الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
[23] قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا..} إلى قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
تاريخ النشر: ١٤ / شعبان / ١٤٣٦
التحميل: 1641
مرات الإستماع: 1896

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لم يزل الحديث في الكلام على ما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر آدم ﷺ مع الملائكة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:30].

ثم أراد الله -تبارك وتعالى- أن يُبين للملائكة -عليهم السلام- فضل آدم فقال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:31].

هذا بيان منه -تبارك وتعالى- لفضل آدم حيث علمه الأسماء كلها، علمه أسماء المسميات، أسماء الأشياء، كل الأشياء، وهذا الموضع يتكلم فيه أهل العلم على مسألة معروفة، وهي هل اللغات توقيفية، أو لا؟ ولهم في ذلك أقوال معروفة، فمن قائل: بأنها توقيفية بإطلاق، ومن قائل بأنها ليست بتوقيفية، ومن قائل بالتفصيل، وشيخ الإسلام -رحمه الله- له كلام في هذه المسألة يُراجع في مظانه[1].

وهم يختلفون في المراد بهذه الأسماء التي علمها الله -تبارك وتعالى- لآدم والأقرب أنه علمه أسماء المسميات، كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ثم عرض هذه المُسميات أنفسها على الملائكة -عليهم السلام- قائلاً لهم: أنبئوني، أخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في أنكم أولى بالاستخلاف من آدم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:30].

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ [سورة البقرة:31] يؤخذ من هذا من الهدايات: أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي علم البشر، وامتن عليهم بالعلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق:1- 5] وأقسم الله -تبارك وتعالى- بالقلم، وبما يسطرون فقال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [سورة القلم:1] فهذا من تعليمه -تبارك وتعالى- وهذا القلم المُقسم به في هذه السورة الكريمة كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يشمل سائر الأقلام[2].

القلم الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- فأمره أن يكتب مقادير الأشياء إلى أن تقوم الساعة، أول ما خلق الله القلم قال له اكتب[3] فهذا القلم داخل فيه وهو القلم الأول الذي كتُبت فيه المقادير، ويدخل فيه أقلام أخرى، كالأقلام التي بأيدي الملائكة، وكذلك أيضًا الأقلام التي يُكتب بها أعمال العباد، والأقلام التي تُكتب بها الوثائق والشهادات، وتُقر الحقوق، والأقلام التي تُكتب بها الديون والعهود والمواثيق، والأقلام التي تُكتب بها العلوم ابتداء من كتابة الوحي إلى ما يشرحه من كتابة التفسير والفقه والحديث، وما إلى ذلك من العلوم الشريفة، إضافة إلى الأقلام التي يُكتب بها سائر العلوم.

فهنا الله هو الذي علم بذلك، والمُعَلم الأول من البشر هو آدم وهو حديث عهد بالجنة، لما خلقه الله -تبارك وتعالى- علمه الأسماء، أسماء كل شيء، إذًا آدم كان الأكمل تعليمًا؛ فإن الله -تبارك وتعالى- حينما خلقه لم يتركه في حال من الجهالة، لا يُميز بين نافع وضار، وهذا يدلنا على بُطلان ما يقوله أولئك الذين يتخرصون، فحينما يذكرون مراحل التاريخ، وهو فرع من نظرية دارون المعروفة، فإن هذه النظرية ليست مقتصرة على أن أصل الإنسان كان قردًا -كما يزعم- وإنما هذه النظرية لها فروع كثيرة، من فروع هذه النظرية التي تُعرف بنظرية التطور: أن الخلق مر بمراحل في أطوار خلقه، وكذلك في أطوار المعرفة، وكذلك في أطوار الحضارة، وكذلك في أطوار السياسة، وكذلك في أطوار الاقتصاد إلى غير ذلك من الفروع، فهؤلاء يقولون بأن الإنسان البدائي الأول يُمثلونه كأنه قرد، بل يقولون: إن الأصل هو القرد، ويقولون: إن البشرية مرت بمراحل من التخلف والعصور الموغلة بالجهل، العصر الحجري، والعصر البُرونزي، وهذا كله كذب، لا أساس له من الصحة، فالله خلق آدم، وعلمه أسماء كل الأشياء وأهبطه إلى الأرض وعلمه وكرمه، وأسجد له الملائكة، ثم بعد ذلك بعث الأنبياء والرُسل -عليهم الصلاة والسلام- يسوسون الخلق، ويُعلمونهم وتنزل الكتب ولم تكن البشرية في حال من البدائية والجهالة كما يدعي هؤلاء. 

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [سورة البقرة:31] أن الذي علم آدم والذي علم أيضًا إبراهيم والذي فهم سُليمان هو الذي بيده العلم والتعليم، فتوجه إليه بالرغبة واسأله أن يُعلمك، وأن يفتح عليك مغاليق العلم، فيسأل الإنسان ربه، يقول: "يا مُعلم إبراهيم علمني، ويا مُفهم سليمان فهمني". فهذا كان يدعوا به شيخ الإسلام -رحمه الله[4].

ومن ثَم فإن الإنسان لا ييأس إذا استغلق عليه باب من العلم أو أنه لربما يجد نفسه مُتأخرًا في هذا السبيل، فإنه يسأل ربه أن يفتح عليه، هذا سيبويه كان لحانًا، يلحن كثيرًا في كلامه، فجلس بين يدي بعض أئمة السنة، يريد أن يقرأ عليه الحديث، وأن يأخذ عنه الرواية ولكن لكثرة لحنه قال هذا الإمام له: لا يحضر مجلسنا من يلحن، أراد أن يصرفه بطريقة لا يخصه فيها، ففهمها سيبويه -رحمه الله- وقال: "لا جرم لأطلبن علمًا لا تلحنني فيه أبدًا"[5].

فصار إمام النحو، وإذا ذُكر الكتاب، الكتاب فهو كتاب سيبويه، وصار النُحاة بعده عالة على كتابه، وهذا حصل لجمع من أهل العلم.

حصل ذلك لابن حزم في الفقه، وحصل لغيره من بعض أئمة الشافعية، كان مبدأ ذلك في واقعة عزم على أن يتعلم فقهًا لا يُغلطه أحد فيه، فصار هؤلاء أئمة في العلم، والله على كل شيء قدير، فالذي علم أباك الأسماء كلها من غير دراسة ولا تعلم، قادر على أن يفتح عليك مغاليق العلوم، وأن يُيسر عليك ما شق وعسُر.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ [سورة البقرة:31] أسماء المسميات هذه مما يحتاج إليه الناس، فلم يكن ذلك من العلوم الشرعية، وإنما من العلوم التي يحتاج إليها الناس في معاشهم، فكانت بهذا الاعتبار مطلوبة، وقد علم الله آدم هذه الأسماء؛ لحاجته إليها.

إذًا العلوم النافعة ولو كانت من غير العلوم الشرعية فإنها مطلوبة في الأمة، وطلبها ودراستها لا يُعد عيبًا، وإن تفاضلت العلوم وتفاوتت.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ الله -تبارك وتعالى- يمتحنهم لما رأوا لأنفسهم فضلاً على آدم وهذا يؤخذ منه جواز امتحان من يدعي إتقان علم، أو صنعة، أو نحو ذلك أنه يُمتحن في هذا، إذا ادعى شيئًا فإن امتحانه في ذلك ليس من التمحل، وإنما هو أمر سائغ، بل إنه يسوغ أن يرد ذلك بلغة تُشبه التحدي أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:31] إن كنتم صادقين فيما تقولون فأنبئوني، فهذا فيه حث للنفوس ودفع لها على إيراد ما طُلب منها، هذا هو التحدي.

فبماذا أجاب الملائكة -عليهم السلام- وهم أعلم الناس بالله -تبارك وتعالى؟ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:32] سبحانك! هذا تنزيه منهم لله -تبارك وتعالى- نُنزهك يا ربنا ليس لنا علم إلا ما علمتنا إياه إنك أنت وحدك العليم بشؤون خلقك، الحكيم في تدبيرك.

سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا العلم هنا نكرة في سياق النفي، فهي تُفيد العموم، نفوا جنس العلم لا عِلْمَ لَنَا نفوه من أصله عن أنفسهم إلا ما علمهم الله -تبارك وتعالى- إياه.

فهؤلاء الملائكة الكرام مع ما عندهم من العلم العظيم الذي علمهم الله -تبارك وتعالى- إياه، كانوا يقولون لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا فهذا يدعوا إلى التواضع لله فالله يقول للنبيه ﷺ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [سورة النساء:113] فالنبي ﷺ يمتن عليه ربه بهذا، والملائكة يقولون: لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ونوح يقول له ربه -تبارك وتعالى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [سورة هود:36] فهو لا يعلم من سيؤمن، ومن سيكفر فلما يأسه من إيمانهم، ثم حصل لهم ما حصل من الغرق، قال نوح : إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [سورة هود:45] فقال الله : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة هود:46].

فماذا قال نوح ؟ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [سورة هود:47] هذا هو أدب الأنبياء مع الله -تبارك وتعالى.

وانظر إلى أدب الخليل إبراهيم لما قال الله له: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124] أخذته الشفقة على ذريته فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [سورة البقرة:124] يعني: اجعل أئمة، فقال الله : لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] الإمامة في الدين لا تكون للظالمين، وإنما تُنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة: 24] فبعدها دعا إبراهيم لمكة ولأهلها اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ وقيدها مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] فبين الله له أن هذا الرزق غير الإمامة، فلا حاجة لهذا التقييد في الرزق أن الرزق لا يكون إلا لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126] هذه غير الأولى، الإمامة في الدين لا تكون لهؤلاء الظالمين، أما الرزق فهو يكون للظالمين ولغيرهم، ولكن يكون للظالمين العقاب والعذاب، فهذا كله من أدب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

ويؤخذ من ذلك أيضًا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32] إذا كان الملائكة هؤلاء العِظام لا يعلمون الغيب وهم في الملأ الأعلى فكيف بغيرهم؟ وإذا كان هؤلاء الرُسل -عليه الصلاة والسلام- لا يعلمون الغيب، إبراهيم لما جاءه الملائكة بصورة رجال شُبان، ذبح عجله، وأتعب أهله في صُنع طعام وإنضاجه، ثم قربه إليهم ودعاهم إلى تناوله أَلَا تَأْكُلُونَ [سورة الذاريات: 27] فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ [سورة هود:70] فبينوا لهم أنهم ملائكة، وما كان يعلم أنهم ملائكة، جاء لهم بالعجل ليأكلوا، فإذا كان خليل الرحمن لا يعلم الغيب إلا ما علمه ربه -تبارك وتعالى- فغيره من باب أولى.

وهكذا حينما جاء هؤلاء الرُسل الكِرام -عليهم الصلاة والسلام- من الملائكة إلى لوط ضاق ذرعه بهم، وقال هذا يوم عصيب، وقال كلامه المعروف لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود:80] حتى أعلموه إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [سورة هود:81] وما كان يعلم أنهم ملائكة حتى أعلمه الله فكيف بآحاد الناس، أو من يُدعى لهم الولاية من غير الملائكة والرُسل - عليهم الصلاة والسلام؟

فلا يجوز لأحد أن يدعي لنفسه أو لغيره علم الغيب قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [سورة النمل:65] ومن ادعى في نفسه أو في غيره أنه يعلم الغيب، فإنه يكون كافرًا مُرتدًا عن الإسلام.

وهذه العقائد تُزعزع وتُزلزل بخُرافات وعقائد فاسدة يتلقاها الصغير في بيئة تُضيف علم الغيب إلى غير الله -تبارك وتعالى- وقد يتلقاها في بيئة نظيفة سليمة عبر ألعاب مدسوسة، وبرامج مدسوسة كهذه التي يسألون عنها كثيرًا في مثل هذه الأيام، ألعاب فيها شيء من هذا، تحوي شيئًا من ادعاء علم الغيب والخُرافة، والدجل، ولربما الشعوذة هذه اللعبة التي أشغلوا الناس في مثل هذه الأيام يسمونها: "تشارلي"، فهذه اللعبة هي تُزعزع عقيدة الإيمان بالغيب في نفوس الناشئة، وكثير من الألعاب التي لربما تكون بين يدي هؤلاء الصغار فيها شيء من ذلك، ولربما إضافة الشفاء إلى غير الله إلى الصليب يوضع على المريض، وقد رأيت بعض ذلك في بعض هذه الألعاب في ما يُسمى بالبلاستيشن، الصليب يوضع على المريض فيبرأ، وهكذا يأتي الكاهن، أو الساحر، أو غير ذلك، وما شابه ذلك مما تُزعزع به عقائد الناس، ويُفسدون عليهم إيمانهم.

إذًا علم الغيب مُختص بالله -تبارك وتعالى- لا يعلمه أحد، وليس لأحد أن يدخل في شيء من تلك المضايق، يقول: أُجرب أنظر أتسلى، كما لربما يتواصل بعضهم مع بعض من يظهر في بعض القنوات الفاسدة، ويدعي أنه يقرأ الأبراج، أو نحو ذلك، فيُخبرك بزعمه عن مُستقبلك، ولربما سأله الواحد عن التي سيتزوج بها، وهل سيكون له فلانة، أو فلانة، أو نحو هذا، كل هذا لا يجوز، كل هذا من ادعاء علم الغيب، وذلك كفر، الذهاب إلى العرافين والكهنة، وما أشبه ذلك، وقد جاء الوعيد في هذا.

ويؤخذ من هذه الآية: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:32] أن الواجب على من سُأل عن علم لا يعلمه أن يُضيف العلم إلى الله -تبارك وتعالى- ولا يتكلم ويقول على الله بلا علم، فيقول: الله أعلم اقتداء بهؤلاء الملائكة -عليهم الصلاة والسلام.

وهذا ما كان عليه أهل العلم الراسخين، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- والحافظ ابن عبد البر آثارًا مروية عن الإمام مالك -رحمه الله- كثيرًا يُسأل عن عشرات المسائل، لربما لم يُجب إلا عن أربع. ويقول في هذه المسائل التي توجه إليه الله أعلم، فحينما يُقال له: قد أتينا من بلاد المغرب، والناس يقولون مالك أعلم الناس فبماذا نرجع إليهم؟ يقول: ارجعوا إليهم، قولوا: مالك لا يدري[6].

عن علي سُأل عن مسألة فقال: لا أدري، فلما ولى السائل مسح على جوفه وقال: وابردها على كبدي[7] يعني: قول لا أدري، وهكذا حينما يُسأل بعضهم فيُقال: هذه مسألة خفيفة، فكان يزجر السائل فيقول ليس في العلم شيء خفيف إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [سورة المزمل:5] تجدون هذا في مثل هذه المصنفات الشاطبي -رحمه الله- في الكلام على الفتوى والاجتهاد، وكذلك أيضًا ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وغير هذا من الكتب، آثار كثيرة.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. 

  1.  مجموع الفتاوى (12/446).
  2.  التبيان في أقسام القرآن (ص: 212).
  3.  أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم: (4700)، والترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ رقم: (2155).
  4. المستدرك على مجموع الفتاوى (5/150).
  5.  أخبار النحويين البصريين للسيرافي (ص: 35).
  6.  انظر: سير أعلام النبلاء (8/77). 
  7.  إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/441).

مواد ذات صلة