الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[30] قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ..} إلى قوله تعالى: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
تاريخ النشر: ٠٢ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1612
مرات الإستماع: 1942

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نواصل الحديث -أيها الأحبة- فيما يُستخرج من الهدايات من هذه الآيات الكريمات من سورة البقرة.

فالله -تبارك وتعالى- يقول في جُملة ما خاطب به بني إسرائيل: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة:41] يُخاطبهم بهذا الأسلوب: يا بني إسرائيل آمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم، يعني: القرآن الذي أنزله على محمد ﷺ موافقًا لما يعلمونه من صحيح التوراة، ولا تكونوا أول فريقًا من أهل الكتاب يكفر به، ولا تشتروا ولا تستبدلوا وتستعيضوا بآياتي ثمنًا قليلاً، من حطام الدنيا الزائل، وإياي وحدي فأطيعون، واعملوا بطاعتي، واجتنبوا معصيتي.

وتأمَّل قوله -تبارك وتعالى- في هذا الخطاب لبني إسرائيل: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41] خاطبهم بهذا الخطاب الذي يدعوهم فيه بالإيمان بما أنزل على محمد ﷺ وذكر معه ما يدعوهم إلى الإذعان والاستجابة والانقياد مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ هذا الذي ندعوكم إلى الإيمان به هو مُصدق لما معكم من الكتاب وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وقد سبقهم الكفار من أهل مكة بالكفر به، حينما كان النبي ﷺ بين أظهرهم، ثم هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، فنزلت هذه السور التي خاطب الله فيها أهل الكتاب، وكان من أولها سورة البقرة، وكان من جُملة هذه السور، سورة آل عمران التي جاء الخطاب فيها كثيرًا للنصارى، وسورة البقرة يُقال: إنها أول سورة نزلت في المدينة، وجاء الخطاب فيها طويلاً مفصلاً لليهود، فهؤلاء قال عنهم: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41] يعني: أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأنهم العارفون بما يجب نحو هذا الكتاب، فهم العارفون بالكتب المُنزلة، وبالرُسل، وبأوصاف النبي ﷺ الذي يجدونه عندهم في التوراة والإنجيل، وهذا التصديق الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- هنا، مُصدقًا لما معكم، تصديق القرآن للتوراة، ولغيرها من الكتب، وتصديق النبي ﷺ للأنبياء، كل ذلك يكون لمعانٍ ثلاثة ذكرها أهل العلم:

الأول: أنهم أُخبروا به، ثم ظهر كما جاء الخبر عندهم، فهذا مُصدق لما معهم من الإخبار بمحمد ﷺ فقد جاءت صفته الكاشفة التي لا تدع في الحق لبسًا؛ ولهذا قال الحق -تبارك وتعالى- عن هؤلاء وشدة معرفتهم بالنبي ﷺ لما وصف به من الصفة الدقيقة التي لا يلتبس فيها بحال من الأحوال مع غيره، قال الله تعالى : يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] وقد ذكرنا في بعض المناسبات أنه لم يقل: يعرفونه كما يعرفون أنفسهم باعتبار أن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد الولادة بمدة، ولكنه يعرف ولده بمجرد خروجه من بطن أمه، بأشباهه، وأوصافه، ومن حماليق عينيه، معرفة لا تشتبه ولا تلتبس، فهذا مُصدق لما معهم بهذا الاعتبار.

والثاني: أنه ﷺ أخبر عن موسى وأنبياء بني إسرائيل أنهم أنبياء أُرسلوا من عند الله -تبارك وتعالى- وأن الله أنزل عليهم هذه الكتب، فهو مُصدق لما معهم، يقول: هؤلاء الذين جاءوا إليكم هم أنبياء من عند الله حقًا، وما كانوا متقولين على الله، وهذه الكتب التي نزلت من التوراة والزبور والإنجيل الله هو الذي أنزلها، فالنبي ﷺ بهذا الاعتبار والقرآن كذلك هو مُصدق لما معهم.

والثالث: أن النبي ﷺ جاء فيما أخبر به عن ربه من صفة الله أوصاف المعبود، وكذلك أصول الشرائع وغيرها مما أخبر الله -تبارك وتعالى- به من خبر الأنبياء مع أُممهم، مما يجدونه عندهم مقصوصًا في كتابهم، فجاء هذا مُصدقًا لما معهم، وجاء دينه في أصوله وكُلياته ومبانيه العِظام موافقًا لما عندهم؛ لأن أصول الدين، وأصول الشرائع متفقة بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا ذكر النبي ﷺ أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إخوة لعلات، وبين ذلك بأن دينهم واحد، وشرائعهم شتى، فأصل الدين واحد، فالذي جاء به هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من أصول الدين الكِبار جاء به النبي ﷺ ودعا إليه، فكان ذلك تصديقًا لما معهم، فهذه ثلاثة معاني كلها صحيحة في قوله: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ.

وفي قوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً [سورة البقرة:41] وعرفنا في بعض المناسبات السابقة في هذه المجالس، وفي دروس التسهيل: بأن الاشتراء يُقال للمعاوضة، فيُقال للبيع تارة، ويُقال للشراء تارة، فهو يدل على معانٍ من الأضداد وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً [سورة البقرة:41] أي: لا تستعيضوا عنها بثمن قليل، وما هو هذا الثمن القليل؟ هو كل ما يُعطى من الدنيا في هذا السبيل فهو قليل، فلو أخذ هؤلاء في سبيل تبديل الحق، أو في سبيل كتمانه، أو سبيل تحريفه: الدنيا وما فيها من الأموال والكنوز، فإن ذلك يُعد قليلاً، وهذا يدل على أن ما في الحياة الدنيا من هذا الحطام أنه قليل، ولو كثُر في نظر من قصُر نظره. 

فالدنيا ليس فيها شيء يمكن أن يُقال عنه بأنه جدير بالعناية، وأنه شيء عظيم سوى طاعة الله -تبارك وتعالى- وعبادته، وأما هذا الحُطام فهو شيء يسير، فموضع السوط في الجنة خير من الدنيا، وما عليها[1] وما الدنيا!! في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المُضمر السريع تحت ظلها مائة عام لا يقطعها[2] فهذه الأرض برُمتها لا يوجد فيها مثل هذه المساحة، شجرة واحدة، وكم في الجنة من الأشجار؟! وقد صح في الحديث: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب[3] فهذا الحطام كله قليل، فينبغي أن يُزهد فيه، وأن يُلتفت إلى الآخرة، وأن يُتمسك بأهداب الحق، فذلك خير وأبقى، وقد قال الله : الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [سورة الكهف:46]. 

وما هي الباقيات الصالحات؟ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويدخل في ذلك أيضًا سائر الأعمال الصالحة التي يُتقرب بها إلى الله -تبارك وتعالى؛ لأنها ذخائر تبقى، أما هذا الحطام فهو إن أكلته فني، وصار إلى ما قد علمتم، وإن تركته بقي لوارث، فإن تقربت به بصدقة ومعرف وصلة، فذلك الذي يبقى للعبد.

ويُؤخذ من هذه الآية وإن كانت خاصة في بني إسرائيل إلا أنها تتناول مَن فعل فعلهم، فكل من اشترى بالحق ثمنًا قليلاً بأخذ الرُشى، أو غير ذلك مما يحصل به إبطال الحق، سواء كان الإنسان حاكمًا قاضيًا، أو كان مُفتيًا، أو غير ذلك، فإنه حينما يأخذ هذا العوض من رشوة وغيرها مما يُبطل به الحق، أو يُبدل به الحق، أو يكتم به الحق، فإن هذا يكون داخلاً في هذه الآية.

وقد ذكر القرطبي -رحمه الله[4] وكذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع[5]: أن من امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعيّن عليه حتى يأخذ عليه أجرًا، فقد دخل في مُقتضى هذه الآية، وهذا تكلمنا عليه في شرح مُختصر أخلاق حملة القرآن، وكذلك في مجلس آخر بعنوان: وإنه لكتاب عزيز، وأيضًا في مجلس: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، في الكلام على أن الدعوة مجانًا، لا تُتخذ الدعوة سبيلاً للتكسب والتجارة (البزنس) كما يُقال، وكذلك أيضًا لا يُتخذ القرآن سبيلاً للتكسب والارتزاق، فإن العلم كذلك إذا تعيّن عليه وجب عليه أن يُعلم، أو أن يُفتي، أو نحو ذلك من غير أن يشترط على تعليمه، أو إفتاءه أجرًا.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا وجوب تقوى الله -تبارك وتعالى- فهذا أمر وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة:41] وأن تكون هذه التقوى أيضًا خالصة لله، فإن تقديم المعمولات على عواملها -كما هو معلوم- يُفيد الاختصاص أو الحصر، كما تقول: إياك نعبد وإياك نستعين، لكن حينما تقول: نستعين بك، نعبدك، فقد تعبده وتعبد غيره، وتستعين به وتستعين بغيره، لكن إذا قُدم المعمول دل على الحصر، تقول: إياك أعني، يعني: لا أعني أحدًا سواك.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- في جملة هذا الخطاب لهم: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:42] لا تخلطوا الحق الذي بينته لكم غاية البيان بالباطل الذي افتريتموه، واحذروا من كتمان الحق الواضح البين في صفة محمد ﷺ التي تجدونها في كتبكم، فيما تعلمون من هذه الكتب والأوصاف المُثبتة فيها.

وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:42] كانوا يجدونه عندهم ﷺ ربعة من الرجال، أبيض مشوب ﷺ بحُمرة، فيقولون مثلاً إنه آدم ويقولون بأنه بائن الطول ونحو ذلك مما يُغيرون به أوصافه التي يجدونها مُطابقة لما في كتابهم، ومن نظر في أخبارهم، وأخبار أحبارهم، وما كانوا يقولون إبان هجرته ﷺ إلى المدينة: أهو هو؟ قال: نعم، ثم يقول: والله لا أؤمن به أبد الدهر، هكذا كانوا يقولون.

ولكن من أراد الله هدايته، كعبد الله بن سلام حينما هاجر النبي ﷺ جاء إليه، وهو من أحبارهم، ونظر إليه، فقدم له صدقة، فأعطاها لأصحابه، فجاء بأخرى، وقال: هذه هدية فقبلها، فقال: هذه الأولى، أنه لا يقبل الصدقة، ويقبل الهدية، يقول: "لما نظرت إلى وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب"[6] وهذا ما يُعرف بدلائل النبوة، فإن دلائل النبوة منها ما يكون من قبيل الخوارق والمُعجزات، كانشقاق القمر، ونزول هذا القرآن المُعجز، ومن هذه الدلائل ما لا يكون مُعجزًا، مثل هذا، من رآه عرف أنه ليس بوجه كذاب، وكذلك أيضًا ما كان يدعو إليه، ومن نظر في أسئلة هرقل لأبي سفيان قبل إسلامه لما سأله تلك الأسئلة المعروفة، لم يكن قد سأله عن شيء من خوارق العادات، مما يُسمى بالمُعجزات، وإنما سأله عن نسبه، وعن ما يدعو إليه، وهل كان في أبائه من ملك، وما شابه ذلك؟ ثم عرف صدق ما جاء به ﷺ.

قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [سورة البقرة:42] فنهاهم عن أمرين: بينهما مُلازمة، لبس الحق بالباطل، فدعاة الضلالة، كما يقول الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- لهم طريقان في الإغواء والإضلال:

الأول: هو لبس الحق بالباطل، فهذا يُحرفون فيه الحق وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:42] الطريقة الثانية: وهي طريقة الكِتمان وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [سورة البقرة:42] فالحق إما أن يشوه ويُحرف ويُبدل، وتُغير ملامحه ومعالمه، فيبقى مُلتبسًا على الناس، والحالة الثانية: وهي أن يُكتم الحق بالكُلية، كما جاء في حال هؤلاء اليهود، وفي خبرهم حينما سألهم النبي ﷺ عما يجدونه في كتابهم في حكم الزاني؛ لما وجد رجلاً وامرأة قد حُمما -يعني بالسواد- فسألهم عنهما، فقالوا: قد زنيا، فسألهم عن ما يجدون في كتابهم، قالوا: نجد التحميم، فدعا النبي ﷺ بالتوراة، فجاء الحبر ومعه التوراة، وقد وضع أُصبعه على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام : مُره يا رسول الله فليرفع أُصبعه، وإذا آية الرجم تلوح، فغضب هذا الحبر، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء[7].

فبشر هنا نكرة في سياق النفي، وشيء سُبقت بمن التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، ما أنزل الله على بشر من شيء، يعني: أي بشر، فيشمل جميع البشر بما فيهم موسى الذي يؤمن به هذا الحبر، و(من شيء) يشمل كل شيء بما فيه التوراة، التي يؤمن بها، فانظر كيف جاء الرد القرآني بما يُسميه الجدليون طريق النقض، يعني حينما يأتي بنفي كلي كهذا ثم يُنقض ذلك بمُفردة فإن ذلك السياج من العموم ينفرط قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] من الذي جاء بها؟ تقول: ما أنزل الله على بشر من شيء، طيب من الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى؟ فإن قال: ما نزل على موسى شيء كفّره من حضر من اليهود، فلا بد أن يقول: الله، فيكون كلامه هذا الذي قاله "ما أنزل الله على بشر من شيء" قد انتقض، فيوجد بشر أنزل الله عليه شيئًا وهو التوراة، إذًا: الوحي معهود، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قد وُجدوا وبُعثوا، والنبي ﷺ كذلك هو مُرسل من عند الله -تبارك وتعالى.

فيُؤخذ من هذه الآية -أيها الأحبة- أن كل من لبس الحق بالباطل، فلم يُميز هذا من هذا، مع علمه بذلك، فإنه يكون من دعاة الضلالة، كهؤلاء اليهود، والواقع كما قلت: إن كل من لبس الحق بالباطل فقد كتم الحق؛ لأنه حينما يخلط الحق بالباطل، ويُغير معالم الحق، فلا بد أن يكون قد كتم الحق، لكن ما كل من كتم الحق يكون قد لبس الحق بالباطل.

ويُؤخذ من هذه الآية وجوب بيان الحق، وتمييز الحق من الباطل، يُقال: هذا حق، وهذا باطل وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:42] يعني: حقائق ما جاء به الرسول ﷺ وحقائق الدين يجب أن يعرفها الناس، هذا أمر لا بد منه؛ لئلا يبقى الحق مُلتبسًا، لكن ليس بالضرورة أن تتحدث عن كل قضية واقعة، وتُسمي من فعل ذلك، وأنه مُبطل، وأن هذا الفعل الذي قد جرى منه باطل، ففرق بين أن يُكتم الحق، ويبقى مُلتبسًا، ويرفع صاحب الباطل عقيرته يتكلم فلا يُبين الحق، وبين أن تُبين معالم الحق، فيبقى ظاهرًا، وإن لم يرد الحديث عن زيد وعمرو، يعني: ليس بالضرورة أن ترد على كل مُبطل، فقد تكون المصلحة خلاف ذلك، قد تكون المصلحة في كبت هذا المُبطل، وعدم إذاعة هذا الباطل، وقد يكون التنصيص على هذا المُضل، مما يرفع شأنه، أو يشتهر بذلك، أو غير هذا من المفاسد، فهنا يُقال: يُبين للناس الحق، ويكون واضحًا لا يلتبس، فلا يلزم، ولا يُشترط حينما يُبين العلماء معالم الحق والدين أنهم يتكلمون على كل أحد من المُبطلين، وهذه قضية قد يحصل فيها لبس لدى بعض الغيورين، فيظن أنه لا بد أن يُرد عليه بعينه، ولا بد أن تُرد هذه الضلالة على فلان، ليس بالضرورة، قد يكون الإغفال أولى، لكن الحق يبقى ظاهرًا واضحًا، ويُعرض من غير مواربة.

ويدخل في لبس الحق بالباطل الطرح -كما يُقال- لحقائق الدين بطريقة ضبابية، لا يُعرف من خلالها الحق، فيبقى الحق غير مُتميز، سواء كان ذلك في أصول الدين، أو في فروعه -إن صح التقسيم- وإنما يجب أن يُبين للناس حدود ما أنزل الله على رسوله ﷺ وفي الحلال والحرام إذا ظهر دليله ووجه، يُقال لهم: هذا حلال، وهذا حرام، أما أن يُجاب بإجابات ضبابية لا يأخذ السامع أو السائل أو المُستفتي حقًا ولا باطلاً، وإنما قصد المُجيب أحيانًا أن يُرضي الجميع، أصحاب المجون والفسق والانفلات من حدود الشرع، فلا يُغضب هؤلاء بكلمة حرام أو ممنوع أو لا يجوز، أو يُرضي أهل الأهواء، فلا يقول: هذه ضلالة أو هذه بدعة، وإنما الإجابات بكلام كثير، لا تأخذ منه حقًا ولا باطلاً، هذه طريقة، لكنه هي طريقة لبس يُلبس الحق بالباطل، فيجب بيان الحق بصورة واضحة، رضي الناس أم سخطوا، ولا يصح بحال من الأحوال أن يكون مقصود العالم هو إرضاء الجماهير ولا غير الجماهير، وإنما يكون المقصود هو رضا الله وحده، لا شريك له.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن العالم يجب عليه أن يتكلم بالحق بحسب استطاعته؛ لأن الله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، لكن أن يترك ذلك من أجل دنيا، فيشتري بآيات الله ثمنًا قليلاً، وهذه الدنيا قد تكون المال أو الرُشى التي يتقاضاها، وقد يكون ذلك ربما رُتبة في قلوب الجماهير والناس، كما يُعبر بعضهم بأن الوصول إلى القمة أمر سهل، ولكن المحافظة على التوازن هناك أمر في غاية الصعوبة، أين نحن في مدينة فنية، ويتحول العالم أو الداعية إلى الله إلى من يكون بهذه المثابة، وعبارات مثل هذه التي يقولها أهل الفن: الوصول إلى القمة أمر سهل، ولكن التوازن والمحافظة على التوازن في القمة أمر في غاية الصعوبة، ما هذا التوازن؟ التوازن يقصد به أنك لا تخسر هؤلاء الجماهير، فهذه الحظوة في نفوس الناس، وما إلى ذلك، فهذا من الاشتراء بآيات الله ثمنًا قليلا، وقد يكون ذلك لوظيفة أو مرتبة أو نحو ذلك، كله يدخل في هذا، إذا كان يلبس الحق بالباطل من أجل تحصيل شيء من هذه المكاسب.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم: (2892). 
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار برقم: (6553) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها برقم: (2828). 
  3.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة شجر الجنة برقم: (2525) وصححه الألباني. 
  4.  تفسير القرطبي (1/ 334). 
  5.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 172). 
  6.  تاريخ الإسلام ت تدمري (2/ 34) والبداية والنهاية ط إحياء التراث (3/ 255). 
  7.  تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 574). 

مواد ذات صلة