الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[10] من قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} الآية 30 إلى قوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الآية 35.
تاريخ النشر: ٠٩ / صفر / ١٤٢٨
التحميل: 1644
مرات الإستماع: 2149

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة الأنفال:30].

قال ابن عباس -ا- ومجاهد وقتادة: لِيُثْبِتُوكَ ليقيدوك.

وقال السدي: الإثبات هو الحبس والوثاق.

وروى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس -ا- قال، وحدثنا الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس -ا: أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد سمعت أنكم اجتمعتم فأرد أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي، قالوا: أجل، ادخل فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليه أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فانظروا في غير هذا. 

قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم، حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق والله، فانظروا رأياً غير هذا. 

قال فقال أبو جهل لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً، ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، قال فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى لا أرى غيره. 

قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل النبي ﷺ فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله ﷺ في بيته تلك الليلة، وأذن الله عند ذلك بالخروج، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه، وبلاءه عنده، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، وأنزل في قولهم: تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [سورة الطور:30]، فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، للذي اجتمعوا عليه من الرأي[1].

وعن السدي نحو هذا السياق.

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ أي: فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قوله - تبارك وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أي: واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا، والمكر: وهو التدبير في الخفاء، لِيُثْبِتُوكَ المشهور أنه بمعنى الحبس، كما جاء في هذه الرواية التي أوردها المصنف -رحمه الله- من طريق الكلبي، قال في أول ما ذكر: احبسوه في وثاق، ومن أهل العلم من فسر ذلك بالجراح، تقول: أثبتته الجراح، ولعله يرجع إلى المعنى الأول، فيكون المعنى لِيُثْبِتُوكَ أي: يقيدوك ويحبسوك فلا تظهر دعوة إلى الناس، وينتظرون حتى يموت.

وقوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ أن الله - تبارك وتعالى - يمكر بهؤلاء الماكرين والظالمين، والمجرمين والكافرين، ويكون تدبيرهم الذي دبروه وبالاً عليهم، كما في قول الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [سورة الأنفال:36]، فالله له القدرة التامة والعلم الكامل، والحكمة، يصرف الأمور على وفق علمه وحكمته وإرادته، وإن تبيّن في ظاهر الأمر أو في مبادئه خلاف ذلك للناس، لكنه ينكشف في العاقبة عن أمر لا يخطر لهم على بال، ولا يتصوره هؤلاء الكفار، وهو أمر مشاهد، وإلا لو كان مكر الكفار المكر الكبار، لو كان يتم لهم على وفق ما أرادوا وخططوا لم يبق للإسلام بقية، يقول ابن القيم -رحمه الله:

والله لولا الله حافظ دينه وكتابه لتهدمت منه قوى البنيان[2]

لا يبقى شيء على كثرة هذا المكر والكيد عبر التاريخ، سواء لشخص النبي ﷺ أو لهذا الدين، ولكن الله يمكر بهؤلاء فيوقعهم في شر العواقب في مغبة فعلهم ومكرهم وتدبيرهم الذي دبروه.

وهذه الرواية وإن كانت مشهورة في السير لكنها لا تصح من جهة الإسناد.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ۝ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [سورة الأنفال:31-33].

يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم ودعواهم الباطل عن سماع آياته إذا تتلى عليهم أنهم يقولون: قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا، وهذا منهم قول بلا فعل، وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً، وإنما هذا القول منهم يغروا به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم، وقد قيل: إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث لعنه الله، كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم، فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم رستم وأسفنديار، ولما قدم وجد رسول الله ﷺ قد بعثه الله وهو يتلوا على الناس القرآن، فكان -عليه الصلاة والسلام- إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصاً أنا أو محمد، ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول الله ﷺ أن تضرب رقبته صبراً بين يديه، ففعل ذلك ولله الحمد.

وقوله - تبارك وتعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا المعاني التي ذكرها الحافظ ابن كثير قال: إذا تتلى عليهم أنهم يقولون: قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا قال: وهذا منهم قول بلا فعل، ثم ذكر قول النضر بن الحارث، والآية تحتمل معنيين قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا قد سمعنا هذا الكلام الذي تضيفه إلى الله وتقول: إنه أوحاه إليك، ولو استطعنا لقلنا مثله، فهو لا يختلف عن كلامنا وقولنا، وقدرنا لا تقل ولا تعجز عن الإتيان بمثله، وهذه دعوى؛ لأن الله تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة، وما استطاعوا، ما استطاع أحد إلى يومنا هذا أن يأتي بمثل هذا القرآن.

أما أهل الإشراك فلم ينقل عن أحد منهم أنه حاول أن يعارضه إطلاقاً، والذي نقل عنه محاولة أن يأتي بمثل القرآن باعتبار أنه نبي وكتب للنبي ﷺ كتاباً يقول فيه: بأن الأرض نصفان، نصفها لي ونصفها لك، فالنبي ﷺ لم يجبه إلى هذا، وكان يأتي بأشياء يزعم أنها وحي، لا يقصد بها معارضة القرآن وإنما يقصد أنه يوحى إليه، فلا زال يضحك الناس إلى يومنا هذا، "والفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، وكان يقول: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسد من رطب ولا يابس"[3]، ويقول: "والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، رفيقكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والناعي فواسوه"[4]، هذه سور مسيلمة الكذاب، وبقيت كلمة الكذاب تلازمه إلى يومنا هذا، إذا ذكر مسيلمة ذكر الكذاب معه، وأبو بكر الصديق في أيام حروب الردة لما جيء ببعض أصحاب مسيلمة قال: أسمعوني ما يقول صاحبكم، فلما سمع هذه الفِرى قال: أشهد أن هذا لم يخرج من إل، يعني من رب. 

والمعنى الآخر التي تحتمله الآية، وهو قَدْ سَمِعْنَا يعني من قصص وأسمار وأساطير الأمم كفارس، والهند، والروم، لو شئنا لأتينا بمثل هذا، يقولون: هذا تلقيته من غيرك، ونحن سمعنا أشياء وأشياء لو شئنا لجارينا هذا القرآن وأتينا بمثله، ويقال: إن النضر بن الحارث، كان يجلس للناس لا أنه يأتي بمثل القرآن أو يحاكيه بأسلوبه وبلاغته وفصاحته، وإنما كان يقص على الناس من القصص التي سمعها، حينما كان يسافر إلى الحيرة وما أشبه هذا، ولهذا قتله النبي ﷺ صبراً من بين الأسارى هو وعقبة بن أبي معيط، وضربت عنقة.

وقوله: وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم، وهذا مما عيبوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة، كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [سورة العنكبوت:53] وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [سورة ص:16] وقوله: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ۝ لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ۝ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ[سورة المعارج:1-3]، وكذلك قال الجهلة من الأمم السافلة، كما قال قوم شعيب له: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة الشعراء:187]، وقال هؤلاء: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، قال شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي عن أنس بن مالك قال: هو أبو جهل بن هشام قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. [5] رواه البخاري.

ورواه أيضاً مسلم، ولا يستغرب هذا من أبي جهل، فكل مسمى له من اسمه نصيب، ولكن الله  أضافها إليهم بصيغة الجمع وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ وهذا لا إشكال فيه، وذلك أن القول قد ينسب إلى الطائفة أو الأمة، إذا كان قد صدر من مقدمها وقائدها، وكذلك أيضاً كل طائفة تكون على دين واحد، وحال واحدة، فإن ما صدر من بعضها فإنه يمكن أن يضاف إلى مجموعها، كما يذكر الله عن بني إسرائيل، يخاطب الذين كانوا في زمن النبي ﷺ، يقول: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ [سورة البقرة:61] وما أشبه هذا، مع أن الذين قالوا ذلك هم أجدادهم الذين كانوا في زمان موسى -عليه الصلاة والسلام، فلما كانوا على طريقتهم ودينهم، صح نسبة ذلك إليهم، فهم قالوا في القرآن بأنه أساطير الأولين، والأساطير جمع أسطورة أو إسطارة وهي: ما يسطر من مختلقات الأوليين وقصصهم وحكاياتهم. 

وقوله: وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ قال هذا غيرهم من الأمم المكذبة مبالغة منهم في التكذيب، يعني هم يريدون أن يظهروا الوثوق الكامل بأن هذا ليس من عند الله، مثل ما يقول الإنسان: إن كان ما تقوله حقاً فيدعو ربه أن يموت الآن، وأن لا يخرج من هذا المكان وهو حي، يريد أن يبدي للآخر أن هذا الكلام الذي تقوله لا يمكن أن يكون مصدقاً ومقبولاً، هكذا عبروا، وكان من الواجب عليهم أن يقولون: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ولكن إنما يقول هذا من كان منصفاً طالباً للحق، لكن من كان مكابراً وهو لا يقول هذا إطلاقاً، ولا يريد أن يتطرق هذا الاحتمال أصلاً إلى ذهن أحد، ولذلك فإنه يقابله بمثل هذا الرد والعبارة، حتى أنهم ما دعوا بالهلاك مجمل، لكن جاء بهذا الدعاء المختص المفصل البليغ ليدل على أنه واثق كل الثقة من أن هذا باطل لا يمكن أن يكون حقاً.

ولذلك من طرق الجدال والمناظرة طريقة معروفة، وهي التنزل مع المخالف، مثل ما قال إبراهيم ﷺ: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] للكوكب، قاله مناظراً لا ناظراً، وكقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة سبأ:24]، هذا من باب التنزل وإلا يعلم أنه على هدى، وكذلك على أحد المعاني التي فسر بها قوله -تبارك وتعالى: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81]، وقوله: وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [سورة غافر:28] فمثل هذا من باب التنزل، هو يعلم أنه صادق، فالأمم السابقة قالت مثل هذه المقولات، فقوم صالح قالوا: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأعراف:77]، إلى غير ذلك، وقد أورد المصنف -رحمه الله- جملة من مقالات المكذبين للرسل عليهم الصلاة والسلام.

وقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، فيقول النبي ﷺ: قدٍ قد[6].

قوله ﷺ: قدٍ قد أي: يكفي لا تزيدوا عليه، فيزيدون في الإشراك يقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، وهذا معنى قول الله : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:106].

ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، ويقولون: غفرانك غفرانك، فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ الآية، قال ابن عباس -ا: "كان فيهم أمانان النبي ﷺ والاستغفار، فذهب النبي ﷺ وبقي الاستغفار"[7].

وهذه الرواية لا تصح في سبب النزول، لكن كانوا يلبون بهذه الطريقة، فالله يخبر عنهم وعن حالهم وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ هم طلبوا العذاب فذكر مانعين من موانع العذاب، الأول: وجود النبي ﷺ بين أظهرهم، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ فالله يخرج الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وينجيهم إذا أراد أن يوقع العقوبات بأممهم، كما حصل لنوح -عليه الصلاة والسلام- ولوط، وهود وصالح، فينجيهم الله -تبارك وتعالى، فخرج النبي ﷺ من بين أظهرهم، فبقي الأمر الآخر وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.

والمراد بالاستغفار من أهل العلم من يقول: أي من سيخرج من أصلابهم، كما قال النبي ﷺ فيما يروى عنه قال: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً[8] وهذا التفسير فيه بعد، وقول الله : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يدل على أنه استغفار واقع، وفسره بعض أهل العلم باستغفار المؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم، ممن صدق النبي ﷺ وآمن به، وقيل: بأن هذا الاستغفار باعتبار ما سيكون من بعضهم، علم الله أنهم سيؤمنون، فيكون منهم الاستغفار، وهذا فيه بعد، وقيل: كان يقع منهم الاستغفار، كما في هذه الرواية، وإن كانت لا تصح من جهة الإسناد، ويقولون: غفرانك غفرانك، وبعضهم فسر الاستغفار بالصلاة ولكن يقول الله: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [سورة الأنفال:35]، وبعضهم فسره بالإسلام وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وهذه المعاني بعيدة، وأحسن ما فسر به ذلك أن هذا كما قال ابن جرير -رحمه الله- بمعنى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي: ولكنهم لا يستغفرون فاستوجبوا العذاب، ولهذا قال بعده: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ [سورة الأنفال:34]، ولا يقال هذا بالنسبة لأهل الإيمان الذين كانوا بين أظهرهم؛ لأن هؤلاء ينجيهم الله إذا وقع العذاب -والله أعلم.

وروى الترمذي عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: أنزل الله علي أمانين لأمتي وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة[9]، ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسند والحاكم في مستدركه عن أبي سعيد -: أن رسول الله ﷺ قال: إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني[10]. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۝ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ.

يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول ﷺ بين أظهرهم، ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم وأسر سراتهم، وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد، فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذي لا يرد، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يرى أن الاستغفار الواقع هو استغفار المؤمنين، وأنه كان سبب ارتفاع العقوبة عنهم، لكن الله  يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، ولم يقل: وفيهم من يستغفر، فأضاف الاستغفار إليهم، ليدل على أنه يريد بذلك الكفار الذين استحقوا العذاب، وهذا الاستغفار غير واقع منهم وهم في غاية الكفر والعناد ويقولون: إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً، فتفسير ابن جرير المتقدم أقرب والله أعلم، وبه يفهم ما بعده من قوله: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وكثير من أهل العلم استشكل هذا، ثم قال: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ فيُجمع بين هذا وبين هذا، فبعضهم يقول: هذا من قبيل النسخ، وهذا بعيد؛ لأن هذا خبر والخبر لا يتطرقه النسخ، ولكنهم لجئوا إلى هذا لمحاولة دفع الإشكال، وعلى قول ابن جرير يكون المعنى في غاية الوضوح، وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ أي: فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذي لا يرد.

ولكن دفع عنهم بسبب أولئك، كما قال تعالى في يوم الحديبية: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[سورة الفتح:25].

هذا في قضية معينة وهي دخول الجيش إلى مكة في قصة الحديبية، فكان المانع وجود بعض المؤمنين الذين لو دخل الجيش لوقع عليهم القتل الخطأ، فدفع الله ذلك لَوْ تَزَيَّلُوا أي: لو تميزوا عن الكفار لوقع بالكفار النكال والبأس الذي يجريه الله على أيدي المؤمنين، لكنهم يقولون: إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا[سورة الأنفال:32]، يريدون عقوبة إلهية، فذكر الله أنهم مستحقون لها، فالاستغفار ليس واقعاً من المؤمنين الذين بين أظهرهم، ويكون ذلك مانعاً من عقوبة البقية، فالكفر إذا وقع وظهر فإن الناس يستحقون العقوبة، والمؤمنون ينجيهم الله ، وإن كانوا يمالئونهم وليس لهم عذر وقع العذاب بالجميع، ولذلك لما جاءوا معهم في غزوة بدر نزل فيهم قول الله : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [سورة النساء:97]، فلا عذر لهم، هؤلاء ممن قتل مع المشركين في يوم بدر من المسلمين، نبيه ومنبه من بني الحجاج، وجماعة خرجوا في يوم بدر مع المشركين، وهم مسلمون.

وقوله: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ.
 
 
 
 
  1. ذكره الإمام السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول (97)، وابن القيم في زاد المعاد (3/45)، بتحقيق الأرناؤوط، والإمام الطبري في تفسيره (13/494)، برقم (15965).
  2. متن القصيدة النونية (22)، للإمام ابن القيم.
  3. انظر: البداية والنهاية (6/326)، للحافظ ابن كثير.
  4. انظر: البداية والنهاية (6/326)، للحافظ ابن كثير.
  5. رواه البخاري برقم (4371)، كتاب التفسير، باب وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، ومسلم برقم (2796)، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب في قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} الآية.
  6. رواه مسلم برقم (1185)، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/1691)، برقم (9017)، تحقيق: أسعد محمد الطيب، المكتبة العصرية، ورواه مسلم برقم (1185)، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها.
  7. هذه تتمة رواية ابن أبي حاتم المتقدمة، رواها أيضاً البيهقي في السنن الكبرى (5/45)، برقم (8819)، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز- مكة المكرمة، سنة النشر:1414هـ- 1994م.
  8. رواه البخاري برقم (3059)، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، ومسلم برقم (1795)، كتاب اللقطة، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، من حديث عائشة ا.
  9. رواه الترمذي برقم (3082)، وقال: هذا حديث غريب وإسماعيل بن مهاجر يضعف في الحديث، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (1341).
  10. رواه الإمام أحمد في المسند (17/337)، برقم (11237)، وقال محققوه: حديث حسن، والحاكم في المستدرك (4/290)، برقم (7672)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (104).

مواد ذات صلة