الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[5] من قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} الآية 28 إلى قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} الآية 40
تاريخ النشر: ٠٤ / ربيع الآخر / ١٤٢٨
التحميل: 3137
مرات الإستماع: 2430

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ۝ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ۝ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة يونس:28-30].

يقول تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ أي: أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر، كقوله: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:47].

ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ أي: الزموا أنتم وهم مكاناً معيناً امتازوا فيه عن مقام المؤمنين، كقوله تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [سورة يــس:59]، وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [سورة الروم:14]، وفي الآية الأخرى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [سورة الروم:43]، أي: يصيرون صدعين، وهذا يكون إذا جاء الرب -تبارك وتعالى- لفصل القضاء، ولهذا قبل ذلك يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا، وفي الحديث الآخر: نحن يوم القيامة على كَوْم فوق الناس[1].

كَوم بفتح الكاف أي: المكان المرتفع النشاز.

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخباراً عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة: مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الآية، أنهم أنكروا عبادتهم وتبرءوا منهم كقوله: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ [سورة مريم:82] الآية.
وقوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ [سورة البقرة:166]، وقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء [سورة الأحقاف:5-6] الآية، وقوله في هذه الآية إخباراً عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الآية، أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها، وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم، والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الحافظ رحمه الله- في قوله: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا "أي: أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر"، وهذا هو أقرب المعاني، أن الله يحشر الأولين والآخرين ويجمعهم، كما قال الله : وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:47]، وقال: ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ [سورة هود:103].

ومن أهل العلم من فسر ذلك بمعنى تحتمله الآية، وهو أنه يحشرهم جميعاً -العباد والمعبودين- ويوجه إليهم هذا الخطاب وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ يعني يحشرهم وما يعبدون من دون الله، وهذا أيضاً دل عليه القرآن، والآية إذا كانت تحتمل معانِيَ دل عليها القرآن أو السنة -دل على كل واحد منها- فإن الآية تحمل على هذه المعاني جميعاً، فالله أخبر في القرآن أنه يحشر الأولين والآخرين ولا يغادر منهم أحداً، وأخبر أيضاً أنه يحشر الناس وما يعبدون من دون الله.

والآية تحتمل معنىً ثالثاً وهو أن المراد وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا أي: أن الله يبعثهم من قبورهم، ويجمع ما تفرق من أبدانهم في التراب، كما قال النبي ﷺ: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً[2]، فترجع إليهم أبعاضهم وأجزاؤهم التي ذهبت في الدنيا، وتفرقت في التراب، وهذه الأمور كلها حاصلة، والله على كل شيء قدير.

ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ مكانكم أي: الزموا مكانكم، أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ الشركاء: هم جعلوا هذه المعبودات شركاء لله ، فأضاف هؤلاء الشركاء إليهم أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ ووجه ذلك يمكن أن يقال والله تعالى أعلم: إنهم جعلوا هؤلاء شركاء لهم في أموالهم، فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ [سورة الأنعام:136] فأضاف الشركاء إليهم والقرآن يفسر بعضه بعضاً، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار: أنهم شركاء لهم في هذا الخطاب وهذا أضعف من الأول، نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا نبعث العباد والمعبودين، أو يبعث العابدين والمعبودين، ويقول لهم: مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ.

ثم يفصل بينهم ويفرق بينهم كما قال الله تعالى: فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ المزايلة: هي المفارقة، فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ أي: فصلنا وفرقنا بينهم، فيسأل هؤلاء ويسأل هؤلاء، فيوجه الخطاب إلى المعبودين، ويتبرءون من هؤلاء الذين عبدوهم. 

وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ، بعض أهل العلم نظر إلى هذا المعنى وأنهم قالوا: إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ فقال: هذا في مثل عيسى ﷺ وعزير والملائكة ومن عُبد من دون الله من الصالحين، فهم يتبرءون منهم ويقولون: مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ، وكنا عن عبادتكم غافلين أصلاً.

ومن أهل العلم من حمل هذا على الجمادات من الأوثان والأصنام التي لا تشعر بعبادتهم إياها، ومنهم من جعل ذلك عاماً حتى فيمن عُبد وهو راضٍ، إذا رأى هول ذلك اليوم فإنه يتبرأ منهم، وقوله: مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ أي: لم نأمركم بذلك، لكن قوله: مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ليس بمعنى لم نأمركم بذلك، ويمكن أن يقصدوا بـ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ أنهم كانوا يعبدون الجن مثلاً أو يعبدون الشيطان.

ومعلوم أن العرب كانوا يعبدون الأوثان من دون الله التي ربما خاطبتهم أو سمعوا منها كلاماً، وذلك أن هذه الأصنام والأوثان يوجد معها من الشياطين ما يضللهم، وهذا يحصل من أجل فتْن الناس، وقد حصل عند قطع العزَّى، لما أرسل النبي ﷺ إليها خالد بن الوليد وهي بيت على سمرات، فقطع السمرات، ثم رجع إلى النبي ﷺ فأخبره أنه ما فعل شيئاً، فرجع وإذا بامرأة سوداء ناشرة شعرها تدعوا بالويل والثبور فعلاها بالسيف، فالنبي ﷺ حينما أخبره بذلك قال: تلك العزى[3]، فهذه امرأة شيطانة كانت تضلل الناس.

وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أي: ما كنا نشعر بها، ولا نعلم بها، وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم، معنى ذلك أن ابن كثير حمل المعنى على العموم، كل من عُبد من دون الله -، سواء كان راضياً أو لم يكن راضياً فهو داخل في هذا الخطاب، بمعنى أنهم يتبرءون منهم ومن عبادتهم.

وقال تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ أي: في موقف الحساب يوم القيامة تَختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير أو شر.

قوله: تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ تَختبر، وكثير من الناس يظن أنه في الدنيا على الجادة، وأنه على شيء، ويعيش في أوهام واسعة كبيرة، فيوم القيامة تعرف وتدرك وتختبر كل نفس ما أسلفت، يعرف عمله وأنه كان مضيعاً ومفرطاً وضالاً عن سواء الصراط، وفي قراءة حمزة والكسائي تَتْلُو أي: تتبع، كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ، تتلو على هذه القراءة المتواترة الأخرى تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ فسره بعض أهل العلم بأنها تتلو كتاب العمل اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [سورة الإسراء:14]، تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ، ويحتمل أنه يتبع ما أسلف من عمل.

وقيل: تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ أي: تعاين، والقراءتان كل قراءة لها معنى، وإذا كانت القراءتان لكل واحدة منهما معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين، فقراءة تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ أي: تتبع، وقراءة تَبْلُو أي: تختبر، وبين المعنيين نوع ملازمة وارتباط؛ وذلك أن الإنسان في يوم القيامة يتجلى ويتبيّن له حاله التي كان عليها ويعرف حقيقة عمله، وتضييعه وتفريطه، فإذا عرف ذلك وانكشف عنه الغطاء فإنه يتبع عمله ويقرأ كتابه.

كقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [سورة الطارق:9]، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [سورة القيامة:13]، وقال تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ۝ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [سورة الإسراء:13، 14].

وقوله: وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [سورة يونس:30] أي: ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وَضَلَّ عَنْهُم أي: ذهب عن المشركين مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ أي: ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ۝ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ۝ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة يونس:31-33].

يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية إلهيته، فقال تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أي: من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقاً بقدرته، ومشيئته فيخرج منها حبا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ، فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [سورة الملك:21]. 

وقوله: أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ [سورة يونس:31] أي: الذي وهبكم هذه القوة السامعة، والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها وسلبكم إياها، كقوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ [سورة الملك:23] الآية، وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ [سورة الأنعام:46] الآية. 

وقوله: وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ أي: بقدرته العظيمة ومنته العميمة، وقوله: وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ أي: من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [سورة الرحمن:29]، فالملك كله العلوي والسفلي وما فيهما من ملائكة وإنس وجان فقيرون إليه عبيد له خاضعون لديه، فَسَيَقُولُونَ اللّهُ أي: وهم يعلمون ذلك ويعترفون به: فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ أي: أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟

وقوله: فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الآية أي: فهذا الذي اعترفتم أنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ أي: فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو واحد لا شريك له، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي: فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه، وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء، والمتصرف في كل شيء.

وقوله: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ الآية، أي: كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده الذي بعث رسله بتوحيده فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الزمر:71].

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۝ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ۝ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [سورة يونس:34-36].

وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره وعبدوا من الأصنام والأنداد، قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي: من بدأ خلق هذه السماوات والأرض ثم ينشئ ما فيها من الخلائق، ويفرق أجرام السماوات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ثم يعيد الخلق خلقاًَ جديداً؟ قُلِ اللّهُ هو الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له.

 فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل؟! قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أي: أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال وإنما يهدي الحيارى والضُّلالَ ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد اللهُ الذي لا إله إلا هو، أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى أي: أفيَتبِع العبدُ الذي يهدي إلى الحق ويُبصِّر بعد العمى أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا أن يهدى لعماه وبكمه؟ كما قال تعالى إخباراً عن إبراهيم أنه قال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [سورة مريم:42]، وقال لقومه: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ۝ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [سورة الصافات:95، 96] إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله: فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي: فما بالكم أن يُذهَب بعقولكم، كيف سوّيتم بين الله وبين خلقه، وعدلتم هذا بهذا، وعبدتم هذا وهذا؟ وهلا أفردتم الرب المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده، وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة، ثم بيّن تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلاً ولا برهاناً وإنما هو ظن منهم، أي توهم وتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئاً، إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ تهديد لهم ووعيد شديد؛ لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.

وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ۝ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ۝ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ [سورة يونس:37-40].

هذا بيان لإعجاز القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله؛ لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة لا يكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين، ولهذا قال تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ أي: مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام البشر، وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي: من الكتب المتقدمة، ومهيمناً عليه ومبيناً لما وقع فيه من التحريف والتأويل والتبديل.

وقوله: وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أي: وبيان الأحكام والحلال والحرام بياناً شافياً كافياً حقّاً لا مرية فيه من الله رب العالمين.

وقوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي: إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذباً ومَيْناً: "إن هذا من عند محمد"، فمحمد بشر مثلكم، وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله أي من جنس هذا القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان، وهذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده، وليستعينوا بمن شاءوا، وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88].

ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة هود:13]، ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وكذا في سورة البقرة وهي مدنية تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبداً، فقال: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ [سورة البقرة:24] الآية.

هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب، ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به، ولهذا آمن من آمن بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به وأفهم له، وأتبعهم له وأشدهم له انقياداً، كما عرف السحرة لعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله، وكذلك عيسى بُعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله، ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان هذا الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً[4].

وقوله: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يقول: بل كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي: ولم يُحصِّلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلاً وسفهاً، كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أي: من الأمم السالفة، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي: فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلماً وعلواً وكفراً وعناداً وجهلاً، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم، وقوله: وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ الآية، أي: ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به، وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ بل يموت على ذلك ويبعث عليه، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي: وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، وهو العادل الذي لا يجور، بل يعطي كُلاً ما يستحقه، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو.

قوله -تبارك وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ أَمْ هذه منقطعة بمعنى بل، وقوله -تبارك وتعالى: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، يقول الحافظ -رحمه الله: "يقول: بل كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه"، وقال في قوله: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ: "أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق".

والتأويل يأتي بمعنى التفسير، وبمعنى ما يؤول الشيء إليه، فتأويل الخبر وقوع المخبر به، وتأويل الأمر فعل المأمور، فنصوص الوعيد التي جاءت في القرآن وما يذكره الله من الحساب والجزاء وبعث الأجساد وما أشبه هذا، إذا حصل فهو تأويل ما أخبر عنه القرآن.

كما قال الله : هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا [سورة الأعراف:53] أي: يحصل حينما يتحقق ما أخبر عنه القرآن من وقوع الجزاء والحساب والقيامة، وما أخبر الله عنه في هذا القرآن من الوجل والأهوال والأمور العظام عند ذلك يقول الذين نسوه من قبل، أي: تركوه، وأعرضوا عنه، قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا فنتخلص مما نحن فيه، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فيمكن أن يفسر التأويل بهذا المعنى.

بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ "أي: ومن هؤلاء الذين بُعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن، ويتبعك وينتفع به، ومنهم من لا يؤمن بك".

ومن أهل العلم من فسره بمعنى آخر، وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ يعني يعلم أنه حق، ولكنه يجحد ذلك عتواً وإعراضاً وتكبراً وعناداً، وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ هو لا يصدق أنه من عند الله.

وبعضهم يقول: وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ أي: يؤمن به أي في المستقبل، ولا حاجة لهذا التفسير، وبعضهم حمل الضمير في الموضعين على النبي ﷺ، فبين المعنيين ملازمة، فالذين يؤمنون بالنبي ﷺ يؤمنون بما جاء به وهو القرآن، والذين يؤمنون بالقرآن لا شك أن هذا يقتضي أنهم يؤمنون بالرسول -عليه الصلاة والسلام، والسياق أقرب إلى أن ذلك يراد به القرآن.

  1. رواه أحمد في المسند (23/64)، برقم (14721)، وقال محققوه: حديث صحيح، واللفظ له، ومسلم بمعناه برقم (191)، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، من حديث جابر بن عبد الله -ا، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/250)، برقم (2751).
  2. رواه مسلم برقم (2859)، من حديث عائشة -ا، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة.
  3. رواه النسائي في السنن الكبرى (6/474)، برقم (11547)، وأبو يعلى في مسنده (2/196)، برقم (902)، وقال محققه حسين سليم أسد: إسناده صحيح، وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/146).
  4. رواه البخاري برقم (4696)، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل، ومسلم برقم (152)، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته.

مواد ذات صلة