الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[7] من قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم} الآية 59 إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الآية 65
تاريخ النشر: ٠٦ / ربيع الآخر / ١٤٢٨
التحميل: 2647
مرات الإستماع: 2275

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ۝ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ [سورة يونس:59، 60].

قال ابن عباس -ا- ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم: نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يُحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايا، كقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [سورة الأنعام:136] الآيات.

وروى الإمام أحمد عن مالك بن نضلة قال: أتيت رسول الله ﷺ وأنا رثُّ الهيئة، فقال: هل لك مال؟ قلت: نعم، قال: من أي المال؟، قال: قلت: من كل المال من الإبل والرقيق والخيل والغنم، فقال: إذا آتاك الله مالاً فلْيُرَ عليك، قال: هل تنتج إبلك صحاحاً آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر، وتشق جلودها وتقول: هذه صُرُم، وتحرمها عليك وعلى أهلك؟، قال: نعم، قال: فإنّ ما آتاك الله لك حل، ساعد الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحد من موساك[1] وذكر تمام الحديث، وهذا حديث جيد قوي الإسناد.

وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم الله بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال: وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: ما ظنهم أن يُصنَع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة؟

وقوله: إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ قال ابن جرير: في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا، قلت: ويحتمل أن يكون المراد لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم، ويضيقون على أنفسهم فيجعلون بعضاً حلالاً وبعضاً حراماً، وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً هذا الاستفهام يفيد الإنكار، وإنزال الرزق، يعني الرزق الذي جعلوا منه حراماً وحلالاً، كما ورد في هذا الحديث، وما ورد في سورة الأنعام وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ [سورة الأنعام:138]، فما يفعلونه في حروثهم، وزروعهم وأنعامهم من ترهات الجاهلية في التحريم والتحليل بغير برهان من الله -تبارك وتعالى- فهو داخل في هذا، فقوله: مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ إنزال الرزق باعتبار أن خزائن الرزق بيد الله -تبارك وتعالى. 

وكما قال الله : وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء [سورة الشورى:27]، فهو الذي ينزل الرزق، ولا إشكال في الحرث والأنعام والتعبير عنهما بالنزول، فأصل هذه المادة النزول من أعلى إلى أسفل، حتى إن بعض أهل العلم قال في قول الله -تبارك وتعالى: وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ [سورة الحديد:25]: نزل من السماء، وكذا في قوله: وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الزمر:6]، إما باعتبار أن الله أنزل أصلها من السماء، أو باعتبار أن ذكورها تنزو على إناثها، أو باعتبار أن المولود حينما يقع منها على الأرض، وهذا كله فيه معنى النزول.

فخزائن الأرزاق كلها بيد الله كما في قوله: وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء [سورة الشورى:27]، ومن أهل العلم من يقول: إن الله ينزل الغيث فتحيا به الأرض ويرعاه الحيوان.

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سورة يونس:61].

يخبر تعالى نبيه ﷺ أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة، وأنه لا يعزُب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السماوات ولا في الأرض وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، كقوله: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سورة الأنعام:59]، فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] الآية.

وقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [سورة هود:6] الآية، وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟، كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ۝ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ۝وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [سورة الشعراء:217-219] ولهذا قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [سورة يونس:61] أي: إذ تأخذون في ذلك الشيء، نحن مشاهدون لكم راءون سامعون، ولهذا قال ﷺ لما سأله جبريل عن الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك[2].

قوله: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ الضمير في مِنْهُ يحتمل أن يرجع إلى الشأن، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ باعتبار أنه أقرب مذكور، وهو الوحيد في اللفظ الذي يمكن أن يرجع إليه الضمير بالنظر إلى الألفاظ المعبر بها، وبهذا قال بعض أئمة اللغة كالزجّاج، وأحسن من هذا -والله تعالى أعلم: أنه يرجع إلى معلوم من السياق وإن لم يكن مصرحاً به، وهو الكتاب، فالضمير أحياناً يرجع إلى ما يفهم من السياق، وإن لم يرد له ذكر.

وهذا كثير في القرآن كقول الله : إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1] فالضمير يرجع إلى القرآن، ولم يسبق له ذكر، فالضمير في قوله: مِنْهُ أي: من الكتاب، فقوله: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ يعني: من الكتاب، وما تتلو من آي، ما تقرأ من القرآن إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وهذا اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله.

والخطاب في قوله: وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ يحتمل أن يكون للنبي ﷺ وأمته تبع له في ذلك؛ لأن الخطاب في أوله جاء على سبيل الإفراد وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ يعني يا محمد ﷺ، وأمته تبع له في هذا، ثم بعد ذلك جاء الضمير بصيغة الجمع وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ، وكقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [سورة الطلاق:1] بصيغة الجمع مع أن أول الخطاب صريح بأنه موجه للنبي -عليه الصلاة والسلام.

فالنبي ﷺ يخاطَب ويكون هذا الخطاب موجهاً لأمته، وهذا في كثير من المواضع من القرآن، كقوله -تبارك وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ [سورة الإسراء:23]، والنبي ﷺ مات أبواه وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو صغير، فحينما نزلت عليه هذه الآيات لم يكن منهم أحد على قيد الحياة، فالخطاب موجه للأمة، فصيغة الجمع في قوله وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ يمكن أن يُقال: إنه جاء على سبيل التفخيم والتعظيم للنبي ﷺ فجاء بصيغة الجمع، ولا حاجة لهذا؛ لأن الخطاب متوجه للأمة، كما سبق.

ومن أهل العلم من يقول: إن الخطاب موجه للمشركين، إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ بعضهم يقول: المراد به القرآن، بمعنى أنهم يخوضون خوضاً باطلاً في القرآن، فيقولون فيه ما لا يليق من أنه سحر أو كهانة أو شعر أو نحو هذا، وهذا وإن قال به بعض أهل العلم إلا أنه بعيد؛ لأن الضمير في قوله: إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يرجع إلى أقرب مذكور وهو العمل، أي تفيضون في هذا العمل.

وظاهر الخطاب موجه إلى النبي ﷺ ولأمته، ولو كان هذا الخطاب يقصد به أهل الإشراك وأن الإفاضة في هذا العمل هي الخوض في القرآن بالاستهزاء وما أشبه ذلك لما كان الخطاب بهذه الصيغة، ولقال الله مثلاً: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن، ولا يعملون من عمل إلا كنا عليهم شهوداً إذ يفيضون فيه، فالخطاب جاء على نسق واحد وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ والنبي ﷺ وأصحابه لم يكونوا، حاشاهم من مثل هذا.

والمقصود بالإفاضة في العمل المشار إليه، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [سورة الطلاق:12]، وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ [سورة التوبة:105] فيرى العباد ويعلم متقلبهم ومثواهم، وكل عمل صغير أو كبير فالله شاهد على خلقه فيه، وهذا من معاني اسمه الشهيد، فهو مشاهد لخلقه شاهد على أعمالهم مطلع عليها، محيط بهم، والفرق بينه وبين العليم، أن الشهيد فيه معنى الحضور، وهذا قدر زائد على مجرد العلم.

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ۝ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة يونس:62، 63].

يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقياً كان لله ولياً، لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي: فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ على ما وراءهم في الدنيا.

روى ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل: من هم يا رسول الله؟ لعلنا نحبهم، قال: هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[3].

هذه الآية فيها بيان جلي وإيضاح لا يحتاج معه إلى خزعبلات الصوفية وترهاتهم في تفسير الولاية، بحيث أضافوا ذلك إلى طائفة من المجاذيب والمجانين والفجرة، وحملوا فجورهم على أنه تقوى وصلاح، وأن هذا الفجور هو فيما يبدو للمحجوبين من الناظرين الذين على أبصارهم الحجب الكثيفة التي تجعلهم يرون الطاعة بهذه الصورة، ولعل من آخر هؤلاء المجاذيب المجانين الذي استهووا خلائق لا يحصيهم إلا الله ، ما وقع في القرن الماضي، أن أحد هؤلاء كان من قطاع الطرق، فكشف أمره ففر ولجأ إلى مغنية مشهورة في عهد الملك فاروق في مصر، فلجأ إلى مغنية مشهورة، وهو خائف في غاية الخوف، فجاء الناس يبحثون عنه ويطلبونه، فوضعت في يديه ورجليه الحديد، سلسلته بالحديد، والرجل صار يتصرف على أنه مجنون، فبدأت تضيف إليه كرامات وأنها ترى منه عجائب وغرائب مما يدل على ولايته لله ، وخفي هذا على الناس وصار يأتيه الصغير والكبير حتى الملك فاروق زاره وطلب منه الدعاء، إلى هذا الحد، فأين هذا من الولاية؟!

وآخر توفي قبل سنوات في بعض البلاد، تُنقل عنه خرافات وخزعبلات وأشياء أشبه ما تكون بتصرفات الحيوانات، يزعمون أنه مرض وذهب إلى مصر للعلاج، وعندما قرر الأطباء إجراء العملية قال لهم: أمهلوني إلى الغد، وفي ليلته أتاه النبي ﷺ وعلي بن أبي طالب وأبو ذر ومجموعة من الصحابة فنظروا في حاله وعملوا له العملية، فقام في الصباح وليس به شيء، أُجريت له التحاليل والفحوصات والأشعة ولكنه قد زال عنه المرض، وغير ذلك من الخزعبلات.

روى ابن جرير عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله ﷺ: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ فقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة، فما بشرى الدنيا؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له، وهي جزء من أربع وأربعين جزءاً، أو سبعين جزءاً من النبوة[4].

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به، فقال رسول الله ﷺ: تلك عاجل بشرى المؤمن[5]. رواه مسلم.

وروى أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمرو -ا- عن رسول الله ﷺ أنه قال: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا، قال: الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من تسعة وأربعين جزءاً من النبوة، فمن رأى ذلك فليخبر بها، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه، فلينفث عن يساره ثلاثاً وليكبر ولا يخبر بها أحدا[6]. لم يخرجوه.

وقيل: المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۝ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [سورة فصلت:30-32].

وفي حديث البراء -: أن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب، فقالوا: اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان، وربٍّ غير غضبان، فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء[7].

وأما بشراهم في الآخرة فكما قال تعالى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [سورة الأنبياء:103]، وقال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة الحديد:12].

وقوله: لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ أي: هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير، بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

البشرى في هذه الأحاديث الصحيحة فسرها النبي ﷺ بالرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له، والتفسير النبوي إذا صح فإنه لا يحتاج معه إلى غيره، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، لكن هذا المعنى لا ينفي أن تكون البشرى في الدنيا بما جاء في الحديث الآخر، وإن لم يكن تفسيراً للآية مما يحصل للإنسان من الذكر الجميل، فالنبي ﷺ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن.

فالله قال: لَهُمُ الْبُشْرَى والنبي ﷺ قد يفسر الآية بمعنى يؤخذ من عموم اللفظ، ولا يعني ذلك حصر المعنى فيما ذكر، وإنما هو أحد المعاني الداخلة فيها، ولا ينفي بعضَ المعاني التي تحتملها الآية أو جاء السياق فيها، فالتفسير بأنها الرؤيا الصالحة لا ينفي أن يكون هذا ما يحصل للإنسان من الذكر الجميل، ولا ينفي قول من قال بأن الملائكة تبشره عند قبض روحه مثلاً، وما أخبر الله في القرآن في قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:223]، بشارة حاصلة في هذا القرآن لأهل الإيمان بما أعد الله لهم في دار كرامته، وما يكون لهم في هذه الدنيا من الرفعة والنصر، والظهور والغلبة، والتمكين، فكل هذا داخل في هذه البشرى، والله تعالى أعلم.

وقوله: لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ، أي: حكمُ الله وقضاؤه لا يبدل، فالله قضى ذلك لأهل الإيمان وقدّره فلا مبدل لكلماته، ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.

  1. رواه أحمد في المسند (25/223)، برقم (15888)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، بلفظ: أتيت النبي ﷺ وأنا قشف الهيئة... الحديث، والحاكم في المستدرك (4/201)، برقم (7364)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير (19/277)، برقم (608).
  2. رواه البخاري برقم (50)، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، ومسلم برقم (8)، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله .
  3. رواه النسائي في الكبرى (6/362)، برقم (11236)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/485)، برقم (8997)، وصححه ابن حبان في صحيحه (2/332)، برقم (573)، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3023).
  4. رواه ابن جرير في تفسيره (15/132)، برقم (17730)، وقال محققه الشيخ أحمد شاكر: "هذا إسناد ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة، وهو إسناد منقطع أيضاً؛ لأن أيوب بن خالد لم يرو عن عبادة بن الصامت".
  5. رواه مسلم برقم (2642)، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره.
  6. رواه أحمد في المسند (11/621)، برقم (7044)، وقال محققوه: صحيح لغيره.
  7. رواه أحمد في المسند (30/499)، برقم (18534)، من حديث البراء بن عازب ، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، والبيهقي في شعب الإيمان (1/355)، برقم (395)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (158)، وفي صحيح الجامع برقم (1676).

مواد ذات صلة