السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[24] تابع قوله تعالى "وإذ فرقنا بكم البحر" الآية 50 إلى قوله تعالى "ثم بعثناكم من بعد موتكم" الآية 56.
تاريخ النشر: ٢٦ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 5129
مرات الإستماع: 4197

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة البقرة: 57] لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضاًَ بما أسبغ عليهم من النعم، فقال: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وهو جمع غمامة، سمي بذلك؛ لأنه يَغُمّ السماء أي: يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض ظُلِّلوا به في التيه ليقيهم حر الشمس.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس -ا- وقال الحسن وقتادة:  وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ كان هذا في البرية، ظلل عليهم الغمام من الشمس، وقال ابن جرير: قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا وأطيب.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله ألأمين، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى:  وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ الغمام: كل ما غم وستر وغطى من قتر وغبار وسحاب أياً كان هذا السحاب، سواء كان من السحاب الأبيض، أو كان من غيره كالجهام ونحوه فكل ذلك يقال له: غمام، ولا يختص بنوع دون نوع، وما ورد من تحديده بأنه سحاب أبيض فإن هذا مما أخذ عن بني إسرائيل، وإلا فإن كل ما غطاك وسترك فإنه يقال له: غمام.

وجاء في الحديث: كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف [1]، ومعنى غمامتان أي أن ذلك يستر ويغطي من تحته من السحاب وغيره، فلا يخص به نوع دون نوع من السحاب إلا بدليل.

وقوله تعالى:  وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [سورة البقرة: 57] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: "كان المنُّ ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا".

وقال قتادة: كان المنُّ ينزل عليهم في محلتهم سقوط الثلج أشدُّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية.

قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّْ [سورة البقرة:57] المن: لم يتفق المفسرون فيه على معنىً، فمنهم من يذكر أنه شيء حلو يشبه العسل، وبعضهم يقول: إنه أبيض اللون ينزل على الأشجار فيعلق بها، بمعنى أنه ليس صمغة متولدة من نفس الشجر كما يظن البعض، وإنما هو شيء ينزل عليها عند الفجر أو نحو هذا، وهو أبيض حلو الطعم يشبه العسل يقال: إنه لا زال إلى اليوم ينزل على الأشجار في بعض الأماكن.

وبعضهم يفسِّر المن بما هو أعم من ذلك -وهذا هو الأقرب- يقولون: كل ما حصل للإنسان من غير جد ولا جهد بحيث لا يحتاج إلى زرع وسقي وحرث وما أشبه ذلك فإنه من المن، ولهذا قال النبي ﷺ: الكمأة من المن[2] وفي بعض الألفاظ:  من المن الذي أنزل الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل[3].

 فيؤخذ من هذا أن المن لا يختص بهذا النوع دون غيره، لكن قول النبي ﷺ: من المن يدل على عمومه، فيكون قد نزل عليهم من المن ما يكفيهم لطعامهم ويغنيهم عما يزرعه الناس، فلا يحتاجون إلى شيء من هذا العمل والجهد الذي يبذل عادة لتحصيل مثل هذه الثمار والزروع وما أشبه ذلك، فيكون قد قيض الله لهم من الكمأ، ولا يمنع ذلك أن توجد أنواع أخرى كهذه الصمغة التي يذكرون، أو غير ذلك مما يهيؤه الله لهم من غير كد ولا تعب.

فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً، وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك رواية البخاري عن سعيد بن زيد، - قال: قال النبي ﷺ:  الكمأة من المنِّ وماؤها شفاء للعين [4] وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين[5] [تفرد بإخراجه الترمذي].

وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: "السلوى طائر شبيه بالسُّمانى كانوا يأكلون منه".

وروى السدي عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من الصحابة -: السلوى: طائر يشبه السُّمانَى، وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.

هذا قال به عامة السلف والخلف حتى إن بعضهم نقل الإجماع –كابن عطية- على أن المراد بالسلوى هو طائر، وإن اختلفوا في توصيف هذا الطائر، فهذا من باب اختلاف التنوع وليس من اختلاف التضاد.

فبعضهم يقول: السمانى طائر بالهند منقاره أحمر، وبعضهم يقول: هو طائر بين الحمامة والعصفور، وبعضهم يقول: هو طائر يشبه السمانى، وبعضهم يقول: هو السمانى، فالمقصود أنه طائر.

ونقل عن بعضهم أنه فسره بالعسل، واحتجوا ببعض كلام العرب، ولكن ذلك ليس بمشهور، وهو قليل جداً إن وجد، ولربما كان من وهمهم حيث ظن الشاعر أن السلوى هي العسل لربما كان ذلك، واحتجوا ببعض كلامهم من الشعر وهو قليل أيضاً:

وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها

نشورها يعني: نستخرجها ونجتنيها.

وعلى كل حال ففي مثل هذا لا يلزم أن يكون هذا الشاعر قد أحاط بالمعاني، فالشاعر يسمع الكلمة ويقول فيها بيتاً ويتوهم الشيء على غير حقيقته، وأما القول الأول فقد نقل ما يشبه الإجماع أن السلوى طائر، فلا تفسر السلوى بالعسل، والله أعلم.

وعن عكرمة: أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك، وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.

وقوله تعالى: كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [سورة البقرة:57] أمر إباحة وإرشاد وامتنان.

وقوله تعالى: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة البقرة:57]، أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا كما قال: كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ [سورة سبأ:15]، فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات وخوارق العادات.

ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد ﷺ و- على سائر أصحاب الأنبياء -عليهم السلام- في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلاً على النبي ﷺ لكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مَبْرك الشاة فدعا الله فيه، وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم، ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر، فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله، مع متابعة الرسول ﷺ.

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ۝ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [سورة البقرة:58-59].

يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد وعن دخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس، كما نص على ذلك السدي والرّبيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد، وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا الآيات [سورة المائدة:21].

وقال آخرون: هي أريحا ويحكى عن ابن عباس -ا- وعبد الرحمن بن زيد.

والأول هو المشهور، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.

وهذا من المبهمات في القرآن، ولا فائدة من معرفة هذه المدينة التي أمرهم الله بدخولها، ولكن قوله وصفها بأنها مقدسة يدل بظاهره أو يشعر أن المراد بها بيت المقدس، وأريحيا أو أريحا ليست كبيت المقدس وإن كانت من أطرافه وفي أكنافه إذ لا تبعد عن بيت المقدس كثيراً، وهي الآن في غور الأردن تقريباً، فالحاصل أن الظاهر هنا والله أعلم أنها بيت المقدس، لكن لا حاجة للاشتغال بمثل هذا؛ لأنه لا يترتب عليه فائدة.

وقوله: الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] لا يعني أن لهم حقاً في هذا بعد أن بدلوا وغيروا ولعنهم الله وشتتهم في أصقاع الأرض، كما قال تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا [سورة الأعراف:168]، والذي يريد أن يتمسك بمثل هذا سيقول: هذا أيضاً في أريحيا.

فالمهم أن ذلك كان في زمان ونكلوا، فعاقبهم الله بالتيه وأخبرهم أنها محرمة عليهم، أو أنها محرمة عليهم أربعين سنة -على أحد الاحتمالين- والمقصود أن الله ليس بينه وبين أحد نسب، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فأورثها الله عباده المؤمنين وصارت من بلاد الإسلام، فإذا تخلى المسلمون عن دينهم فهم لا يستحقونها ولا يستحقون غيرها، وإنما بلادهم هي بلاد العرب، فالعرب إنما كانوا في الجزيرة وأطرافها، لم يكونوا لا في بيت المقدس ولا في غيره، فإذا تخلوا ورجعوا إلى جاهليتهم وتعلقوا بالتراب فإنهم لا يستحقون لا هذا ولا هذا، وليس لهم شيء إلا التراب.

وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون وفتح الله عليهم عشية جمعة وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب -باب البلد-سُجَّداً أي: شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر وردّ بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال.

قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس -ا- أنه كان يقول في قوله: وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [سورة البقرة:58]: أي ركعاً.

وروى ابن جرير: عن ابن عباس -ا- في قوله:  وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً أي: ركعاً من باب صغير، ورواه الحاكم وزاد ابن أبي حاتم: فدخلوا من قبل أستاههم.

وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم، واستبعده الرازي.

استبعده الرازي؛ لأنه -على كلام الحسن- لا يتصور أنهم يسجدون على وجوههم حال دخولهم؛ إذ لا يستطيع أن يدخل الإنسان ووجهه على الأرض، فهذا هو وجه الاستبعاد، وذلك أن السجود يطلق على الانحناء في اللغة، فالراكع يقال له: ساجد، والساجد الذي يضع وجهه على الأرض يقال له: ساجد، فهؤلاء قوم أمروا بالدخول في حال السجود، فقال بعضهم: أمروا بالسجود المعروف الذي هو أبلغ صور السجود وهو وضع الجبهة على الأرض، هذه أوضح صورة للسجود وأبلغ صورة فيه.

وقال بعضهم: بأن المراد بقوله: وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [سورة البقرة:58] أي: أمروا أن يسجدوا، وليس معنى ذلك أن يكون داخلاً وهو يزحف ووجهه على الأرض، لكن هذا أيضاً اعترضه من اعترضه وقال: إن الله أمرهم أن يدخلوا وهم في حال السجود، وليس الأمر لهم أن يسجدوا سجدة إذا كانوا بالباب أو إذا دخلوه وجاوزوه سجدوا شكراً لله  على هذا الدخول من باب المدينة أو باب بيت المقدس؛ لأنه إذا كان كذلك لم يكن الواحد منهم قد دخل في حال السجود.

والتفسير الأقرب -والله أعلم- هو أن المراد بالسجود الانحناء أو الركوع، فأمرهم أن يدخلوا وهم في هذا الحال من التذلل والخضوع والتواضع والشكر لله ولكنهم عكسوا القضية وأداروا ظهورهم مكابرة وعناداً بعكس ما أمروا به تماماً، فبدلوا الفعل الذي أمروا به بفعل آخر قبيح وبدلوا القول بقول آخر قبيح، حيث قال لهم: وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58]، فقالوا: حبة في شعرة أو في شعيرة، أو غير ذلك مما روي في هذا المعنى، المقصود أنهم غيروا القول والفعل مقابل نعمة الفتح مع نبيهم الذي حبست له الشمس.

لقد رأوا كل نلك الأشياء ثم يقولون ويفعلون هذا القول وهذا الفعل، فما ظنك بفعلهم مع غير الله تعالى، ما ظنك بفعلهم مع عدوهم؟!

إن هؤلاء ليس لهم شبه إلا الفأرة بل وتكرم الفأرة أيضاً عنهم، ذلك أنك كلما تأملت في أحوالهم لا تجد أقرب ما يشبههم إلا الفأرة، والفأرة ليس لها شفاء ولا علاج إلا أن تباد، فلا يصلح الحال ولا يستريح الناس من شرهم إلا بقتل كل من يدب منهم على الأرض إذا بلغ، وهذا هو الحل الوحيد.

إذا نظرت إلى قضية باكستان مع الهند تجد أن الفأرة موجودة في القضية، وإذا ذهبت إلى المياه وما المياه في تركيا، ستجد الفأرة تظهر لك فيها، وإن ذهبت إلى مشكلة الجزر في البحر والإحاطة بجزيرة العرب وما أشبه ذلك تجد الفأرة ومشاكلها موجودة هناك، وهكذا ففي كل قضية حرب على الإسلام والمسلمين تجد هذه الفأرة موجودة فيها.

وحكى عن بعضهم أن المراد ها هنا بالسجود الخضوع؛ لتعذر حمله على حقيقته.

وقال خصيف: قال عكرمة قال ابن عباس -ا: كان الباب قبل القبلة.

وقال ابن عباس -ا- ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك: هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة.

هؤلاء أرادوا أن يقولوا: إن السجود الذي أمروا به كان إلى جهة القبلة، وهذا الكلام لا حاجة إليه وهو تكلف، فالمقصود أنهم أمروا أن يدخلوا في حال يكون الواحد منهم خاضعاً فيها بالقول وبالفعل، ولا يشترط أن يكون ذلك إلى جهة القبلة.

وقال خَصِيف: قال عكرمة: قال ابن عباس -ا: فدخلوا على شق.

قوله: فدخلوا على شق: يعني على جنب، والحديث صريح وواضح أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم [6] وليس على شق.

وقال السدي، عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنُود عن عبد الله بن مسعود -: قيل لهم وادخلوا الباب سجداً، فدخلوا مقنعي رؤوسهم، أي: رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا.

وقوله تعالى: وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58] عن ابن عباس -ا:  وَقُولُواْ حِطَّةٌ قال: مغفرة، استغفروا، وقال الحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا.

وَقُولُواْ حِطَّةٌ: فِعْلة، يعني أمروا أن يسألوا الله أن يحط عنهم خطاياهم، ويمكن أن يكون ذلك بتقدير مسألتنا حطة، فمسألتهم ودعاؤهم أن تُحط عنهم خطاياهم، ومثل هذا قد يفسر بموضع آخر من القرآن، وإن كان لا يمت له بصلة، لكنه يشبهه في السياق وهو أوضح منه في المعنى، وذلك قوله تعالى: قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [سورة الأعراف:164]، أي قالوا: نُصحُنا معذرة، وهنا وَقُولُواْ حِطَّةٌ أي: قولوا مسألتنا حطة.

والحطة مثل ما تقول: ارتد يرتد فهو مرتد وهي ردة، فهذه حطة، حط يحط عنه الخطايا حطاً فهي حطة،  ويستفاد من قوله تعالى: وَقُولُواْ حِطَّةٌ أنهم عُلِّموا كيف يسألون الله أن يحط عنهم خطاياهم، أي يسألوا ربهم حط الخطايا أي: المغفرة.

وقال: هذا جواب الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات.

وحاصل الأمر: أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى، كما قال تعالى:  إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر:1-3].

وقوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْْ [سورة البقرة:59] روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال:  قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطَّة فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا وقالوا: حبة في شعرة [7] ورواه النسائي موقوفاً وبعضه مسندًا في قوله تعالى: حِطَّةٌ قال: فبدلوا فقالوا: حبة، وروى نحوه عبد الرزاق وعن طريقه البخاري ومسلم والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سجدًا فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم، وأمروا أن يقولوا: حطة أي: احطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزؤوا فقالوا: حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته؛ ولهذا قال:  فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [سورة البقرة:59].

وقال الضحاك عن ابن عباس -ا: "كل شيء في كتاب الله من الرِّجْز" يعني به العذاب".

الرِّجز –بالكسر- العذاب، وبالضم كقوله تعالى:  وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [سورة المدثر:5] يعني الأصنام، وبينهما ملازمة؛ إذ إن عبادة الأصنام سبب للعذاب، كما يقال في الإثم حيث، يطلق على نفس الذنب ويطلق على التبعة التي تحصل بالإنسان من جراء الذنب، فيقال: يأثم من فعل كذا، يعني تلحقه فيه تبعة ومؤاخذة عند الله ، ويقال: لا تقرب هذا الإثم، فيقال عن الخمر مثلاً إثم، فالمقصود أن الرِّجز –بالكسر- العذاب، والرُّجز –بالضم- الأصنام وبينهما ملازمة، والله أعلم.

وقوله: "كل شيء في كتاب الله": مثل هذا يسمى كليات التفسير وهي كثيرة.

وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب، وروى ابن أبي حاتم عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت قالوا: قال رسول الله ﷺ:  الطاعون رجْز عذاب عُذِّب به من كان قبلكم[8] وهكذا رواه النسائي وأصل الحديث في الصحيحين: إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها [الحديث][9].

روى ابن جرير: عن أسامة بن زيد عن رسول الله ﷺ قال:  (إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذِّب به بعض الأمم قبلكم [10] وهذا الحديث أصله مخرَّج في الصحيحين.

 
  1. أخرجه مسلم في كتاب: كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804) (ج 1 / ص 553).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: الطب - باب: المن شفاء للعين (5381) (ج 5 / ص 2159) ومسلم في كتاب: الأشربة - باب: فضل الكمأة ومداواة العين بها (2049) (ج 3 / ص 1619).
  3. صحيح مسلم في كتاب: الأشربة - باب: فضل الكمأة ومداواة العين بها (2049) (ج 3 / ص 1619).
  4. أخرجه البخاري في كتاب: الطب - باب: المن شفاء للعين (5381) (ج 5 / ص 2159) ومسلم في كتاب: الأشربة - باب: فضل الكمأة ومداواة العين بها (2049) (ج 3 / ص 1619).
  5. أخرجه الترمذي في كتاب: الطب: باب: ما جاء في الكمأة والعجوة (2066) (ج 4 / ص 400) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4126).
  6. سيأتي تخريجه.
  7. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة البقرة (4209) (ج 4/ ص 1627) ومسلم في كتاب التفسير (3015) (ج 4 / ص 2312).
  8. أخرجه مسلم في كتاب: السلام - باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2218) (ج 4 / ص 1737).
  9. أخرجه البخاري في كتاب: الطب- باب ما يذكر في الطاعون (5396) (ج 5 / ص 2163) وسلم في كتاب: السلام - باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2218)(ج 4/ ص 2218).
  10. أخرجه البخاري في كتاب: الحيل - باب: ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون (6573) (ج 6 / ص 2557) ومسلم في كتاب: السلام - باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2218) (ج 4 / ص 1737).

مواد ذات صلة