السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[27] من قول الله تعالى: {هُو َالَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية 189 إلى قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} الآية 198
تاريخ النشر: ٢١ / ذو الحجة / ١٤٢٧
التحميل: 2872
مرات الإستماع: 2267

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ۝ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة الأعراف:189، 190].

ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم ، وأنه خلق منه زوجته حواء، ثم انتشر الناس منهما كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [سورة الحجرات:13]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [سورة النساء:1] الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

الإشراك في قول الله : فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، لأهل العلم من الصحابة ومن بعدهم كلام، هل وقع من آدم ﷺ، أو أن المقصود غيره؟ والمشهور الذي عليه عامة أهل العلم ولا ينبغي العدول عنه، أن المراد به آدم ﷺ وحواء، وإن قال من قال بأن المراد بالنفس الواحدة، أي: أن الله خلق الناس من نفس واحدة، أي: من هيئة وشكل واحد، وهو هيئة الإنسان وحقيقتها، وإن اختلفوا في بعض الفوارق غير المؤثرة في هذه الحقيقة، فقوله: مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ أي: من هيئة واحدة، وهذا تأويل بعيد،

والذي دعاهم إلى هذا القول هو أنهم يريدون أن يقولوا: إن آدم ﷺ وحواء لم يقع منهما هذا الإشراك وليس هو المراد، وكان بإمكانهم أن يقولوا غير هذا الكلام الذي فيه ما فيه من التعسف في حمل النفس على الهيئة الواحدة، وليس في فصل أول الكلام عن آخره أي إشكال، فيقولوا: إن أول الكلام في آدم ﷺ، وإن آخره جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ليس في آدم، فالآية لا تتحدث عن آدم ﷺ، والمشهور كما سبق أن الله خلق آدم ﷺ، وخلق منه زوجه حواء كما قال الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [سورة النساء:1]، ومن أهل العلم من يقول بأن قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي: جعله من جنسها، فهو كقوله -تبارك وتعالى: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [سورة النحل:72]، وظاهر الآيات تدل على خلاف هذا المعنى بالنسبة لآية الأعراف، وإن كان ذلك ملزوماً للمعنى المشهور وهو أن الله خلق آدم وخلق منه حواء، فهي من جنسه، والله أعلم.

وقال في هذه الآية الكريمة: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا أي: ليألفها ويسكن بها، كقوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم:21]، فلا ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين، ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه.

فَلَمَّا تَغَشَّاهَا أي: وطئها، حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا وذلك أول الحمل لا تجد المرأة له ألماً، إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة.

وقوله: فَمَرَّتْ بِهِ قال مجاهد: استمرت بحمله.

وروي عن الحسن وإبراهيم النخعي والسدي نحوه، وقال ميمون بن مهران عن أبيه: استخفته، وقال أيوب: سألت الحسن عن قوله: فَمَرَّتْ بِهِ قال: لو كنت رجلاً عربياً لعرفت ما هي، إنما هي فاستمرت به.

وقال قتادة: فَمَرَّتْ بِهِ استبان حملها.

وقال ابن جرير: معناه استمرت بالماء قامت به وقعدت.

وقال العوفي عن ابن عباس -ا: استمرت به فشكّت أحملت أم لا.

قوله: فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرت، هو المشهور والأقرب -والله تعالى أعلم، ويدل عليه قراءة ابن عباس -، وهي في الشواذ {فاستمرت به، والقراءة الشاذة تفسر القراءة المتواترة، هذا الذي عليه أكثر السلف، وقال ابن جرير: معناه استمرت بالماء قامت به وقعدت، فاستمرت فسره بمعنيين، الأول: مرت أي: استمرت، فقال: قامت به وقعدت؛ لأنه جاء في قراءة أخرى شاذة {فمارت به، المور هو الحركة، يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا [سورة الطور:9]، ولعله راعى هذه القراءة وهي قراءة أيضاً منسوبة لابن عمر -ا، وفي قراءة أخرى أيضاً مروية عن ابن عباس ويحيى بن يعمر فَمَرتْ بِهِ أي: جزعت بهذا الحمل، والأول أشهر -والله أعلم.

فَلَمَّا أَثْقَلَت أي: صارت ذات ثقل بحملها، وقال السدي: كبر الولد في بطنها.

قوله: فَلَمَّا أَثْقَلَت أي: صارت ذات ثقل إذا كبر الولد.

دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً أي: بشراً سوياً، كما قال الضحاك عن ابن عباس -ا: أشفقا أن يكون بهيمة، وكذلك قال أبو البختري وأبو مالك: أشفقا ألا يكون إنساناً.

قوله: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً، هذا الدعاء يمكن أن يحمل على أعم معانيه، وهذا الذي اختاره أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله، فيدخل فيه صلاح الدين، وصلاح العقل، وكمال الخلقة وصلاحها، بحيث لا يكون مشوهاً.

وقال الحسن البصري: لئن آتيتنا غلاماً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ۝ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

روى ابن جرير عن الحسن -: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا قال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن في آدم.

فالكلام موصول لفظاً مقطوع معنى، فكأنه يتحدث عن قضية واحدة، لكنه في المعنى مفصول، فالكلام الأول -وعليه عامة أهل العلم- في آدم وحواء، وضمير التثنية يدل عليه في قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ كل هذا في آدم وحواء فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا.

ذهب كثير من السلف إلى أن المراد به آدم وحواء في قوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً، ويذكرون روايات إسرائيلية أنه جاءهما إبليس وطاف بهما، وقال: إنه يكون له قرن أيل ويشق بطنك، فخافت من هذا فأرشدها إلى المخرج من هذا كله، وهو أن تسميه بعبد الحارث، وأن الحارث هو الشيطان، فسموه بعبد الحارث -يعني آدم ﷺ وحواء- والشيطان قد أغواهما من قبل بالأكل من الشجرة، فأُخرجا من الجنة، فنزلا إلى دار الشقاء، وآدم نبي، يوحى إليه، ثم بعد ذلك يقع مرة ثانية في الشرك، هذا شيء لا يمكن أن يعقل ولا يقبل، نبي ويقع في الشرك، ويخدعه الشيطان مرتين، والثانية أشد من الأولى، قالوا: هذا شرك تسمية، وشرك التسمية ما هو بشرك، فسموه بهذا الاسم خوفاً من حصول مشكلة، وهذا الكلام غير صحيح، ولا مقبول ولا يصح إطلاقاً عن النبي ﷺ شيء في هذا، ومثل هذه الروايات لا يعوّل عليها، مع كثرة القائلين بها، لذلك قال الحسن وطائفة: إن هذا الكلام من قبيل الموصول لفظاً المفصول معنى، فيكون أول الآية في آدم وحواء، وهذا الجزء الأخير فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء في بعض أهل الملل، يعني في غير آدم وحواء، هذا فيمن وقع من ذريته من الإشراك. 

ومن أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- من قال: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء أي: آدم وحواء، لكن المفصول عنده في الذرية؛ لأنها جاءت بصيغة الجمع فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ عما وقع من إشراك من أشرك بالله من ذرية آدم ﷺ، فابن جرير -رحمه الله- نظر إلى التثنية في الضمير وأنه متسق مع كل ما قبله ثم جاء بصيغة الجمع، والذين قالوا: هذا كله في آدم وحواء، قالوا: إن هذا من الالتفات، التفت من التثنية إلى الجمع، وقد يعبر عن الاثنين بصيغة الجمع، كما قال الله : فإن كان له أخوة، ومعلوم أن هذا الحجب -حجب النقصان- يحصل بأخوين، تحجب الأم من الثلث إلى السدس، فالذي يظهر -والله أعلم- أن أول الآية في آدم وحواء، وأن قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء ليس في آدم وحواء، وقول الحسن هو الأقرب والأحسن -والله أعلم.

وعنه قال: عنَى بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده، يعني جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا.

وعن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهوّدوا ونصّروا، وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن -، أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، وأنه ليس المراد بهذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس، كقوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [سورة الملك:5] الآية، ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن، والله أعلم.

قوله: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ لا يرجم بالمصباح، ولكن يرجم بالشهب.

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ۝ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ۝ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ۝ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ۝ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ۝ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:191 - 199].

هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة، لا تملك شيئاً من الأمر ولا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم، ولهذا قال: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي: أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئاً ولا يستطيع ذلك؟ كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ۝ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحج:73، 74]، أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو سلبتهم الذبابة شيئاً من حقير المطاعم وطارت لما استطاعوا إنقاذه منها، فمَن هذه صفته وحاله كيف يُعبَد ليرزق ويُستنصر؟! ولهذا قال تعالى: لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي: بل هم مخلوقون مصنوعون، كما قال الخليل : أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [سورة الصافات:95] الآية.

قوله: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ۝ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ إلى آخره، سياق الآية يدل على أن المراد بها المشركون، وهي قرينة تدل على أن المراد بأول الآيات آدم وحواء وآخرها في الذرية وما وقع منهم من الإشراك، -والله أعلم.

ثم قال تعالى: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا أي: لعابديهم، وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعني: ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء كما كان الخليل -عليه الصلاة والسلام- يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة، كما أخبر تعالى عنه في قوله: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [سورة الصافات:93]، وقال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [سورة الأنبياء:58]، وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل -ا- وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله ﷺ المدينة، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطباً للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك ويرتئوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح -وكان سيداً في قومه- صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفاً ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضاً، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلَّياه في حبل في بئر هناك فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل وقال:

تالله لو كنتَ إلهاً مُسْتدَن لم تك والكلب جميعاً في قرن

ثم أسلم فحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيداً - وأرضاه- وجعل جنة الفردوس مثواه.

وقوله: وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم الآية، يعني: أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها، كما قال إبراهيم : يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [سورة مريم:42]، ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها، أي: مخلوقات مثلهم، بل الأناسي أكمل منها؛ لأنها تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئاً من ذلك.

وقوله: قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ الآية، أي: استنصروا بها عليّ، فلا تؤخروني طرفة عين، واجهدوا جهدكم، إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي: الله كافيِّ وحسبي، وهو نصيري وعليه متكلي وإليه ألجأ، وهو وليي في الدنيا والآخرة، وهو ولي كل صالح بعدي، وهذا كما قال هود لما قال له قومه: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ۝ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة هود:54 – 56]، وكقول الخليل -: أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ۝ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ۝ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [سورة الشعراء:76- 78] الآيات، وكقوله لأبيه وقومه: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ۝ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الزخرف:27، 28].

وقوله: إن الذين تدعون من دون الله إلى آخر الآية مؤكد لما تقدم، إلا أنه بصيغة الخطاب، وذلك بصيغة الغيبة، ولهذا قال: لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [سورة الأعراف:197].

وقوله: وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ، كقوله تعالى: إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ [سورة فاطر:14] الآية.

وقوله: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ إنما قال: ينظرون إليك أي يقابلونك بعيون مصورة، كأنها ناظرة وهي جماد، ولهذا عاملهم معاملة من يعقل؛ لأنها على صورة مصورة كالإنسان، وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ فعبر عنها بضمير من يعقل.

هذه الآيات تتحدث عن آلهة المشركين وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ فإنك إذا نظرت إلى التمثال المصور الذي له أعين، تراه كأنه ينظر إليك، ينظر إلى من ينظر إليه، أو يقابله، لكنه لا يبصر، وهذا ظاهر السياق، ومن أهل العلم من قال: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ أي: المشركين، وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ أي: لا يبصرون الحق، لكن هذا القول بعيد، والذي ألجأ القائل إلى هذا القول التعبير بصيغة العقلاء في قوله: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ، ولم يقل تنظر إليك هذا أمر، والأمر الآخر هو: أن الأصنام لا تنظر، فقالوا: المراد العُبَّاد لهذه الأصنام، وهذا لا داعي له؛ لأن هذه التماثيل على هيئة من ينظر، وإن كانت لا تبصر، والسياق كله في هذا، وإرجاع الضمائر إلى مرجع واحد أولى من التفريق بها بلا شك، وقال في هذه الآيات: وَإِن تَدْعُوهُمْ ولم يقل: وإن تدعها إلى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ، ولم يقل: لا تتبعكم، وقال: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ ولم يقل: تنظر إليك.

وقوله: وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ أي: لا تبصر، ثم قال: لاَ يَسْتَطِيعُونَ ولم يقل: لا تستطيع، فالتعبير عن غير العقلاء بهذه الطريقة: لا تستطيع، تنظر، وعن العقلاء: ينظرون، يستطيعون، وما أشبه ذلك، فعبر عنها بهذه الصيغة التي تكون للعقلاء؛ لأن هؤلاء ما جعلوها مجرد عقلاء، بل جعلوها آلهة، فجاراهم في ذلك، والخطاب في القرآن قد يأتي بحسب نظر المخاطب، وإن كان المخاطب لا يعتقده، وهو نوعان: قد يكون لاعتقاد المخاطب باطلاً، وقد يكون صحيحاً، فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ[سورة الحجر:6] خاطبوه بناء على قوله واعتقاده، والمخاطِب لا يعتقد هذا، لا يعتقد أنه نزل إليه الذكر، وهو حق كونه أنزل إليه الذكر، وأحياناً لا يكون صحيحاً، والمخاطب لا يعتقده مثل هذا، فهؤلاء ليسوا بآلهة، كما يُسمي أحياناً شبهات الكفار حجة، حُجَّتُهُمْ، مع أنها شبهة، ولكن قال هذا بناء على اعتقادهم أنها حجج، ويسمي هذه المعبودات الباطلة أحياناً آلهة بناء على اعتقادهم، جعلوها آلهة، وهكذا التعبير عنها بهذه الصيغ، فإذا نُزِّل غير العاقل منزلة العاقل عومل معاملته، كما قال يوسف ﷺ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4]، ولم يقل: رأيتها لي ساجدة؛ لأن الشمس والقمر أضيف إليها فعل من أفعال العقلاء وهو السجود، فعوملت معاملة العقلاء، والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة