الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
[14] من قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} الآية 50 إلى قوله تعالى: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} الآية 54.
تاريخ النشر: ١٥ / صفر / ١٤٢٨
التحميل: 2031
مرات الإستماع: 2156

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى: 

وقوله: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [سورة الأنفال:49].

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في هذه الآية قال: لما دنى القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

وقال قتادة: رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله، وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد ﷺ وأصحابه قال: والله لا يعبد الله بعد اليوم، قسوة وعتواً.

وقال عامر الشعبي: كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ.

وقوله: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ أي: يعتمد على جنابه، فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ أي: لا يضام من التجأ إليه، فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان، حكيم في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها، فينصر من يستحق النصر، ويخذل من هو أهل لذلك.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ معلوم أن المنافقين أنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، والنفاق لم يظهر إلا بعد غزوة بدر، فالمسلمون قبل ذلك لم يكن لهم شوكة، وكانوا قلة ضعفاء، فلا حاجة للنفاق، بل كانوا يظهرون العداوة، فلما انتصر المسلمون في غزوة بدر قال عبد الله بن أبي: هذا أمر قد توجه فادخلوا فيه ظاهراً، يعني لا قبل لكم بمعاندته ومحاربته، فبدأ النفاق، ومكة لم يكن فيها نفاق، والمهاجرون لم يكن فيهم منافق، ولم يشهد بدر أحد من المنافقين، ويكفي أن يقال: هذا من أهل بدر، وقول الله : إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ، نزل بعد بدر بمدة وذلك لأن سورة الأنفال لم تنزل جملة واحدة، فمنها ما نزل بعدها بمدة وهذه الآية منها، وهي مما يتصل بغزوة بدر وهو الأقرب؛ لقوله -تبارك وتعالى- قبلها: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ[سورة الأنفال:48]، فهذه في بدر ثم قال بعدها: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ، أي: وذكر إذ يقول المنافقون في ذلك الحين. 

وقوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ من أهل العلم من يقول: إنهما بمعنى واحد، وهم المنافقون، كما في قوله: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12]، وبعضهم يقول: هم قوم من المسلمين ضعفاء الإيمان، لم يثبت الإيمان في قلوبهم، وقال بعض السلف، كما نقل من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس: أن قائل ذلك هم أهل الإشراك، فقال المشركون: غر هؤلاء دينهم، ففسر المنافقين والذين في قلوبهم مرض بالمشركين، ونقل أيضاً عن قتادة ما يدل على أن قائل ذلك هو أبو جهل، وجاء هذا في رواية أصرح من هذا ولكنها لا تصح، وكذلك قول الشعبي: كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر، أي: أن قائل ذلك هم قوم دخلوا في الإسلام وخرجوا مكرهين مع المشركين يوم بدر، فقال بعضهم هذا. 

وهذا الذي قال به ابن جرير -رحمه الله، قال: هم قوم من المسلمين لم يستحكم الإيمان، أو قوم من المشركين تكلموا بالإسلام ولم يستحكم ذلك في قلوبهم، وبعضهم يفسره بغير هذا، والنبي ﷺ أرسل زيد بن حارثة يبشر الناس بالنصر في المدينة، ممن تخلف عن رسول الله ﷺ؛ لأن الصحابة الذين بقوا في المدينة كثير، ما كانوا يتوقعون القتال واللقاء مع العدو، والنبي ﷺ لم يعزم على أحد بالخروج، فقال أسامة بن زيد لما جاء زيد بن حارثة، قال من قال من الناس لا سيما اليهود: إن هذا قد أصيب بعقله، يقولون: لشدة وهول ما رأى الرجل وقع له شيء في عقله، من شدة الخوف، لما قتل أصحابه وشردوا فجاء وهو لا يعي ما يقول، لما ذكر أن المسلمين انتصروا وقتل فلان وفلان وفلان وفلان، من المشركين هذا أمر غير معقول ولا يخطر على بال أحد، فقالوا ذلك، حتى قال أسامة : لما دخل أبي دارنا سألته: أحقاً يا أبي، هل هذا صحيح، فقال: نعم، فهذا الإشكال هو الذي جعل الكثير من السلف يفسرونها بمثل هذه الأقوال، يعني قوله: الْمُنَافِقُونَ بالمشركين، أو بأناس من المسلمين ممن كان في مكة لم يثبت الإيمان في قلوبهم. 

وإن سلم بهذا التفسير يكون هذا هو الموضع الوحيد الذي أطلق فيه النفاق على غير المعنى المشهور، حتى الذين كانوا بمكة ما كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، يمكن أن يفسر بأنهم في قلوبهم مرض لما وقع منهم من التقصير، وخروجهم مع المشركين لم يعذروا به، والله قال فيهم وفي أمثالهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [سورة النساء:97]، وقد قتل جماعة من هؤلاء الذين خرجوا مع المشركين، فهذا يمكن أن يفسر به الذين في قلوبهم مرض بلا إشكال، لكن يبقى ذكر المنافقين، ومما يدل على أن السورة منها ما نزل متأخراً قوله -تبارك وتعالى: وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ [سورة الأنفال:60]، وقوله: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ، كثير من المفسرين يقولون: هم اليهود، وبعضهم يقول: هم بني قريظة، وبعضهم يقول: هم أهل النفاق؛ لأنهم هم الذين لا نعلمهم، فهذا يكون نزل بعد ذلك بعد وجود النفاق، وبعد ما وقع من قريظة. 

وقوله -تبارك وتعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء [سورة الأنفال:58]، كثير من المفسرين يقولون: هم اليهود، وبعضهم يقول: هم يهود بني قريظة كما وقع ذلك في يوم الخندق، وقوله تعالى: الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ [سورة الأنفال:56] كثير من السلف فسرها باليهود، وبعضهم فسرها ببني قريظة، فهذا كله يدل على أن من السورة ما نزل متأخراً، والله أعلم.

وقول أبي جهل نقلاً عن قتادة من قبيل المرسل، قال: والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتواً.

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [سورة الأنفال:50، 51].

يقول تعالى: ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فضيعاً منكراً إذ يضربون وجوههم وأدبارهم ويقولون لهم: وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ.

قوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ حذف الجواب، وحذف الجواب في مثل هذا المقام أبلغ للتهويل والتعظيم؛ ليذهب الذهن معه كل مذهب، ماذا تتصور لو رأيت هذا، لرأيت أمراً هائلاً عظيماً فضيعاً، هذا هو التقدير، وهذا معروف في كلام العرب ولا يزال الناس يستعملونه إلى اليوم، تقول: لو تعلم ما ينتظرك، أي: لحسبت أو جزعت أو غير ذلك من المعاني التي يمكن يذهب إليها الذهن، كما قال حسان -: لو يعلمون يقين الأمر ما ساروا، فذكر الجواب هنا، لكن قد يقول قال: لو كان المشركون يعلمون ما ينتظرهم، لو يعلم الظالم ما ينتظره، يعني لخاف، ولتاب، لا لكف عن ظلمه، فحذف الجواب في هذا أبلغ، -والله أعلم.

وذكر الحافظ ابن كثير قال: لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فضيعاً منكراً، وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، من أهل العلم من قال: إن هذا في غزوة بدر، فالذين قتلوا في غزوة بدر من المشركين قتلتهم الملائكة بهذه الطريقة، يضربون وجوههم وأدبارهم، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة، يميزونهم فيكون مثل ضرب السوط، يكون قد ختم وجهه أو نحو ذلك، وقد ازرق أو اخضر، فهؤلاء قتلى الملائكة، فبعض أهل العلم فسره بهذا وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أن هذا كان في أرض المعركة. 

وبعضهم حمله على ما هو أعم، وهذا هو الأقرب -والله أعلم، كما قال الله : وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93]، فالملائكة يستخرجون أرواح الكفار بهذه الطريقة؛ لأنه قرينه، فليس المقصود به في يوم بدر في القتل الذي حصل، وذكر التوفي، والعادة أنه يعبر بالقتل، فيكون معنى قوله: إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أي: عند استخراج نفوسهم وأرواحهم، ومن أهل العلم من يقول: إن هذا في الآخرة، حين يساقون إلى النار، ومثل هذا لا يعبر عنه بالتوفي إِذْ يَتَوَفَّى يعني في حال الوفاة، فتستخرج أرواحهم كما وصف النبي ﷺ يزجر زجراً عنيفاً: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول[1]، يخرج معها العصب والعروق، حسبنا الله ونعم الوكيل.

ويقولون لهم: وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ، قال ابن جريج عن مجاهد: وَأَدْبَارَهُمْ: أستاههم، قال: يوم بدر.

كنى بالأدبار عن ذلك، ويعبر بالأدبار عن مؤخر الإنسان عموماً لقول الله : وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [سورة الأنفال:16] أي: ظهره، يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَ [سورة الأنفال:50]، أي: يضربونه من وجهه ومقدمه ويضربونه من خلفه.

قال ابن جريج: قال ابن عباس -ا: إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم، وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر، ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر، بل قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وفي سورة القتال مثلها. وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ أي: باسطوا أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم، إذا استصعبت أنفسهم وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً.

قوله: بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ يفسر البسط بالضرب، كما قال الله عن الكفار وعداوة الكفار قال: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ [سورة الممتحنة:2] يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم، هم أعداء أصلاً، والله يقول: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء فالعداوة مستحكمة في قلوبهم، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أي: أن هذه العداوة تتحول إلى فعل، والله قال عن اليهود: وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ[سورة آل عمران:119] من شدة ما يجد يعض أنامله. 

وقوله: يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء الثقف هو الحذق في إدراك الشيء، وهذه العداوة مشاهدة كما يقع على مر العصور والأزمان وفي هذه الأيام، سواء في ذلك اليهود والنصارى، وطوائف الكفار من الوثنيين أو المجوس أو غير هؤلاء، ومن ذلك أن الإنسان يقتل بالدريل في رأسه وهو حي، ومن أنواع التعذيب الذي يبين عداوة هؤلاء أنهم يجردونهم من ملابسهم ويضربونهم الضرب الشديد، وبفعل الفاحشة فيهم، سرقة الأعضاء، وتعليق وتعذيب بالكهرباء، وغير ذلك، وأمور لا يمكن أن يتخيلها الإنسان، كل أنواع التعذيب التي يمكن أن يصل إليها الشيطان يفعلونها بهم، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء يذهب الكلام المعسول والكلام الجميل والمجاملات، وحقوق الإنسان والإنسانية، والحرية والديمقراطية والمثل التي طال ما يتشدقوا بها إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء فقبحهم الله.

إذا استصعبت أنفسهم وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً، وذلك إذ بشروهم بالعذاب والغضب من الله كما في حديث البراء -: أن ملك الموت إذا جاء للكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتفرق في بدنه فيستخرجونها من جسده، كما يخرج السفود من الصوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب[2]، ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [سورة الحـج:22].

وقوله تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي: هذا الجزاء سبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا جازاكم الله بها هذا الجزاء، وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ أي: لا يظلم أحداً من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور، -تبارك وتعالى- وتقدس وتنزه الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [سورة الحـج:64].

قوله: وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ وظلَّام صيغة مبالغة على وزن فعّال، فلو جرد من المبالغة لقال: ليس بظالم للعبيد، فالنفي جاء بهذه الصيغة لَيْسَ بِظَلاَّمٍ ولو أعمل فيه مفهوم المخالفة، لربما يفهم منه أحد أن ليس بظلام، ظلام يعني كثير الظلم، فنفي كثرة الظلم قد لا يعني نفي أصل الظلم، فيمكن أن يجاب عن هذا: أنه عبر بذلك نظراً لكثرة العباد لَيْسَ بِظَلاَّمٍ، ولو وقع الظلم ولو يسيراً في كل واحد من الناس لكان ذلك كثيراً فقال: لَيْسَ بِظَلاَّمٍ.

والجواب الثاني: أن وقوع الظلم ممن له الكمال يكون أشنع وأعظم فنفى عنه ذلك بهذه الصيغة وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ، ونفى عن نفسه الظلم ولو كان يسيراً في عدة مواضع فقال: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [سورة يونس:44]، وهذه نكرة في سياق النفي تفيد العموم، وقال: لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [سورة النساء:40]، -والله أعلم.

ولهذا جاء في الحديث الصحيح عند مسلم -رحمه الله- من رواية أبي ذر عن رسول الله ﷺ: إن الله تعالى يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه[3]، ولهذا قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:52]، يقول تعالى: فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد كما فعل الأمم المكذبة قبلهم ففعلنا بهم ما هو دأبنا، أي: عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل، الكافرين بآيات الله، فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي: بسبب ذنوبهم أهلكهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ أي: لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب.

قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يعني: فرعون ومن معه من أتباعه، كدأبهم يعني عادتهم، والذين من قبلهم من الأمم المكذبة، لما كان هؤلاء فعلوا فعل من قبلهم من التكذيب والكفر ومحادة الله وتكذيب رسله أجرى الله عليهم عادته من إنزال العقوبة بهم وإهلاكهم، فدأبهم الكفر، فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ فالفاء تدل على أن ما بعدها مرتب على ما قبلها، وأن سبب الأخذ هو الكفر بالله ، فدأبهم التكذيب، ودأب الله معهم الأخذ والإهلاك وإنزال العقوبات.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ [سورة الأنفال:53، 54].

يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، كقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ [سورة الرعد:11].

قوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ ذلك من إهلاكهم بذنوبهم، فما أوقعه الله بهم كان على وجه العدل التام الكامل، فالله لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغروا ما بأنفسهم، فقوله: لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ وقوله: نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ أي: من الأمن، والأرزاق، والاستقرار في الأوطان، من بعث الأنبياء الذين يبينون لهم كلما يحتاجون إليه مما يحصل به هدايتهم وسعادتهم ورشادهم. 

لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ فكذبوا النبي ﷺ، فكان ذلك سبباً لهلاكهم، تحول أمنهم إلى خوف أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ[سورة العنكبوت:67]، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ۝ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [سورة قريش:3، 4] فما شكروا هذه النعم، فعاقبهم الله فقتل سادتهم وكبراءهم، وتحولت حياتهم إلى حياة منغصة، تكدر عليهم عيشهم، والنبي ﷺ كان بين أظهرهم، بعثه الله منهم وهذه نعمة عظيمة جداً وشرف لهم، فلم يراعوا هذه النعمة ولم يشكروها فتحول عنهم نبي الله ﷺ وصار إلى الأنصار -، وكانوا أسعد الناس بهذه النعمة، وهكذا كل من أعرض عما هو بصدده عاقبه الله بالاشتغال بضده، واليهود بعث الله لهم موسى ﷺ، وأنزل عليهم التوراة وكتبها بيده فكفروا وأعرضوا، فاشتغلوا بالسحر وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102] والأمثلة على هذا كثيرة.

قوله: لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ أي: يكون التغيير منهم، فتتحول عافية الإنسان إلى بلاء، وهذا أصل كبير في تغيير الأحوال وانعكاس الأمور، وتحول العافية، ونزول ألوان البلايا والمحن والفتن إذا غير الناس، فتتحول النعمة عنهم ويعقبها الأسى والبلاء والشر الذي يحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق، والآية الأخرى التي ذكرها قال: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [سورة الرعد:11]، فهذا يشمل حال البلاء، يعني من كانوا يعيشون في بلاء وقحط وفقر، وأمراض ومصائب وحروب وفتن، فإذا رجعوا إلى الله  وتابوا وأنابوا درت أرزاقهم واجتمعت كلمتهم وقويت شوكتهم وتحولت أحوالهم إلى أفضل الأحوال، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96]، إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.

فلا يتحول الناس من حال البلاء إلى العافية حتى يغيروا ما بأنفسهم وينيبوا إلى الله ، من كانوا في عافية، فإن ذلك لا يتحول عنهم فيعقبه البلاء والشر حتى يحصل منهم التبديل والارتكاس والتغيير، هذا هو المعنى، وكثير من الناس قد لا يفهم الآية، فهم لا يحملونها على أنه لا يحصل التغيير في النفس والاهتداء حتى يبتدئ الإنسان من نفسه بطلب ذلك؛ لأنه دائماً يستشهد بها على هذا المعنى إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، يقولون: لا يصلح الفرد ولا تصلح المجتمعات حتى يكون التغيير منهم، يقصدون لا يصلح ويستقيم، حتى يكون عندهم إرادة جادة في التغيير، وقد يقول: أدعو لي، فيقولون له: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وهذا غير صحيح -والله أعلم.

وقوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي: كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته، أهلكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم من جنات وعيون وزروع وكنوز ومقام كريم، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ [سورة الدخان:27] وما ظلمهم الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين.

قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ هنا استوت الآيتان، ثم قال: كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ، وقال في هذه الآية: كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ، وقال: فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ فذكر أهل العلم عدة فروق بين هاتين الآيتين، فمن أهل العلم من يقول: هذا تكرار للتأكيد، وفي الثانية زيادة ببيان العقوبة التي حلت بهم وهي الإغراق، وقال: فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ، فالآية الثانية بينت هذا الأخذ بالغرق، أغرقهم الله -تبارك وتعالى، فكأنه فيه تأكيد وزيادة بيان وإيضاح.

وبعضهم يقول: بأن الأولى يذكر الله فيها ما فعله هؤلاء من المكذبين من آل فرعون ومن شابههم، يعني قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ والثاني باعتبار ما فعل بهم كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ.

وبعضهم يقول المراد بالأول: كفرهم بالله ، بيان أنهم كفروا، والثاني: أنهم كذبوا الأنبياء، فقال: كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وفي الثانية قال: كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ، وهذا الفرق غير واضح، وابن جرير -رحمه الله- يقول: بأن هذا يراد به أن هؤلاء المشركين المقتولين في يوم بدر غيروا نعمة الله عليهم، وذلك أنه بعث فيهم محمداً ﷺ، كما كذب آل فرعون فأغرقهم الله ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ هؤلاء المشركين لما كفروا برسول الله ﷺ واستعاضوا بالكفر عن نعمة الإيمان واتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- وقع عليهم هذا القتل كما حصل لآل فرعون الإغراق بعد تكذيبهم لموسى -عليه الصلاة والسلام.

 
  1. رواه الإمام أحمد في المسند (30/501)، برقم (18534)، من حديث البراء بن عازب، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح، والبيهقي في الشعب (1/355)، برقم (395)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (158)، وفي صحيح الجامع برقم (1676).
  2. رواه أحمد في المسند (30/501)، برقم (18534)، لكن زيادة: "إلى سموم وحميم وظل من يحموم"، لم ترد فيه وإنما لفظه: " إلى سخط من الله وغضب"، وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1676).
  3. رواه مسلم برقم (2577)، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم.

مواد ذات صلة