الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[7] من قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} الآية 17إلى قوله تعالى: {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} الآية 23.
تاريخ النشر: ٠٦ / صفر / ١٤٢٨
التحميل: 2705
مرات الإستماع: 2299

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [سورة الأنفال:17، 18].

يبيّن تعالى أنه خالق أفعال العباد، وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه، ولهذا قال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ أي: ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم، أي بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [سورة آل عمران:123] الآية، وقال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [سورة التوبة:25]، يُعلم -تبارك وتعالى- أن النصر ليس على كثرة العدد، ولا بلبس اللأمة والعُدد، وإنما النصر من عنده تعالى كما قال تعالى: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:249]، ثم قال تعالى لنبيه ﷺ أيضاً في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه[1] ثم أمر أصحابه أن يصْدقوا الحمْلة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، ولهذا قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى أي: هو الذي بلّغ ذلك إليهم، وكبتهم بها لا أنت.

وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً أي: ليُعَرّف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته، وهكذا فسره ابن جرير أيضاً، وفي الحديث: وكل بلاء حسن أبلانا[2].

وقوله: إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: أي سميع الدعاء، عليم بمن يستحق النصر والغلب.

وقوله: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر، أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم وأنهم وكل ما لهم في تبار ودمار، ولله الحمد والمنة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ أي: لم تقتلوهم بحولكم وقوتكم وعددكم، وإنما قتلهم الله ، وهذا لا إشكال فيه، وأما قوله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: أي: هو الذي بلّغ ذلك إليهم، وكبتهم بها لا أنت، وهذا تفسير أهل السنة لهذا الآية، بلّغ ذلك إليهم، وليس نفياً ولا يدل ذلك على عقيدة الجبرية، قال: وكبتهم بها لا أنت، فيكون المعنى أن الله أثبت للنبي ﷺ الرمي، ولكن الذي بلّغ هذه الرمية إلى الكفار ففعلت فعلها هو الله ، فالرمي من النبي ﷺ وأثر هذا الرمي من الله.

فهذا الرمي الذي رمى به ﷺ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ليس ذلك نفياً للرمي من أصله عن النبي ﷺ ولكن نفي لهذا الرمي بهذا الأثر، وذلك أن النبي ﷺ أخذ حفنة من تراب ثم رماها في وجوههم، فكان ذلك سبباً لهزيمتهم، دخل هذا في عيونهم. 

ومن أهل العلم كالإمام مالك -رحمه الله- من يقول: إن هذا كان في يوم حنين، وذلك أن أصحاب النبي ﷺ لما انهزموا وما بقي معه إلا نحو عشرة، أخذ حفنة من التراب ثم رمى بها وجوههم، وقال: شاهت الوجوه فما بقي أحد منهم إلا دخل في عينيه من هذا التراب فانهزموا، وهذا وإن كان قد وقع في يوم حنين، إلا أن هذه الآيات تتحدث عن يوم بدر. 

وهكذا قول من قال: إن المقصود تلك الرمية التي رمى بها النبي ﷺ بالحربة حينما ضرب أبي بن خلف في يوم أحد، وكان ذلك سبباً لموته في الطريق حينما كانوا راجعين إلى مكة، أو قول من قال: إن ذلك حينما رمى النبي ﷺ بسهم في يوم خيبر فأصاب به مَن وراء الحصن، أصاب به ابن أبي الحقيق، ولكن هذا في ثبوته نظر، وليست الآيات في هذا، والراجح أن هذا كان في يوم بدر، وسياق الآيات كله في بدر، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى قال ابن كثير: أي هو الذي بلّغ ذلك إليهم.

قوله: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً قال: أي ليعرّف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته، والإبلاء: بمعنى الإنعام، أي: لينعم عليهم ويتفضل عليهم، بإظهارهم على عدوهم، وكبت هذا العدو، وقد استحر القتل فيهم على أيدي أصحاب النبي ﷺ، وحصل الظفر، والنصر الكبير، والغنيمة التي حازوها من الكفار، فأبلاه: يقال في الخير، وابتلاه: غالباً في الشر، أو في المكروه، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً أي: لينعم عليهم ويتفضل عليهم بحصول هذه الأمور المطلوبة المحبوبة لهم. 

وقوله: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ يقول: هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد عدوهم فيما يستقبل، والإشارة في قوله: ذَلِكُمْ يحتمل أن تعود إلى البلاء الحسن؛ لأن الله موهن كيد الكافرين، فهذا الإبلاء هو قتلهم، وهزيمتهم، وإظهار المؤمنين عليهم، ذَلِكُمْ أي: الإبلاء الحسن، وقيل: إن الإشارة عائدة إلى القتل الذي وقع والرمي، قتلهم الله وأوصل التراب حتى دخل في أعينهم؛ من أجل كسرهم وإذلالهم وإضعاف قوتهم، وهذه المعاني صحيحة، ويمكن أن تحمل الآية على الجميع كما قال كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، فالقتل الذي وقع وإيصال الرمي بالتراب إليهم وهزيمتهم؛ لإذلالهم وإضعاف قوتهم، وكسرهم، ولهذا قال الله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ۝ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [سورة التوبة:14، 15] كل هذه الأمور تحصل لمجاهدتهم، وقتالهم ولا شك أن حصول هذه الأمور على أيدي المؤمنين أشفى للصدور.

إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنفال:19].

يقول تعالى للكفار: إِن تَسْتَفْتِحُواْ أي: تستنصروا وتستقضوا الله.

تستقضوا الله أي: تطلبون منه القضاء، فالسين والتاء للطلب، تستقضوا الله: يعني تطلبون أن يقضي بينكم وبين عدوكم.

وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم ما سألتم، كما قال محمد بن إسحاق وغيره عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة، وكان ذلك استفتاحاً منه فنزلت: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ إلى آخر الآية.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقْطعُنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة، فكان المستفتح. وأخرجه النسائي في التفسير، وكذا رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وروي نحو هذا عن ابن عباس -ا- ومجاهد والضحاك وقتادة ويزيد بن رومان وغير واحد.

وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فقال الله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ يقول: قد نصرت ما قلتم وهو محمد ﷺ.

قوله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ السين والتاء للطلب يعني: تطلبوا الفتح، والْفَتْحُ أي: الحكْم، ويقال للحاكم فاتح، ويقال للحكْم أيضاً فتاحة.

فإني عن فتاحتكم غني.

أي: عن حكمكم غني، ويقول بعض العلماء: تسمية الحكْم بالفتح، هذا في لغة حمير، وهي لغة عربية صحيحة جاءت في القرآن، كما قال الله عن شعيب وقومه: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:89]، افتح بيننا وبينهم أي: احكم بيننا وبينهم بالحق، وفي نفس القصة ذكر الله عن شعيب ﷺ قوله: وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا [سورة الأعراف:87]. 

فالشاهد: حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا هذا مفسر لقوله: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ يعني احكم بيننا وبين قومنا بالحق، إِن تَسْتَفْتِحُواْ أي: تطلبوا الحكم والقضاء بين الفريقين، فقد جاءكم الحكم، وهو هذه الهزيمة الساحقة، وقتل هؤلاء الصناديد الكبراء،

ومن أراد أن يعرف حقيقة ما جرى في يوم بدر فليقرأ في السيرة مثل سيرة ابن هشام مثلاً، أبداً لا يكاد يخطر في بالك أحد من الكبراء، وإن كنت لا تعرف من هم الكبراء فإذا قرأت أول مسير المشركين إلى بدر فستعرف من هم الكبراء ومن هم المطعمون العشرة، نعم، فلا يمر عليكم اسم من أسماء هؤلاء الكبراء إلا وقد ذكر في القتلى، ومن لم يذكر في القتلى فستجده في الأسرى، شيء هائل، يقف الإنسان عنده متفكراً: كل هذا قد وقع وهو لا يخطر في البال، ولا يدور في الخيال، مع ما هم فيه من التحصن والتحرز والقوة والكثرة والغرور، حتى إن أبا جهل جاء وحوله كوكبة من المدججين بالسلاح، وحتى إنهم ليقولون: إن أبا جهل كالحرجة، من كثرة من يحيط به، -والشجر الملتف الذي له شوك ولا يستطاع التوصل إلى منتهاه أو إلى وسطه يقال له: حرجة- وكل ذلك قد أذهبه الله  وولوا الأدبار، واقرءوا ما قيل في هذا من الأشعار وما قيل في هجائهم، ما قاله حسان بن ثابت وغير حسان، ذهبوا وتركوا الإخوان والأحباب والقادة والسادة على الأرض ثم سحبوا بعد ثلاثة أيام إلى القليب، حتى ما دفنوا، السادة العظام يسحبون بعد ثلاثة أيام بعدما جيفوا، يسحبون سحباً إلى القليب.

وصح في قوله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ سبب النزول الذي أورده الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قول أبي جهل حين التقى القوم: اللهم أقطعُنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان المستفتِح، وأبو جهل هو القائد وهو كبيرهم، فيكون ذلك استفتاحاً منهم، استفتاح أبي جهل هو استفتاح من المشركين، ولذلك أضافه إليهم فقال: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ؛ لأن ذلك جرى على مقدمهم وكبيرهم وقائدهم، فنسب ذلك إليهم، فأحنه معنى الأحن الهلاك والمحْق والاستئصال، فأحنه: امحقه أي: أهلكه.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو قوله تعالى إخباراً عنهم: وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ [سورة الأنفال:32] الآية، وقوله: وَإِن تَنتَهُواْ أي: عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله فهو خير لكم، أي في الدنيا والآخرة.

قد يأتي في كتب التفاسير أقوال لا وجه لها إطلاقاً، وهذا دليل على تباين الأفهام، ومن ذلك قول البعض في قوله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ، وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ: إن بعضها راجع إلى المؤمنين، وبعضها يرجع إلى الكفار، وبعضهم يقول: هذه تتعلق بالمؤمنين يوم أخذوا الغنائم، وإن تعودوا إلى أخذ الغنائم نعد إلى معاتبتكم، يقول الله : فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ، وهذا في غاية البعد، والسياق لا يدل عليه لا من قريب ولا من بعيد.

وقوله تعالى: وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ كقوله: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا [سورة الإسراء:8] معناه: وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة، نعد لكم بمثل هذه الواقعة.

قوله: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا، وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ أي: إن تعودوا إلى قتال المؤمنين، إن تعودوا إلى الاستفتاح، كل ذلك وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ فعادوا إلى كفرهم وعادوا إلى قتال المؤمنين، وجاءوا في يوم أحد فقتل منهم سبعون في أول المعركة، وهزموا شر هزيمة، وسقط اللواء، وأخذته جارية وحملته، كما قيل في هجائهم:

وعبد الدار سادتهم الإماء.

وفر الرجال والنساء وكان في النساء هند بنت أبي سفيان، شاهدها الصحابة، وهي تشتد في الجبل منهزمة، وما كان دون أخذهم إلا الشيء اليسير، ثم وقع ما وقع من عصيان للنبي ﷺ، فحصل ما حصل من الهزيمة وتغيرت موازين المعركة.

وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ أي: ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا، فإن من كان الله معه فلا غالب له.

وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وهم الحزب النبوي والجناب المصطفوي.

هذا أصل كبير ينبغي أن يعقله أهل الإيمان، أن الكفار مهما كانت أعدادهم، لا تغني عنهم ولا تدفع عنهم بأس الله  ولا القتل ولا الهزيمة على يد المؤمنين إن كانوا محققين للإيمان، ولهذا قال: وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل: وأن الله مع الأوس والخزرج، وإنما ربط ذلك بالإيمان، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فمعيّة الله  للمؤمنين على قدر تحقيقهم للإيمان، فإذا كانوا محققين للإيمان، وأعدوا لعدوهم ما استطاعوا من قوة -والله لا يكلف نفساً إلا وسعها- فإنه مهما تمالأ أهل الأرض عليهم، ومهما كان عند العدو من العُدد والعَدد فإن ذلك لا يغني عنهم شيئاً، فالله ينصر أولياءه، والواقع شاهد كبير بهذا، ولم يكن ذلك لأصحاب النبي ﷺ فحسب، وإنما لكل تابع لآثارهم ومقتفٍ لطريقتهم وسنتهم، فله من ذلك نصيب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ۝ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ۝ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ۝ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [سورة الأنفال:20-23].

يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ﷺ، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له، ولهذا قال: وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره، وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ أي: بعدما علمتم ما دعاكم إليه.

وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ.

قوله: أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ الضمير مفرد وقد ذكر قبله طاعة الله، وطاعة الرسول ﷺ، فذكر شيئين وأعاد الضمير بالإفراد، فيحتمل أن يكون الضمير يعود على أحدهما، ويحتمل أن يعود إلى الأخير، كما هي القاعدة: أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: عن رسوله ﷺ، وهذا القول يمكن أن يرجَّح لأنه أقرب مذكور، ومن جهة أخرى أن الآية قد تحتمل معنيين فأكثر، ويكون أحد القولين متضمناً للقول الآخر أو مستلزماً له، فتحمل الآية عليه أو عليهما، باعتبار الملازمة، فإما أن نرجح ونقول: إنه يعود إلى النبي ﷺ إلى قوله: وَرَسُولَهُ باعتبار أنه أقرب مذكور، وباعتبار أن طاعة رسول الله ﷺ طاعة لله ، أو يقال: إنه عائد إلى الله .

وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ؛ لأن طاعة الله هي المقصودة، وطاعة الرسول ﷺ تبع لطاعة الله ، ويحتمل أن يعود الضمير إلى الأمرين، بناء على أن الآية تحتمل معنيين، ويكون أحد المعنيين مستلزماً للآخر، أو متضمناً له، فتحمل عليهما جميعاً؛ لأن من أطاع الرسول ﷺ فقد أطاع الله، وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: الرسول ﷺ وطاعته طاعة لله، كما في قوله تعالى مثلاً: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3]، الغاسق: القمر، وبعضهم يقول: الليل تنتشر فيه الهوام والسباع والشياطين من شياطين الإنس والجن، وهذان القولان بينهما ملازمة؛ فالقمر يظهر ليلاً فلا يحتاج أن نرجح، وقوله: وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ يحتمل أن يكون أصلاً المراد به طاعة الرسول ﷺ ابتداء، ولكنه قد يُذكَر أمران ويعود الضمير إلى أحدهما والمقصود الجميع، وكأحد الأقوال المشهورة في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [سورة الجمعة:11]، أعاد الضمير مفرداً إِلَيْهَا ما قال: إليهما، ويمكن أن يفسر بغير هذا، لكن على هذا القول يكون داخلاً ضمن هذا الأصل الذي تقدم.

  1. رواه مسلم برقم (1777)، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين.
  2. رواه النسائي في السنن الكبرى (6/82)، برقم (10133)، وابن حبان في صحيحه (12/22)، برقم (5219)، والبيهقي في الشعب (6/218)، برقم (4067)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/242)، للإمام أبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي - بيروت، ط4، سنة النشر: 1405هـ، كلهم من حديث أبي هريرة ، وقال الشيخ مقبل الوادعي: حسن على شرط مسلم كما في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين برقم (1326)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير (1/765).

مواد ذات صلة