا باعتبار أنه الذي في اللوح المحفوظ أو الذي بأيدي الملائكة، وعلى اعتبار أنه هذا القرآن الذي بأيدينا -المصحف الذي بأيدينا، فبعضهم قال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، أي: من الأحداث، الحدث الأصغر والحدث الأكبر، واحتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر، واحتجوا بما ورد من الأحاديث ككتاب النبي ﷺ لعمرو بن حزم وفيه: لا يمس القرآن إلا طاهر[9]، ونحو ذلك مما ورد، ولكن هذه الروايات لا تخلو من ضعف، وقد تتقوى بمجموعها، ولكن يبقى المعنى فيها فيه إجمال لا يمس القرآن إلا طاهر، هذا كتبه لأهل اليمن، أهل اليمن فيهم يهود ونصارى، وفيهم مجوس، وفيهم أهل إشراك، وفيهم مسلمون، فما المراد؟.

هل المراد لا يمس القرآن إلا طاهر بمعنى مسلم؛ لأن النبي ﷺقال: المسلم لا ينجس[10]، أو المراد لا يمسه إلا طاهر يعني من الحدث الأصغر، أو لا يمسه إلا طاهر يعني من الجنابة؟

الحديث محتمل، والنبي ﷺ كتبه للآدميين لا يمس القرآن، معناه ليس الذي في أيدي الملائكة ولا اللوح المحفوظ إلا طاهر، فهذا خطاب لبني آدم لا يمس القرآن إلا طاهر، لكن يبقى المعنى يتردد بين هذه المعاني، وإذا كان متردداً هذا التردد فإن هذا ما يسمى بالمجمل، بمعنى أن معناه يحتمل أكثر من معنى، ولكن لو بقينا مع هذه الأدلة فقط فإن ذلك قد لا يكفي في تقرير معنى وهو أنه لا يجوز مس القرآن إلا بطهارة، لكن نضيف إليها ما ورد عن بعض الصحابة كسعد بن أبي وقاص وجماعة مما يدل على أنه لا يجوز للمُحدث حتى الحدث الأصغر أن يمس القرآن، وهي روايات صحيحة ولا يُعلم لها مخالف، وقول الصحابي إذا لم يُعلم له مخالف فإنه حجة، ولهذا يقال -والله تعالى  أعلم: إنه لا يجوز للإنسان أن يمس القرآن إلا بطهارة، سواء كان عليه حدث أصغر أو حدث أكبر، لكن كثير من النساء يسألن هذه الأيام عن قراءة القرآن وتقول: جاءتها العادة وهي لم تختم؟، نقول: قراءة القرآن غير مس المصحف، فالقراءة النصوص الواردة أنه لا يقرأ القرآن حائض ولا جنب[11]، كل الأحاديث الواردة في هذا لا تصح، منع الجنب والحائض من قراءة القرآن، كل الأحاديث فيها اضطراب من جهة اللفظ، وفيها ضعف من جهة الإسناد.

ولهذا يقال: الأرجح -والله تعالى أعلم- أنه يجوز للمُحدث حدثاً أصغر أو أكبر أن يقرأ ما شاء من القرآن، والنبي ﷺ حينما قال: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر[12]المقصود به الاستحباب، قال الإمام البخاري -رحمه الله: "باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت"، وقال في ترجمة هذا الباب: "وقال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الآية، ولم يرَ ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً، وكان النبي ﷺ يذكر الله على كل أحيانه"[13]، فهذا يدل من صنيع البخاري -رحمه الله- على أنه يرى أن الجنب والحائض يقرأان القرآن، والله تعالى أعلم.

لكن من غير مس، ولهذا نقول للمرأة التي تسأل عن هذا مثلاً في حال الحيض أو الإنسان المُحدث: اقرأ في كتاب من كتب التفسير، مثلاً الكتب التي عندكم الآن في هذه الأدرج المصباح المنير، أو تفسير السعدي أو نحو هذا تجدون في هامشه التفسير وفي الوسط القرآن، فيقرأ دون أن يمس المربع الذي فيه القرآن، والسبب في ذلك هو أن هذا الكتاب الغالب عليه التفسير فيقال: تفسير ابن سعدي، هذا مختصر ابن كثير، مع أنه يوجد في المربع قرآن، لكن إذا كان التفسير مجرد كلمات قليلة وكلمات القرآن أكثر منها فإنه يقال له: مصحف، فلا يقرأ فيه إلا بحائل، فالمرأة تلبس القفاز أو تقلبه بشيء بعود أو نحو هذا وتقرأ ما شاءت وتختم، لا تنقطع من القراءة، والله تعالى أعلم. 

لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، بعضهم قال: من الأحداث والأنجاس، وهذا قال به قتادة وجماعة، وبعضهم قال: المطهرون من الشرك، وبعضهم يقول كالربيع بن أنس: المطهرون من الذنوب والخطايا، ومَن المطهرون من الذنوب والخطايا؟.

هم الملائكة، وبعضهم فسره بمعنى آخر كما جاء عن الفراء قال: "لا يجد نفعه وبركته إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من آمن به"[14]، وهذا أشبه ما يكون بالتفسير الإشاري، وهو من المواضع القليلة جدًّا التي يمكن أن يُستلطف فيها هذا المعنى لا على أنه تفسير، الكلام على المس، وهنا يقول: لا يجد بركته، فإذا كان لا يمسه إلا المطهرون كذلك لا يجد نفعه وبركته وتُفتح مغاليق معانيه إلا للقلوب الطاهرة، فهذا من قبيل التفسير الإشاري، من المواضع القليلة التي يُقبل فيها هذا النوع من التفسير.

وقال بعضهم: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق، وهذا أيضاً ليس تفسيراً على ظاهر اللفظ وإنما هو من قبيل أيضاً ما يُسمى بالتفسير الإشاري.

الجمهور من العلماء -رحمهم الله- يقولون: لا يجوز للمُحدث أن يمس المصحف، وهو منقول عن جماعة من الصحابة كعلي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد وجماعة من التابعين كعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة، وهذا قول مالك والشافعي وكثير من الفقهاء، ونُقل ذلك عن ابن عباس والشعبي وهو مروي عن أبي حنيفة أيضاً أنه لا يجوز للمُحدث أن يمس القرآن، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، وابن القيم -رحمه الله- ذكر معانيَ لطيفة في هذا فهو يقول: "هذا القرآن قال الله عنه: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ۝ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [الشعراء:210-211]، فيقول: هذه يؤخذ منها لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، أنه لا يمس المصحف إلا طاهر من باب أنه كما أن الذي في السماء لا يمسه إلا طاهر، فكذلك ينبغي للذي في الأرض أن لا يمسه إلا طاهر، وهكذا يقول: "لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به"[15]، كما فهم ذلك الإمام البخاري -رحمه الله- من الآية فقال في صحيحه: "باب قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا [آل عمران:93]، قال: "لا يمسه" لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا المؤمن؛ لقوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]"[16]، وكذلك لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي إلا القلوب الطاهرة، وأما القلوب النجسة فممنوعة من فهمه مصروفة عنه، يقول: فتأمل هذا النسب القريب، وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية"[17]، يعني: هذا غير التفسير بالظاهر، وإنما هو يؤخذ من الإشارة أن الشيء بالشيء يُذكر، يقول: "فهذا الفهم الذي أشار إليه علي في قوله: "إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتاب"[18]، يعني: هذه الاستنباطات الدقيقة والمعاني والنكات، فالحاصل أن معانيَ القرآن لا تُفتح لقلب معرض عنه مشغول عنه باللهو واللغو والخنى والغناء ونحو ذلك، فالقلب الملوث المشوش بالأكدار لا تُفتح له معاني القرآن، ولهذا قال شيخ الإسلام فيما نقله عن غيره في قوله ﷺ: إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة[19]، قال: "فكذلك القلوب إذا كانت تحمل أخلاق الكلاب"[20]، فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة، فمن أراد أن يُفتح له في معاني القرآن فيحتاج إلى أن يطهر قلبه، لا يكون قلبه مشغولاً منهمكاً في الدنيا، وأبو الدرداء كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من تفرق القلب، فسئل عن هذا فقال: أن يكون له بكل واد مال"[21]، إنسان مشغول في الدنيا ما يفكر لشيء، هذا أين تُفتح له معاني القرآن؟، وكذلك إذا كان مشغولاً بالشهوات لا يفكر إلا بالشهوات، ويتتبع هذه وينظر إلى القنوات وصور النساء الفاتنات، وأغلفة المجلات، ومواقع الإنترنت وغير ذلك، هذا القلب لا يُفتح أبداً ويكون محلا للقرآن، بل قد يعاقب هذا الإنسان فينسى ما حفظه من كتاب الله .

وهكذا المشغول بكلام الفلاسفة أو بكلام المنظِّرين من الغربيين وغيرهم عن القرآن مثل هذا لا يُفتح له، ولذلك تجد بعض هؤلاء المساكين لربما يمضي عليه الزمان الطويل في كتب مترجمة ونحو ذلك ودورات ويظن أنه حصّل شيئًا وإذا جاء لك برمّة ما حصله وإذا هو بربع آية، فكل ما يقوله القائلون من المعاني الصحيحة فهو مضمن في هذا القرآن بأقرب عبارة وأحسنها، ولكن لبُعدهم عن القرآن يظنون أنهم جاءوا بأشياء جديدة ومعانٍ وتربية وإصلاح للنفوس وتزكية وما أشبه ذلك، وما علموا أن التزكية موجودة في هذا القرآن لكن يحتاج أن يقبل عليه الإنسان، وهذا هو الأمر الثاني، يحتاج الإنسان أن يقبل على القرآن بكليته ما هو يقرأ لماماً في رمضان فقط وإذا ذهب رمضان ضاع المصحف، وإذا جاء رمضان بدأ يبحث أين المصحف؟، أين مصحفي؟، ابحثوا عنه، فيجده في رف قد اغبر، كما صور بعض الشعراء أو بعض من كتب في المقامات يصور حاله وهجر الناس له، يقول:

............... كأنني مصحفٌ في بيت زنديق[22]

كيف يكون حال المصحف في بيت الزنديق؟ مُغبر، ما يُقرأ فيه، نسأل الله العافية.

ولهذا أقول: نحن في ختام هذا الشهر منظر لا شك أنه يُبهج ويُفرح المؤمن إقبال الناس على كتاب الله في المساجد، في الليلة الماضية الناس من التراويح إلى القيام بين قائم وتالٍ لكتاب الله هذا جيد، لكن هل يكون آخر عهدنا بالقرآن هو هذا الشهر؟ سافرت إلى بعض البلاد أندونيسيا مثلاً، دعاة ترى أثر العبادة على وجوههم، الدورة تنتهي الساعة الثانية عشرة من الليل من الساعة الثامنة صباحاً، أربع دورات متتالية، هم في غاية الإجهاد والتعب بت معهم ليلة ينامون بعد الثانية عشرة، ويقومون بأعباء كثيرة في نفس الوقت فبت معهم ليلة واحتجت في حدود الساعة الثانية والنصف الذهاب إلى الخلاء -أعزكم الله- فوجدتهم بين قائم وراكع وساجد، ثم عرفت أن هذا هو ديدنهم، طلبوا بعد المغرب أن أتحدث عن عبادة السلف، فجلست أتحدث، وإذا بدموعهم على خدودهم تسيل، رأيت في المسجد مكاناً قد حُجر عليه بخشب، فسألت ما هذا؟ فقالوا: هذا محل الاعتكاف، أهل عبادة، ودعاة، وطلبة علم، وأصحاب سنة، وبالمناسبة نساء يغطين وجوههن وقفازات وأكثرهن طبيبات، الداعيات القائمات على البرامج، وبعض بناتنا بدأن يتململن من الحجاب.

فأقول: القرآن دائماً وليس فقط في رمضان، الصلاة في الليل، ولا يشترط الصلاة في الليل أن ينام الإنسان ثم يقوم، لا، صلَّ قبل أن تنام، ولله عباد لا يتركون هذا، إحدى الفتيات في الثانوية في آخر سنة في الثانوية أيام الاختبارات تسأل تقول: إنها تصلي من الليل نصف ساعة ومتحرجة جدًّا ومتأثمة، تقول: أيام اختبارات نهاية العام، فأنا جلست أتحدث أنها تتدرج وتعود نفسها وتزيد ركعتين ثم بعد سنة تزيد ركعتين، قالت: لا، أنا من سنوات أصلاً أصلي ساعتين كل ليلة، لكن سؤالي هو أيام الاختبارات صرت أصلي نصف ساعة هل هذا يعتبر ذنبًا وتقصيرًا فإني لا أستطيع أن أصلي ساعتين مع المذاكرة والسهر والاختبارات في الثالث الثانوي؟، تقول: أنا من سنوات أصلي ساعتين في اليوم، ونحن نتجهد في أول الليل بساعة مع الفرض، ونتجهد نصلي آخر الليل ساعة إلا ثلثًا، ونعتبرها طويلة، كيف يقرأ الإمام وجهين في الركعة؟، هذا أين يوجد؟!، ويوجد في مسجد من بعد العشاء إلى قبيل أذان الفجر المصلون يتسحرون في نفس المسجد، ما يدركون أن يذهبوا إلى بيوتهم، صلاة واحدة من بعد العشاء إلى قبيل الفجر، وفي إحدى المرات نسي فجلس يقرأ فأذن الفجر لما سلموا، وما أكلوا سحورهم.

فأقول أخيراً: الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر وجوهاً في أن المراد بالقرآن الكتاب المكنون ليس هو المصحف الذي بأيدينا، وإنما هو الذي في اللوح المحفوظ، احتج على هذا بسبعة أوجه، قال: "الله وصفه بأنه مكنون أي: مستور عن العيون، والمصحف الذي بأعيننا ليس بمستور عن العيون، كذلك قال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، وهم الملائكة، ولو أراد المتوضئين لقال: المتطهرون، كما قال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].  

والثالث قال: هذا إخبار "لا يمسه" يخبر عنه وليس نهيًا، ما قال: لا يمسسه إلا المطهرون، وكذلك أيضاً الرابع: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان قد جاء بهذا القرآن فقال الله : وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:210]، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]، فلا يأتيه إلا الأرواح الطاهرة، ومن ذلك أيضاً قال: هذه الآية تفسرها آية عبس: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [عبس:13-14]، وقد قال الإمام مالك -رحمه الله- في الموطأ: "أحسن ما سمعتُ في تفسير قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، يعني: تفسيره بآية عبس"[23].

والسادس: أن الآية مكية، وفي مكة يقرر الله قضايا تتعلق بالنبوة والوحي والاعتقاد والتوحيد دون الكلام في الأحكام الجزئية، مسألة أنه يمس القرآن طاهر أو متوضئ أو غير متوضئ، والوجه السابع والأخير يقول: لو أُريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة؛ لأن أيّ كلام يمكن أن يكون مضمناً في كتاب[24].

فأين العظمة؟، لكنه يقول كما ينقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "إذا كان الذي في السماء لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فينبغي أن يكون الذي في الأرض لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ"[25]، فنحن في هذه الفوائد كما ترون نضمنها موعظة ولطائف، وفوائد ومسائل فقهية إلى غير ذلك؛ ليستفيد الجميع، العوام، وطلاب العلم، والصغير والكبير.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1.  انظر: تفسير الطبري (22/ 361).
  2. زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 77).
  3. تفسير الطبري (22/ 361).
  4. المصدر السابق (22/ 362).
  5. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 391).
  6. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (7937)، والحاكم في المستدرك، برقم (4216)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
  7. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ:18]: زُمَرًا، برقم (4937)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر في القرآن، والذي يتتعتع فيه، برقم (798).
  8.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ:18]: زُمَرًا، برقم (4937)، عن عائشة ا، عن النبي ﷺ قال: مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
  9. أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (6559)، والحاكم في المستدرك، برقم (1447)، ومالك في الموطأ، برقم (234)، والطبراني في الكبير، برقم (13217)، والدارمي في سننه، برقم (2312)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7780).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الغسل، باب عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس، برقم (283)، ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن المسلم لا ينجس، برقم (372).
  11.  أخرجه الترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرأان القرآن، برقم (131)، وابن ماجه، أبواب التيمم، باب تحت كل شعرة جنابة، برقم (595)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (6364)، وفي السلسلة الضعيفة، برقم (192).
  12. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب أيرد السلام وهو يبول؟، برقم (17)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (206)، والحاكم في المستدرك، برقم (592)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (13)، وفي صحيح الجامع، برقم (2472).
  13. صحيح البخاري (1/ 68-69)، وأخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، برقم (373).
  14.  معاني القرآن للفراء (3/ 130).
  15.  انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 172).
  16. انظر: صحيح البخاري (9/ 155-156).
  17. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 173).
  18. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فكاك الأسير، برقم (3047).
  19. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3225)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة، برقم (2106).
  20.  مجموع الفتاوى (5/ 552).
  21. أخرجه أبو داود في الزهد، برقم (223)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (10181)،  وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 219).
  22. هذا البيت لعبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد القاضي شيخ المالكية في عصره وعالمهم، انظر: البداية والنهاية، لابن كثير (12/ 41)، والوافي بالوفيات للصفدي (19/207)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3 / 221)، والبيت بتمامه هو:
    ظللتُ حيرانَ أمشي فِي أزقّتها *** كأنني مصحفٌ فِي بيت زنديق
  23.  انظر: موطأ الإمام مالك، برقم (682).
  24. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 390).
  25. شرح عمدة الفقه لابن تيمية (1/ 384).

مواد ذات صلة