السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[21] قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ..} إلى قوله تعالى: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
تاريخ النشر: ١٢ / شعبان / ١٤٣٦
التحميل: 2252
مرات الإستماع: 1911

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر أنه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها، بين ما يحصل بسبب ضرب هذه الأمثال من إضلال الكثيرين، وهداية الكثيرين، وختم ذلك بقوله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26].

ثم بين صفة هؤلاء الفاسقين، وهذا في هذه الآية التي نتحدث عنها في هذه الليلة، قال: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27] هؤلاء الذين ذكر أوصافهم يُمثلون حال الفاسقين الذين ينقضون عهد الله، ينكثون عهد الله الذي أخذه عليهم، ويدخل في ذلك فيما أخذ الله عليهم من الإيمان والتوحيد والطاعة.

وهكذا أيضًا فإن الله -تبارك وتعالى- أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فهم مأمورون باتباع الرسل، والإيمان بالكتب، والعمل بما تضمنته.

وكذلك يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام، ويُفسدون في الأرض، يقطعون ما أمر الله به أن يوصل يشمل كل ما أمر الله به أن يوصل، ويُفسدون في الأرض بأنواع الفساد أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27] في الدنيا والآخرة.

فقوله -تبارك وتعالى- في صفة هؤلاء الفاسقين: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:27] لاحظوا ترتيب هذه الصِلات بهذه الآية الكريمة، بدأ أولاً في أوصافهم بنقض عهد الله من بعد ميثاقه، وهذا أخص هذه الأوصاف الثلاث، نقض العهد، ثم بعد ذلك قطع ما أمر الله به أن يوصل، وهو أعم من نقض العهد، فإن ما أمر الله به أن يوصل يدخل فيه الوفاء بالعهود، والإيمان بالله -تبارك وتعالى- ويدخل فيه صلة الأرحام، وما إلى ذلك مما يدخل في هذا المعنى، ثم ذكر أيضًا ثلاثًا الإفساد في الأرض، وهو أعم من قطع ما أمر الله به أن يوصل، وذلك جميعًا هو من مظاهر الفسق، ومما يدخل فيه؛ فالفسق يشمل ذلك جميعًا، فإن الفسق يدل على معنى الخروج، الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فالخارج عن الإيمان به فاسق، هذا هو الفِسق الأكبر، والخارج عن طاعته بفعل الكبائر فاسق، والخارج عن طاعته بفعل الصغائر فاسق، فأصل ذلك يرجع إلى هذا المعنى؛ ولهذا يُقال فسقت الفأرة من جُحرها إذا خرجت منه للإفساد، فهذا أصل معنى الفسق، الخروج، سواء كان هذا الخروج من قبيل الخروج الأكبر، أو كان من قبيل الخروج الأصغر.

فنقض عهد الله -تبارك وتعالى- يكون بالكفر، وبفعل الكبائر، وبالاجتراء على حدوده -تبارك وتعالى- وانتهاك حُرماته، وهذه الآية: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [سورة البقرة:27] فيها تحذير من نقض عهد الله  من بعد ميثاقه؛ لأن ذلك يكون سببًا للفسق بلا شك.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [سورة البقرة:27] فلاحظوا هنا أنه بنى هذا الفعل "يوصل" بناء ما لم يُسم فاعله، لم يقل ما أمر الله أن يصله الإنسان، وإنما يوصل؛ ليشمل ما أمر الله أن يصلوه هم، أو يصله غيرهم.

فكل ما أمر الله به أن يوصل فيجب أن يتحقق فيه ذلك، فيدخل في ذلك بر الوالدين، ويدخل في ذلك صلة الأرحام، ويدخل في ذلك أيضًا كما قال الله : وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [سورة النساء:36] كل هؤلاء لهم حقوق وصِلات يكون ذلك مع الإيمان، ويكون أيضًا مع غير المؤمنين، الجار ذي القُربى، الجار القريب له حقان، والجار الجُنب، الجار المجاور من غير قرابة على أشهر أقوال المفسرين، والصاحب بالجنب الرفيق في السفر، وقيل الزوجة، الصاحب في العمل في الدراسة هذا له حق أكثر من عموم الناس؛ لأنه يجمعك معه شيء، تشترك معه في شيء، فأعطاه حقًا أكثر من غيره، من التواصل والتعاهد والراعية والإحسان.

وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ هؤلاء ضعفاء يحتاجون إلى رعاية فيصلهم بالعطية، والإحسان، والنفقة، والصدقة والزكاة، وما إلى ذلك.

وفي هذه الآية وما قبلها: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [سورة البقرة:26] إلى أن قال: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [سورة البقرة:27] فلاحظ هذه الأشياء المُتقابلات التي تُبرز المعاني، وتوضحها بذكر الشيء وما يُقابله، ذكر الشيء مع ضده، وهذا من البيان، فالقرآن صرفه الله هذا التصريف؛ ليكون تبيانًا للحق لا يدع فيه لبسًا.

أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا يعني: على قولين في تفسير ما فوقها، بعضهم يقول: فَمَا فَوْقَهَا يعني: في الكِبر، أكبر منها.

وبعضهم يقول: فَمَا فَوْقَهَا يعني: أدق من البعوضة، أصغر من البعوضة، فهنا ذكر الشيء وما يُقابله لاسيما إذا قيل ما هو أكبر من البعوضة.

أما ما يذكره بعض أصحاب الإعجاز العملي من أن المقصود بالبعوضة ضُرب بها المثل لعِظمها وضخامتها؛ ولأنها تحمل من القُدر والإمكانات، فذكروا لها عيونًا كثيرة، وذكروا لها أشياء من الأهوال والأوجال، حيث إنها تغرز خرطومها بطريقة بعد أن تضع مادة مُخدرة لا يشعر الإنسان، ثم تمتص الدم وصورها بصورة كأنها شيء مخلوق هائل، بينما ذكر الله البعوضة على أنها من أصغر الأشياء، وأتفه الأشياء؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء[1].

على هؤلاء أن يأتوا ويقولوا: إن الجناح شيء هائل شيء عظيم في هذه الخطوط إذا وضعت عليه هذه الأجهزة المُكبرة، وتجد فيه من الأهوال والأوجال، فجناح البعوضة شيء عظيم هائل، هذا لا قيمة له، هذا كلام لا قيمة له، إنما يُذكر هذا على أن البعوضة أصلاً لا قيمة لها، والعرب تُمثل بهذا في الصِغر، وإنما العُجمة هي التي تأتي بهذه الأفهام، كما جاء عن الحسن: "أهلكتهم العجمة"[2].

هكذا المعهود العربي، يمُثلون بالذرة والبعوضة ونحو ذلك، وهكذا قول من يقول بأن ما فوقها. هو كائن فوق ظهر البعوضة يعيش على ظهرها صغير لا يُرى بالعين المُجردة، فالله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [سورة البقرة:26] فما فوقها، هذا الكائن الدقيق الذي يعيش على ظهر البعوضة، مخلوق آخر يعني، هذا الكلام لا قيمة له، ولا يمكن أن يكون هو المُراد بالآية، والآية فيها قولان اثنان للسلف لا ثالث لهما، وكل قول يعود على أقوالهم بالإبطال فهو أحق بالبطلان، هذا أصل وقاعدة، وتجد من يهتف لهذا الكلام، ويفرح به، ويشعر بنشوة، وهو ليس بشيء.

على كل حال، انظروا إلى ذكر هذه الأشياء المُتقابلات، فأما الذين آمنوا، وأما الذين كفروا، وقوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [سورة البقرة:26] وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [سورة البقرة:27] القطيعة والوصل، فهذا يسمونه بالطِباق والمُقابلة، وهي من المُحسنات على كل حال في علم البلاغة.

ولاحظوا هنا أنه قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27] الإشارة إليهم إلى البعيد "أولئك" يدل على انحطاط مرتبتهم وسفولها، فهم في الهاوية في غاية الخُسران، ودخول ضمير الفصل بين طرفي الكلام يدل على تقوية النسبة، ودخول "أل" على الخبر الخاسرون فإن ذلك يُفيد معنى الحصر كأنه لا خاسر إلا هم قد استحقوا الوصف الكامل من الخُسران، هذا هو الخُسران الحقيقي قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الزمر:15] فهذا هو الخسران الحقيقي الكبير الذي لا يمكن للإنسان أن يُحصل بعده ربحًا، أو أن يستدرك هذه الخسارة، وليست الخسارة في الدنيا.

والله -تبارك وتعالى- يذكر في هذه الألفاظ ما يكون به تعاملات الناس في تجارتهم وبيعهم، وشرائهم، فالله -تبارك وتعالى- سمى المعاملة معه تجارة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الصف:10] وكما في قوله في هذه السورة الكريمة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16] ذكر الشراء، وذكر الربح، وذكر التجارة.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [سورة التغابن:9] والغبن في الأصل يكون في البيع والشراء والتعاملات بين الناس في تجاراتهم ونحو ذلك، فسمى ذلك غبنًا وخسارة وبيعًا وشراء ونحو هذا، فهذه التجارة الحقيقية.

ثم قال: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [سورة البقرة:27] لما ذكر هذه الأوصاف قال بعد ذلك: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28] تحداهم بالقرآن، أمرهم بعبادته وحده لا شريك له يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة:21- 23] فتحداهم، قال هذا البرهان موجود، فأين تذهبون؟ وأما طعونكم بهذه الأمثال المضروبة في هذا القرآن، وأن ذلك لا يصدر من رب، فإن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها، ولكن الله -تبارك وتعالى- يُضل بمثل هذا الكثيرين، ويهدي الكثيرين.

ثم بعد ذلك خاطبهم، كل هذا امتداد لما ذُكر من الأمر بعبادته، وهو أول أمر في القرآن، وهو أول خطاب للناس في القرآن الأمر بالعبادة، فقال مُنكرًا مُعجبًا من هذا الصنيع الذي يصدر عنهم: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [سورة البقرة:28] كيف يقع منكم الكفر بأنواعه، والله -تبارك وتعالى- هو الذي أوجدكم بعد العدم؟ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ يدخل في هذا ما كان في عالم النُطف، كما يذكره جمع من المفسرين، ولا يقولن قائل: بأن الحيوان المنوي يسبح حتى يُلقح البويضة؛ فإن هذه النُطفة تُعد عند أهل العلم ميتة، الحياة والموت عند العلماء وفي لغة الشرع، وهكذا في استعمالات الفقهاء، وما إلى ذلك إنما هي الحياة المُعتبرة بنفخ الروح، وما قبل ذلك لا يُقال له حي فالنُطفة ميتة، والله -تبارك وتعالى- يقول: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [سورة الأنعام:95] الحي قيل الفرخ من البيضة، وهكذا أيضًا الإنسان من النطفة، فهذه البيضة ميتة، والنُطفة ميتة.

فهنا وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد هذه الحياة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28] فيُجازيكم ويُحاسبكم بعد ذلك، كيف يحصل منكم مثل هذا؟!

فهذا الاستفهام في قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [سورة البقرة:28] هو استفهام عن حال، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ، أو صحبه الإنكار والتعجب في آن واحد، كيف يصدر ذلك عنكم، فخرج بهذا عن حقيقة الاستفهام؛ لأن المُستفهم في الأصل يُريد الجواب، ولكن هذا يُراد منه التعجب أو الإنكار لهذه الحال بكيف فهذا يستلزم إنكار الذات ضرورة وهو أبلغ كَيْفَ تَكْفُرُونَ.

وهنا لاحظوا أنه قال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ فوجه الخطاب إليهم، وقبل ذلك كان الكلام على سبيل الغيبة، قال: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ۝ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ هذا كله في الغائب وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:26، 27] ثم وجه الخطاب إليهم كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28].

كيف يقع منكم مثل هذا، فهذا يسمونه الالتفات، هنا التفات من الغائب إلى المُخاطب، وهنا في غاية المُناسبة مع ما فيه من المعاني العامة من تنشيط السامع، ونحو ذلك، فهنا جاء بصيغة الخطاب؛ وذلك أن الإنكار إذا توجه المُخاطب كان أبلغ في توجهه إليه من أن يكون ذلك على سبيل ذكر الغائب، يعني: مُباشرة يتوجه إليك كيف يحصل منك مثل هذا، حينما يقول لهم كيف، أو حين يقول الذين وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ۝ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:26، 27] كيف يكفرون بالله وكانوا أمواتًا فأحياهم، لا كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [سورة البقرة:28] فهذا أبلغ في هز النفوس، وتحريكها فتستيقظ بعد غفلتها، ولربما استرسالها مع قوم آخرين يتحدث القرآن عنهم في وهمها لكنه حينما يوجه الخطاب إليه فإن ذلك أبلغ وأوقع في النفس وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ فهذا الموت يُطلق على ما لم تسبق إليه حياة، ما لم يسبق إليه روح، ما لا روح فيه يُقال له ميت، حتى لو لم تسبق إليه حياة كما قلنا في النُطفة يُقال إنها ميتة، والبيضة يُقال ميتة وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ.

وكذلك حينما كانوا في أصلاب الآباء فهم أموات، إذًا الموت لا يُشترط أن يكون ذلك الوصف بعد مُفارقة الحياة المتُحققة في هذا الموصوف، مُفارقة الحياة فيُقال ميت، فقد يكون لم يسبق له حياة له يُقال ميت.

وهنا يؤخذ منه أن الجنين لو خرج قبل أن تُنفخ فيه الروح فإنه لا يثبت له حكم الحي؛ ولهذا لا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث، هو يُنفخ فيه الروح إذا كان له تمام أربعة أشهر، كما يدل عليه حديث الصادق المصدوق[3].

فقبل ذلك لو كان عمر الجنين ثلاثة أشهر ونصف؛ فإنه لا يكون له حكم الإنسان الذي يرث ويُصلى عليه، ونحو ذلك، لكن إذا خرج بعد نفخ الروح؛ فإنه يأخذ شيئًا من هذه الأحكام، هذا غير موضوع النفاس؛ لأن النساء يسألون عن النفاس، وأحكام النفاس حينما يكون الإسقاط متى تكون نُفساء، هذا غير موضوع الصلاة على الجنين، أو كون هذا الجنين تُعتد له الأحكام المترتبة على الحياة، النفاس يختلف تمامًا، الجنين يكون أربعين يومًا نُطفة، فهذا لا حكم له، ثم يكون أربعين يومًا علقة، فهذا لا حكم له، هذه ثمانون، بعد الثمانين يعني: من الواحد والثمانون يبدأ يتحول إلى مُضغة فهذه المُضغة تبدأ بالتخليق، يعني: بمعنى يبدأ التصوير عليها والتخطيط صورة إنسان، فإذا خرج هذا الجنين، سقط من أمه، فإن كان قبل هذه المُدة قبل الثمانين، يعني في الأربعين الأولى، أو الأربعين الثانية، فلا حكم له، تتوضأ لكل صلاة إذا كان يخرج معها دم وتغسل أثر الدم، وتُصلي وليس بنفاس، ويُجامعها زوجها وتصوم، وما إلى ذلك، فإذا خرج منها ما شُكل بصورة إنسان قبل نفخ الروح فمثل هذا إذا خُطط بدأ التخطيط التشكيل الرسم، ولو كان ذلك إنما يُعرف عن طريق القوابل على الأرجح.

يعني: ذوات الخبرة القوابل التي يلين توليد النساء قد لا تعرف المرأة جيدًا التحديد، فهنا يُقال إنه له حكم النفاس، فلا تُصلي، ولا تصوم حتى ينقطع عنها الدم برؤية الطُهر، أو بالجفاف التام الذي لا كُدرة معه، ولا صُفرة، ولا دم، بحكم النفُساء، هذا بالنسبة لما يسقط من الأجنة، ومثل هذا وإن كان لا يُغسل ولا يُصلى عليه لكن الكلام في الطهارة والنفاس يختلف عن أحكام الجنين بالنسبة للحُكم بحياته من عدمها.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في هوان الدنيا على الله رقم: (2320).
  2.  التاريخ الكبير للبخاري (5/ 93)، رقم: (259).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب في القدر، رقم: (6594)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، رقم: (2643).

مواد ذات صلة