الجمعة 17 / شوّال / 1445 - 26 / أبريل 2024
[16] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الآية 64 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الآية 71.
تاريخ النشر: ١٧ / صفر / ١٤٢٨
التحميل: 2232
مرات الإستماع: 2118

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ۝ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنفال:64-66]

يحرض تعالى نبيه ﷺ والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء ومبارزة الأقران، ويخبرهم أنه حسبهم؛ أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم، ولو قل عدد المؤمنين، ولهذا قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ أي: حثهم أو مرهم عليه، ولهذا كان رسول الله ﷺ يحرض على القتال عند صفهم ومواجهة العدو كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عَددَهم وعُدَدهم قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض فقال عمير بن الحمام -: عرضها السماوات والأرض، فقال رسول الله ﷺ: نعم فقال: بخ بخ، فقال: ما يحملك على قول بخ بخ، قال: رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها. فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهم ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال: لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل -[1].

ثم قال تعالى مبشراً للمؤمنين وآمراً إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ كل واحد بعشرة، ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة، قال عبد الله بن المبارك: حدثنا جرير بن حازم قال: حدثني الزبير بن الخريت عن عكرمة عن ابن عباس -ا- قال: لما نزلت: إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ شق ذلك على المسلمين حتى فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة ثم جاء التخفيف، فقال: الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ إلى قوله: يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ، قال: خفف الله عنهم من العدة، ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم"، وروى البخاري من حديث ابن المبارك نحوه[2].

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا- قال: لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفاً، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى، فقال: الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا الآية، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ حسبك الله أي: كافيك الله، وقوله: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فسره بعضهم باعتبار أن الواو عاطفة على لفظ الجلالة، فيكون المعنى: حسبك الله وحسبك من اتبعك من المؤمنين، كافيك الله ومن اتبعك من المؤمنين يكفونك، وهذا المعنى نقل عن الحسن البصري، وممن قال به من النحاة المشاهير النحَّاس، وذلك أنهم قالوا: بأنه لا يجوز أن يكون العطف على الضمير المخفوض إلا مع إعادة الخافض، حَسْبُكَ الكاف مضاف إليه مجرور. 

حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قالوا: إنه لا يصح في اللغة أن تكون الواو وَمَنِ عاطفة على الكاف، وإذا كانت عاطفة على الكاف يكون الحسب، والكافي هو الله وحده، ويكون المعنى: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله كافيك وكافي من اتبعك، فالمعنى الأول قالوا: حَسْبُكَ اللّهُ يكفيك الله ويكفيك أتباعك من المؤمنين، فصارت الكفاية من الله، ومن المؤمنين للنبي ﷺ، والواو بهذا الاعتبار عاطفة على اسم ظاهر، وهو لفظ الجلالة (اللّهُ) الله يكفيك وأهل الإيمان من أتباعك يكفونك. 

والمعنى الثاني: أن يكون الواو عاطفة على الكاف، حسبك أي: كافيك وكافي من اتبعك، وهذا المعنى هو المتعين، بغض النظر عن الموضع الذي يكون عليه العطف، على الكاف، أو الواو واو مع، حَسْبُكَ اللّهُ فالكفاية والحسب من الله وحده لا شريك له، لا يملكها أحد سواه، فالتوكل يكون عليه وحده، ولهذا قال الله : هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنفال:62]، فالتأييد يكون من الله بالنصر، ويكون أيضاً بأهل الإيمان، وكذلك أيضاً مما يدل على هذا المعنى أن الكفاية من الله وحده: أن الله في آيات أخرى فرق بين الحسب وبين غيره كالتأييد.

هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ هذا في التأييد، وغيره وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ [سورة التوبة:59]، فالإيتاء من الله ومن الرسول ﷺ، فلم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، بل قالوا: حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ، فالإيتاء من الله ومن الرسول ﷺ، والتأييد يكون بأهل الإيمان، ويكون من الله بالنصر الذي ينزله بطريقة يختارها ويشاؤها، وأما الحسب فهو من الله وحده، لا يكون من أحد سواه، فثبت هذا المعنى، ودل عليه القرآن، فلا محل لاعتراض من اعترض من النحاة، كما أنه يوجد من النحاة من يخالف هؤلاء في قولهم هذا، وابن مالك -رحمه الله- عقد هذا المعنى في الخلاصة بقوله:

وعود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازماً قد جعل

هذا المعنى على قول النحَّاس: لا بد أن يكون الخفض لا يعود على ضمير إلا مع عود الخافض، لكن ابن مالك رده واختار غيره: أن ذلك يجوز في اللغة كما في قوله:

وليس عندي لازماً إذ قد أتى في النظم والنثر الصحيح مثبتاً.

فالذي عليه المحققون من العلماء والمفسرين، والذي اختاره ابن جرير الطبري وابن القيم والشنقيطي -رحمهم الله- وغيرهم أن قوله: حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: أن الله كافيك وهو كافي من اتبعك.

وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ التحريض هو الحث بقوة، فمجرد الحث لا يقال له: تحريض، وقال الله -تبارك وتعالى: إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وجه ذكر العشرين والمائة، الله أعلم بمعناه، ومن أهل العلم من يقول: كانت سرايا رسول الله ﷺ لا تقل عن العشرين ولا تزيد عن المائة، فذكر هذا وهذا، وقوله: فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ثم ذكر الألف، قالوا: هذا فيه بشارة بكثرة المجاهدين وأتباع النبي ﷺ، فالذين كانوا في بدر كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر تقريباً، فذكر الله : وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ وهذا ذكره بعض أهل العلم والعلم عند الله .

وقوله: إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ هذا من المواضع التي يقطع فيها بالنسخ، ودعاوى النسخ في القرآن كثيرة جداً، والذي يثبت منها عدد قليل لا يجاوز أصابع اليدين، وهذا الذي يثبت منها، وهذا المثال من أوضح الأمثلة في النسخ، ولا يستطيع أحد أن يعترض عليه، فقوله: الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ خبر، وقوله: إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ صيغة خبر، والقاعدة: أن الأخبار لا يدخلها النسخ، ولكن إذا كان الخبر يتضمن الإنشاء، الإنشاء يعني الأمر والنهي، فإنه يدخله النسخ. 

ومن أهل العلم من قال: إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ قال: هذا خبر مضمن معنى الإنشاء، أي: فليثبتوا للمائتين، لا يجوز لهم أن يفروا، إذا كانت النسبة بهذا التقدير، فإن زادوا جاز لهم أن ينسحبوا، وعلى كل حال ابن جرير -رحمه الله- ذكر قاعدة في هذا الباب في الأخبار وهي ترجع إلى أن الأخبار التي تتضمن حكماً يدخلها النسخ، لا الخبر المجرد، وهذا ليس خبر مجرد إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ بمعنى أنه بهذا الاعتبار لا يجوز لهم أن يفروا، فلما رفع صار الحكم وجوب ثبات المائة للمائتين والألف للألفين الضعف، فإن زاد عدد الكفار عن هذا جاز للمسلمين أن ينسحبوا.

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنفال:67-69].

روى الإمام أحمد عن أنس قال: استشار النبي ﷺ الناس في الأسارى يوم بدر فقال: إن الله قد أمكنكم منهم، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي ﷺ، ثم عاد رسول الله ﷺ، فقال: يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منكم، وإنما هم أخوانكم بالأمس، فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي ﷺ، ثم عاد النبي ﷺ فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله ﷺ ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، قال: وأنزل الله : لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[3].

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله: لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ يعني في أم الكتاب الأول: أن المغانم والأسارى حلال لكم، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ من الأسارى عَذَابٌ عَظِيمٌ.

وقوله: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ هذه الصيغة تدل على الامتناع، والتحريم، كما قال الله سواء كان الامتناع الشرعي مثل: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [سورة الأحزابك:53]، وقوله: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ [سورة التوبة:120]، كما في هذه الآية مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى، وقد يكون ذلك من جهة الامتناع العقلي أو الامتناع ما يسمى بالامتناع العادي، يعني في مجاري العادات، كقوله تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ [سورة الأحزاب:40]، وكقوله تعالى: مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60]، فهذا كله في الامتناع، لكن منه ما يكون شرعياً ومنه ما يكون عادياً، ومنه ما يكون عقلياً

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى هذا يدل على أن هذا ممتنع ولكن كان ذلك قبل أن ينزل الحكم، كان في أول أسارى يقعوا للمسلمين، فالله قد عفا وعاتب نبيه ﷺ هذه المعاتبة اللطيفة، وقوله: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ وهذا مغيا بغاية، فليس الامتناع بإطلاق ولكن إلى حد وهو الإثخان في الأرض، والإثخان المقصود به المبالغة والإكثار في القتل، حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ أي: ينهك العدو لكثرة القتلى، لا يستبقي أحداً بيده من أساراهم، فكل من وقع من هؤلاء الأعداء قتله، حتى تنكسر شوكتهم وتندحر كلمة الكفر، وتكون كلمة الله هي العليا، ثم قال الله : تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ عرض الدنيا يعني ما يعرض منها، من طمع وما تميل إليه النفوس من بهجتها، والمعنى: والله يريد لكم الآخرة والجنة والنعيم المقيم، وذلك بفعل ما يرضيه من مجاهدة أعدائه وقتلهم وتقديم ذلك على أخذ الفداء من هؤلاء الأسارى، فإذا كسر الكفار وضعفوا؛ عند ذلك يمكن أن يؤسر من يؤسر منهم.

وقوله: لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ حمله ابن كثير -رحمه الله- على أن المراد ما كتب في اللوح المحفوظ، وهذا المعنى صحيح، ومن أهل العلم من قال: لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ أن لا يعذب أحداً حتى يتقدم إليه بالبيان والحجة فينقطع عذره، والله  يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ [سورة التوبة:115]، وقال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15].

وبعض أهل العلم قال: المراد بذلك أن أهل بدر مغفورٌ لهم اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم، وبعضهم يقول: لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ يعني: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ [سورة الأنفال:33] فهذه المعاني كلها حق، فالله لا يعذب أحداً حتى تبلغه الحجة، ولا يؤاخذ الإنسان بما فعله قبل أن ينزل الله الحكم، والله -تبارك وتعالى- قد علم وكتب أن هذه الغنائم مباحة للأمة، وكذلك لا يعذب هذه الأمة ورسول الله ﷺ فيهم، ولهذا حمله ابن جرير -رحمه الله- على هذه المعاني جميعاً، ولم يرجح معنى على معنى، ثم قال بعده: فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا كلوا مما غنمت، وقد سبق أن كتب حلها في اللوح المحفوظ.

قال الله تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا الآية، وكذا روى العوفي عن ابن عباس -ا- وروي مثله عن أبي هريرة وابن مسعود -ا، وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة والأعمش أيضاً: أن المراد لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لهذه الأمة بإحلال الغنائم، ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن عبد الله -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة[4].

وقال الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا[5]، ولهذا قال الله تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا الآية، فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء، وقد روى الإمام أبو داود في سننه عن ابن عباس -ا: أن رسول الله ﷺ جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة[6]، وقد استقر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل كما فعل ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر أو بمن أسر من المسلمين، كما فعل رسول الله ﷺ في تلك الجارية وابنتها، اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين، وإن شاء استرق من أسر.

الله -تبارك وتعالى- يريد لعباده الآخرة والجنة والنعيم المقيم، وذلك بفعل ما يرضيه من مجاهدة أعدائه وقتلهم وتقديم ذلك على أخذ الفدية منهم، فإذا ضعفوا يمكن أن تأخذ ممن يؤسر منهم، ثم استقر الحكم بأن الإمام مخير في الأسارى، وهذا مما يستثنى بالنسبة للغنيمة، أربعة أخماس الغنيمة للمقاتلين، ومن هذه الغنيمة الأسارى أمرهم للإمام، إن شاء استرقهم ووزعهم على الغانمين، وإن شاء قتلهم، وإن شاء فادى بهم: إما بمال، وإما بمبادلة مع أسرى المسلمين، فيستثنى من الغنيمة أمران إذا قال الإمام: من قتل قتيلاً فله سلبه، والأمر الآخر الأسارى، إذا رأى الإمام المفاداة بهم أو قتلهم له ذلك.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۝ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:70، 71].

قال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عباس -ا: أن رسول الله ﷺ قال يوم بدر: إني قد عرفت أن أناس من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً منهم- أي من بني هاشم- فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرهاً، فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف، فبلغت رسول الله ﷺ فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله ﷺ أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله ﷺ بالسيف، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، فو الله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك: والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفاً إلا أن يكفرها الله تعالى عني بشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيداً -[7].

وبه عن ابن عباس -ا- قال: لما أمسى رسول الله ﷺ يوم بدر والأسارى محبوسون بالوثاق بات رسول الله ﷺ ساهراً أول الليل، فقال له أصحابه: يا رسول الله مالك لا تنام؟ -وقد أسر العباس رجل من الأنصار- فقال رسول الله ﷺ: سمعت أنين عمي العباس في وثاقه فأطلقوه فسكت فنام رسول الله ﷺ[8].

وفي صحيح البخاري من حديث موسى بن عقبة قال ابن شهاب: حدثني أنس بن مالك أن رجالاً من الأنصار استأذنوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن اختنا عباس فداءه، قال: لا والله لا تذرون منه درهماً[9].

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة عن الزهري عن جماعة سماهم قالوا: بعثت قريش إلى رسول الله ﷺ في فداء أسراهم ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله قد كنت مسلماً، فقال رسول الله ﷺ: الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر قال: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال: فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم قال: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي، فقال رسول الله ﷺ: لا، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، فأنزل الله فيه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنفال:70]، قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجوا من مغفرة الله [10].

روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك قال: أتي رسول الله ﷺ بمال من البحرين فقال: انثروه في مسجدي قال: وكان أكثر مال أوتي به رسول الله ﷺ، فخرج إلى الصلاة ولم يلتف إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحداً إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي وافديت عقيلاً، فقال له رسول الله ﷺ: خذ فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلي قال: لا قال: فارفعه أنت علي قال: لا فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق، فما زال رسول الله ﷺ يتبعه بصره حتى خفي عنه عجباً من حرصه، فما قام رسول الله ﷺ وثم منها درهم[11]، وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم[12].

المرويات فيما يتعلق بالعباس وما وقع له في يوم بدر، في الفداء، كثير منها لا يصح، وبعضها ينجبر فيكون من قبيل الحسن، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ [سورة الأنفال:71] أي: وإن يريدوا خيانتك فيما أظهروا لك من الأقوال فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ: أي من قبل بدر بالكفر به، فأمكن منهم أي: بالأسارى يوم بدر، وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:71]، أي: عليم بما يفعله حكيم فيه.

أي أن بعض الأسارى قد يظهر أنه قد دخل في الإسلام، مخادعة، ولكن الله قادر على أن يمكن منهم مرة أخرى.

  1. رواه مسلم برقم (1901)، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد.
  2. رواه البخاري برقم (4376)، كتاب التفسير، باب الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا.
  3. رواه الإمام أحمد في المسند (21/180)، برقم (13555)، وقال محققوه: حسن لغيره.
  4. رواه البخاري برقم (328)، كتاب التيمم، ومسلم برقم (521)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، واللفظ للبخاري.
  5. رواه الترمذي بلفظ: لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم كانت تنزل نار من السماء فتأكلها، برقم (3085)، كتاب التفسير، باب ومن سورة الأنفال، وأحمد في المسند (12/403)، برقم (7433)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/154)، برقم (2155)، وفي صحيح الجامع برقم (5196).
  6. رواه أبو داود برقم (2691)، كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، والبيهقي في السنن الكبرى (6/321)، برقم (12625)، وقال الشيخ الألباني: "صحيح دون الأربعمائة"، انظر صحيح أبي داود برقم (2340).
  7. رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/10)، وانظر: سيرة ابن هشام (1/628).
  8. رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/89)، برقم (17924)، كتاب السير، باب الأسير يوثق.
  9. رواه البخاري برقم (3793)، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدراً.
  10. رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/322)، برقم (12628)، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في مفاداة الرجال منهم بالمال، وجزء منه أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/335)، برقم (3310)، وقال محققوه: حسن.
  11. رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/356)، برقم (12807)، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب الاختيار في التعجيل بقسمة مال الفيء إذا اجتمع.
  12. رواه البخاري معلقاً في صحيحه برقم (2994)، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي ﷺ من البحرين وما وعد من مال البحرين والجزية ولمن يقسم الفيء والجزية.

مواد ذات صلة