الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[27] قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ..}
تاريخ النشر: ٢٦ / شعبان / ١٤٣٦
التحميل: 1812
مرات الإستماع: 1661

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

ما زلنا نتحدث -أيها الأحبة- عما يُستخرج من الهدايات من هذه الآيات الكريمات، من سورة البقرة؛ وذلك فيما قصه الله -تبارك وتعالى- من خبر آدم مع عدوه وعدونا إبليس.

قال الله -تبارك وتعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين [سورة البقرة:36] فأزلهما وأوقعهما الشيطان في الخطيئة بالأكل من الشجرة التي نهى الله -تبارك وتعالى- آدم وحواء عن الأكل منها، فتسبَّب ذلك في إخراجهما من الجنة، ومُفارقة ذلك النعيم، الذي لا يُقادر قدره.

فالله -تبارك وتعالى- قال لهم: اهبطوا من هذه الجنة إلى الأرض بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] يعني: يُعادي بعضكم بعضًا، فقد كتب الله -تبارك وتعالى- هذه العداوة بين آدم وبنيه مع إبليس، ومن أهل العلم من يقول: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] يكون ذلك في الآدميين، ولكن القول الأول هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [سورة البقرة:36] موضع استقرار وإقامة وانتفاع بما فيها وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] إلى وقت انقضاء آجالكم، وإلى وقت انقضاء هذه الحياة الدنيا.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [سورة البقرة:36] فهذا يُؤخذ منه الحذر من كيد الشيطان وتزيينه وتسويله ووسوسته، وما يُملي به من الباطل والمُنكر، فالشيطان يغر الإنسان ويُغريه، كما غر أباه، ووسوس له ولزوجه وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:21] فإذا كان هذا فعله بالأبوين، فما ظنكم بالذُرية؟! فكيف يُصدقه من عقل ذلك عن الله -تبارك وتعالى- وعرف هذا القصص الذي قصه الله علينا؛ لنتعظ ونعتبر بما وقع لأبينا، فلا نقع في طاعة الشيطان، ولا نسلك مسالكه.

ثم أيضًا في هذه الآية إضافة الفعل إلى المُتسبب فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ [سورة البقرة:36] فهذا هو الشيطان فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] ولم يقل: من الجنة، وإنما قال: مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] فجاء بهذا الإبهام؛ وذلك في هذا الموضع يدل على التعظيم والتفخيم لهذه الجنة، التي أخرجهما الشيطان منها، فهذه الخسارة، لا يمكن أن تُقدر بثمن، لا يمكن أن يُستعاض عنها بشيء، خسارة لا يمكن أن نعرف مداها، وتأملوا: ما تتابع عبر التاريخ، ومنذ آدم إلى أن تقوم الساعة: من الشقاء والعناء في هذه الحياة بجميع أنواعه، والمعاناة والكبد، حيث يخرج الإنسان باكيًا إلى الدنيا، ويخرج منها مبكيًا عليه، ويُعاني فيما بين ذلك ألوان المُعاناة في طلب الرزق، والمعاش، ويُعاني ويُكابد في طلب مصالحه وحاجاته ولذاته، وما يدفع به عن نفسه من الأذى والضرر والمخاوف بأنواعها.

وتصوروا أيضًا ما وقع في هذا المدى الطويل من المعاصي والتزيين، وما وقع فيه من المصائب في الدين والدنيا: في الأبدان، والنفوس، والأرواح، والأموال، وفي كل شيء، فكل هذا من جُملة هذه الخسائر غير المُتناهية، فالناس حينما يقع لهم شيء من الضرر في تعطل مصالح، أو ربما يُحاصر بلد، أو نحو ذلك لمدة أيام، أو أسابيع، يُخرجون أرقامًا فلكية - كما يُقال - في الخسائر، ويحسبون هذه الخسائر بطُرق معروفة: كم تعطل من العاملين، وكم تعطل من الإنتاج، وكم ساعات العمل التي فاتت... إلى آخره، فيُخرجون هذه الأرقام، وليس ذلك بأموال أنفقوها، أو أموال خرجت من أيديهم بالضرورة، لكن هكذا تُحسب الخسائر، فتصور كم من الخسائر في فوات اللذات في الجنة؟ وما يحصل من المصاعب والمُتاعب في تحصيل اللذات في الدنيا؟ وما وجد فيها من المُقاساة والمعاناة بأنواعها من الآلام والهموم والمُشكلات والأمراض والعِلل والأوصاب، إضافة إلى ما يحتاج إليه الناس من أنواع المُجاهدات للزوم طاعة الله وترك معصيته. 

ولذلك كم صار من نصيب النار، ومن أتباع الشيطان من هؤلاء من ذرية آدم فلا شك أن هؤلاء صاروا من جُملة صيوده وفرائسه وأوليائه وحزبه الذين يصيرون معه في النار، فأكثر الناس على هذا، والنبي ﷺ أخبرنا أن الله يقول: يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين[1] يعني: في النار، فتصور هؤلاء الذين قد اجتالتهم الشياطين، وضمهم الشيطان إليه، واستحوذ عليهم، وصاروا معه إلى الجحيم، فهذه كلها أيضًا من الخسائر، فحينما يضل فئام من الناس، فهذه لا شك أنها أعظم خسارة؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الزمر:15] فهذه أعظم خسارة، وهي أن يخسر الإنسان الإيمان، وما يعقب ذلك من رضا الله -تبارك وتعالى- ودخول الجنة، فيُحرم من هذا، ويصير إلى النار.

ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] الهبوط يكون من أعلى إلى أسفل، وهذا يُؤخذ منه أن الجنة في الأعلى، فوق، ويدل على ذلك أدلة غير هذا، كما هو معلوم، كقوله -تبارك وتعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [سورة الذاريات:22] فهذه الآية صريحة في الدلالة على هذا المعنى.

وكذلك تأمَّل قوله -تبارك وتعالى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36] يقول شيخ الإسلام - رحمه الله: "فكل عداوة كانت في ذريتهما وبلاء ومكروه، وتكون إلى يوم القيامة" يعني: ما سيكون في المستقبل "وفي النار يوم القيامة، يحصل العداوة بين الأتباع والمتبوعين، وما إلى ذلك، سببها الذنوب، ومعصية الرب -تبارك وتعالى"[2] فهذه العداوة التي فُرضت بين آدم وإبليس، وآدم مع ذريته وإبليس، فهذه سببها ما هو؟ المعصية، حينما أغواهما بها إبليس.

وكذلك أيضًا يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] أن هذه الدار ليست محل بقاء، ولا إقامة مُستمرة، وإنما هو متاع إلى حين، والمتاع هو الشيء الذي يعرض مما يحصل به التنعم وقتًا يسيرًا مُحددًا، ثم بعد ذلك يتلاشى ويزول، ولو نظرت إلى جميع ما في الدنيا من اللذات والمُتع لرأيتها على هذا المهيع، فكل شيء من هذه اللذات في هذا الحُطام فإنه يزول، ولو نظرت إلى أعظم اللذات عند العرب: وهي: الطعام، والشراب، والنكاح، فهذه الثلاث لو نظرت فيها لرأيت فيها أعظم عبرة على سرعة انقضاء لذات الدنيا، وهذا أمر مُشاهد لا يخفى.

فالطعام والشراب إنما يلتذ بهما الإنسان حينما يكون ذلك في موضع الذوق في فمه، وفي وقت المضغ، وقبل ذلك لا يلتذ، وبعده حينما يهبط الطعام فإنه لا يلتذ، ولو سألنا أنفسنا عن ما طعمناه في هذا اليوم، فإننا لا نجد لذته، دعك مما كان بالأمس، وقبل الأمس، والسنة الماضية، وما قبلها، وهكذا تتلاشى اللذات، كم من مرة تناولنا المُتع، وكم من مرة ذهبنا وأكلنا أطايب الطعام هنا وهناك، وكم من مرة أقمنا المُناسبات والاحتفالات، وما إلى ذلك، ووضعنا فيها صنوف اللذات من المطعوم الآن، فكل ذلك تلاشى، ولم يبق إلا ما حُفظ في بعض الصور، ولو نظرت إلى هذه الصور، وما بقي من الحقائق بعدها، تجد أن ذلك جميعًا كأنه أحلام، وهكذا الحياة الدنيا.

وهكذا لذة النِكاح، وما إلى ذلك من اللذات، وحينما يسكن الإنسان الدور الجميلة، والقصور الفارهة، وما إلى ذلك، إنما يلتذ بها لحظة السُكنى، وفي وقت السُكنى، وفي وقت قصير، ثم بعد ذلك يعتادها، فيذهب في عينه رونقها وبهاؤها وجمالها، ثم بعد ذلك لا يُحرك ما يُشاهده فيها وما يُعافسه شعرة في جسده، ولكن من ينظر من بعيد يظن أن هذا يدخل في لذة، ويخرج من لذة، والواقع أنه تبلد الحِس نحوها، فصار يطلب غيرها، ويتطلع إلى غيرها، وبعد سنين تتحول هذه الدار إلى دار قديمة، تقادم العهد عليها، فهو يريد التحول منها إلى غيرها، ولكن لم تكن كذلك في أول الأمر، وهكذا الحياة الدنيا.

ويعجب الإنسان حينما يرى من يُشيد القصور الكِبار الواسعة، فهل يظن هؤلاء أنهم يُخلدون فيها؟! لو كانت الدنيا دار خلود لتظافرت الهِمم لهذا البناء، وهذا العِمران، وتجميع هذا الحُطام، ولكن المسألة هي متاع إلى حين، يكفي بعض هذا، والقليل من هذا، ويشتغل العبد بطاعة الله، والسعي في مرضاته فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [سورة لقمان:33] فهذه حقيقتها، يُسافر الإنسان وفي أول سفره يكون في نشاط وبهجة، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يسأم، ويسأم المكان الذي هو فيه، ويبدأ يتململ، حتى يرجع ثانية، وهو في حال من التثاقل والترهل، ولم يكن في أول سفره كذلك، قضى نهمته من هذا السفر، ثم بعد ذلك بقيت ذكرى، لكن ما الذي يبقى في رصيد العبد من أعماله؟ إنما يبقى طاعة الله .

ثم أيضًا تأمّل حال آدم فالله -تبارك وتعالى- أخرجه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض، حينما أكل من الشجرة، وأما إبليس فلعنه وطرده من رحمته، فأخذ أهل العلم من هذا: أن ترك جنس المأمور أعظم من فعل جنس المحظور، يعني: هناك مأمورات وطاعات فرضها الله على العبد، وهناك معصية حرم على العبد مواقعتها، فإذا ترك المأمور، وفعل المحظور أيهما أشد؟ ترك جنس المأمور أعظم من فعل جنس المحظور، نقول: الجنس، وليس الأفراد، فالأفراد تتفاوت، فقد يكون هذا المحظور من المُوبقات السبع، وقد يكون هذا المحظور هو الإشراك بالله والمأمور قد يكون دون ذلك بكثير، فلا يُقال: بأن ترك هذا المأمور أعظم من فعل، من اقتراف ذلك المحظور، لا، فالأفراد تختلف، وهي الأنواع.

فالشرك محظور إذا وقع فيه الإنسان، فهذا ليس كمن ترك مأمورًا دونه، مثل لو أنه مثلاً ترك صلاة الجماعة في المسجد هذا مأمور، لكن هل ترك المأمور هذا مثل فعل المحظور ذاك الذي هو الإشراك بالله؟ كلا، ولو أنه ترك صلاة الجماعة في المسجد، أو فعل محظورًا بأن زنا، أو شرب الخمر، أو نحو ذلك، فأيهما أعظم؟

الزنا وشرب الخمر، هذا من فعل المحظور، وترك صلاة الجماعة من ترك المأمور، فهذه الأفراد تتفاوت، فلا يُقال مُطلقًا: بأن فعل المحظور أسهل من ترك المأمور، وإنما يُقال: الجنس، فجنس فعل المحظور أسهل من ترك المأمور، هذا من حيث الجنس، أما من حيث الأفراد فإنها تتفاوت، فانظروا ماذا حصل لإبليس لعنه من الطرد من رحمة الله وما حصل لآدم من الإخراج من الجنة، فشتان بين هذا وهذا.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب قوله : إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [سورة الحج:1] برقم: (6530) ومسلم في الإيمان، باب قوله يقول الله لآدم: أخرج بعث النار... برقم: (222). 
  2.  مجموع الفتاوى (14/ 160). 

مواد ذات صلة