الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[32] قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ..}
تاريخ النشر: ٠٤ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1417
مرات الإستماع: 1669

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما خاطب به بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44] والله -تبارك وتعالى- يُنكر على بني إسرائيل أن كانت حالهم أنهم يأمرون الناس بالبر بعمل الخير، وينسون أنفسهم، فلا يكون الواحد منهم مُمتثلاً، ولا يأمر نفسه بذلك، مع أنهم يقرؤون كتابهم، وما فيه من الأمر بالاستجابة والانقياد، انقياد الإنسان في خاصة نفسه، مع أمر غيره المعروف، ونهيه عن المنكر، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المائدة:78، 79] (كانوا) فهذا يدل على ثبوت هذه الصفة السلبية فيهم، فلا ينهى بعضهم بعضًا عن منكر عظُم أم صغُر لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ هذا في عموم بني إسرائيل.

وأما العلماء والربانيون فإن ترك ذلك من قِبلهم يكون أشد وأعظم، كما قال الله -تبارك وتعالى: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63] ففي عموم بني إسرائيل، قال: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ولما ذكر الربانيين، قال: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ والصُنع أخص من مُطلق الفعل، فهو فعل وزيادة، يعني بإتقان وحذق وبتعمد وتكلف، فكان ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من قِبل الربانيين أعظم وأشد من ترك غيرهم له.

فهؤلاء بهذه الصفة ومن كان هذا شأنه، فإن ذلك يدل على قلة عقله؛ ولهذا قال: أفلا تعلقون فمن أمر غيره بالخير والمعروف، ولم يفعله، أو نهاه عن الشر، ولم يتركه في نفسه هو، فإن ذلك يدل على جهله، وضعف عقله، لكن إذا كان الإنسان غير مُمتثلٍ في خاصة نفسه، يعني: عنده تقصير، فهل يعني ذلك أنه لا يأمر غيره بمعروف هو لا يفعله، أو أنه لا ينهى غيره عن منكر هو واقع فيه؟ الجواب: ليس الأمر كذلك...

الأول: هو فعل المعروف وما أوجب الله على العبد.

والثاني: أمر غيره بفعله، وكذلك هناك واجب وهو أن الإنسان عليه أن يترك المنكر والمعصية في نفسه، وهناك واجب آخر أن ينهى غيره عنه، فالجهة مُنفكة، فإذا كان الإنسان مُقصرًا في نفسه ولم يفعل هذا المعروف، فيُنظر في هذا المعروف، هل هو واجب أو غير واجب؟ فإن كان من الواجبات، فهل يكون ذلك مُسوغًا له: أن يترك أمر غيره بهذا المعروف؟ هل يكون مسوغًا له بأن لا يأمر غيره بهذا المعروف؟

الجواب: لا؛ لأنه إن لم يأمر غيره به، فإنه يكون قد ترك واجبين:

الأول: الامتثال بفعل هذا المعروف في نفسه.

الأمر الثاني: الامتثال الآخر بنهي غيره عن تركه، فجمع إساءتين، هو في نفسه غير مُمتثل، وكذلك أيضًا هو لا ينهى غيره، أو لا يأمر غيره بهذا المعروف، وقل مثل ذلك في المنكر، فإذا كان الإنسان يتعاطى شيئًا من المحرمات والمنكرات، فهذا لا يجوز، ثم رأى غيره يفعل هذا الشيء، فهل كون الإنسان يفعل هذا المنكر يسوغ له ألا ينهى غيره عنه؟

الجواب: لا، فيكون قد ارتكب مُخالفتين:

الأول: أنه فعل هذا المنكر بنفسه.

الثاني: أنه لم ينه الآخرين عنه حين فعلوه، فيكون جُرمه أشد، فإذًا ما الذي أنكره الله   على بني إسرائيل هنا؟ هذا التوبيخ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:44] إنما هو بسبب أنهم أمروا بالمعروف، وتركوا الامتثال، فليس الإنكار أنهم يأمرون بالمعروف، فهذا مطلوب، ولكن ما صاحب ذلك من ترك الامتثال، فقبُح فعلهم بذلك، ولو أردنا أن نصور مراتب الناس بهذا الاعتبار.

نقول: أعلى المراتب هو الذي يفعل المعروف، ويأمر غيره به، ويترك المنكر، وينهى غيره عنه، هذه المرتبة العليا التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن.

المرتبة التي بعدها: هي: أن يكون الإنسان يعمل المعروف، لكنه لا يأمر غيره به، فيكون مُقصرًا بهذا، المرتبة الثالثة: أن يكون هذا الإنسان يأمر غيره بالمعروف، ولكنه هو غير مُمتثل، فلا يفعل المعروف، فهذه الحالة هي التي أنكرها الله على بني إسرائيل، فهذا والذي قبله كل واحد منهما فعل أحد الواجبين، وأما المرتبة الأولى: فذاك الكامل الذي فعل الواجبين، امتثل وأمر.

الثاني: امتثل ولم يأمر.

الثالث: أمر ولم يمتثل في نفسه.

المرتبة الرابعة: وهي ذاك الذي لم يمتثل في نفسه، ولم يأمر غيره.

الخامسة: هو الذي لم يمتثل في نفسه، وينهى عن المعروف أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ۝ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ۝ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى [سورة العلق:9- 12] فهو ليس على الهدى، ولم يأمر بالتقوى، فهذا أحط المراتب، ينهى الآخرين عن الخير والمعروف، ويُثبطهم عنه، كما كان المنافقون يفعلون على عهد رسول الله ﷺ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18] لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47] فهذا شر الناس.

والمقصود: أن الإنسان حينما يجب عليه ما يجب مما فرض الله عليه، ثم يُقصر في ذلك، فليس ذلك يعني أنه أن هذا التقصير يحمله على تقصير آخر، وهو ترك أمر الناس بهذا المعروف، فيكون قد ترك واجبين، وتكون إساءته أعظم، وإساءة واحدة أسهل من إساءتين.

أما إن كان ذلك من قبيل المندوب، أو من قبيل المُستحب، فهو لا يمتثل، لكن يأمر الآخرين به، فهذه حال أكثر الدعاة إلى الله، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وهذا الذي قال فيه السلف -رحمهم الله- بأنه لو لم يأمر إلا من كان مُمتثلاً لم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر، لكن يحاول الإنسان أن يُكمل نفسه، وأن يتقي الله ما استطاع، ولكنه لن يُحيط بالنوافل والعبادات المُختلفة من التطوعات بأنواعها، إذا كان لا يأمر إلا بما يفعل فقط، فمعنى ذلك أنها ستضيق الدائرة، وكيف سيعرف الناس شرائع الإسلام، وأبواب البر، فهذا يُفتح له في هذا، وهذا يُفتح له في هذا، ويكون من دلّ على هدى، فله مثل أجور من تبعه، لا ينقص من أجورهم شيء، وهكذا في الأمور غير الواجبة، ولا يكون بذلك آثمًا، ولا مُسيئًا، وقد يحث الناس مثلاً على فضائل الأعمال من ألوان التطوعات في الصيام والذكر، وما إلى ذلك من أنواع البر، لكنه قد لا يتيسر له أن يفعل كل ما يأمر به، ففي هذه الحال لا يكون مؤاخذًا، وبهذا يحصل الدعوة إلى الله، وتعليم الناس الخير، أما الأول فظهر وجهه؛ ولهذا قيل:

إذا لم يعظ من هو مُذنب فمن يعظ الناس بعد محمد ﷺ.

فكل الناس صاحب تقصير وذنوب وعيوب، ولكن يحاول المرء أن يُسدد ويُقارب، وإذا وجه الكلام إلى الآخرين أن يكون واعظًا لنفسه بهذا الكلام قبل الناس، أما أن يتكلم في أشياء، وكأنه قد كمل نفسه بلغة الخطاب لهم: أنتم كذا، أنتم كذا، هذه ثقيلة على الأسماء، إذا تركتم كذا، إذا قصرتم في كذا، إذا وقعتم حينما تفعل هذه المعصية، يكون عليك من الوزر كذا وكذا، حينما تُهمل كذا، لا لا، قل: حينما نُهمل، حينما نُقصر، حينما نُضيع، حينما نُذنب، فأنت معهم.

وقد ذكرت في بعض المناسبات على سبيل طرفة ذلك الرجل الذي وقف يعظ الناس بعد الصلاة، ويقول لهم: الموضوع جِد، المسألة فيها جنة ونار، لا يأتيني أحد غدًا يقول لي: كيري ميري، يعني: الآن إذا حللت هذه الجملة ماذا تعني؟ تعني: أنه مستشعر أنه قد حقق النجاة، لكن هو يتحدث عن هؤلاء الهلكى، من الآن اعملوا واستعدوا، لا يأتيني أحد غدًا، يعتذر أو يقول: ما انتبهت، أو ما دريت، طيب وأنت خلص نفسك، لكن أحيانًا يكون عند الإنسان مثل هذا الشعور إذا غفل عن نفسه، وقد لا يتفطن لذلك.

ثم أيضًا في قوله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44] إنما يتحقق الاقتداء والقبول والتأثير فيمن كان مُمتثلاً، فإذا رأى الناس قولاً جميلاً، ولكن الحال لا تُسعف من هذا القائل، فإنهم لا يقبلون كلامه، ولا ينتفعون به؛ لأنهم ينظرون إليه، وأخطاؤه وعيوبه، كما قال بعضهم:

كفوفة الظُفر تخفى من حقارتها ومثلها في سواد العين مشهور
وخطأ الجاهل المغمور مغمور وخطأ ذي الشرف المشهور مشهور[1]

فهذا ينظرون الناس إليه بنظر بمُكبر، فتتضخم أخطاؤه وعيوبه، ونحو ذلك، فإذا لم يروا قدوة، وحالاً صالحة للاقتداء والامتثال، فإنهم لا ينتفعون بهذا الذي يقوله لهم، ويُخاطبهم به، وهذا أمر مُشاهد.

فهنا: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44] يُرشد إلى مُطابقة الحال مع المقال، وهذا هو الذي يكون فيه التأثير إن وجِد معه الصدق والإخلاص، فلا بد من تطابق بين السلوك والقول، والقول والعمل، وهذا يحتاج إلى شيء من المُجاهدة والصبر، وكثرة المُحاسبة للنفس.

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44] فهذه حالة تدعو إلى التُعجب؛ ولهذا جاءت هذه الهمزة التي يُعجب الله فيها من حالهم، ويوبخهم على هذا الصنيع القبيح.

ثم انظروا إلى التعبير، حيث جاء بالمُضارع أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [سورة البقرة:44] فالفعل المضارع يدل على الدوام والتجدد حينًا بعد حين، فهذا يدل على أن هذه الصفة تتكرر، وهذه الخلة والفعل والسلوك يتكرر منهم، يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ تأمرون هذا فعل مُضارع، فهذا ديدنهم وحالهم، وهو خطاب للذين عاصروا النبي ﷺ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وإلا وجد في بني إسرائيل من يأمر بالمعروف لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران:113، 114].

وكذلك في أولئك الذين اعتدوا في السبت أخبر الله عن خبرهم، وعن أولئك الذين نهوهم، وعن أولئك الذين وجهوا الخطاب للناهين، فدل على وجود فئة كانت تُنكر أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [سورة الأعراف:164] يعني: نحن نفعل ذلك إعذارًا إلى الله -تبارك وتعالى- ولعلهم يتقون، فلعله ينفع، فوجد فيهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لكن في هذه الأمة، وهذه الشعيرة أعظم وأكبر وآكد، والقائمون بها أعظم من القائمين بها من بني إسرائيل.

ولذلك انظر في الخطابين لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة آل عمران:113، 114] ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم قال: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران:114] لكن لما ذكر هذه الأمة، ماذا قال؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران:110] فذكر الإيمان بعد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فأخذ منه بعض أهل العلم: أن المُغايرة في الخطابين بتقديم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في أول صفات المؤمنين، من هذه الأمة، وذكره قبل الإيمان، بخلاف بني إسرائيل: أنه في هذه الأمة أبرز وآكد وأعظم ما تميزوا به، وإلا فهم يشتركون في الإيمان، لكن لما تميزت هذه الأمة أنها قائمة بأمر الله، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، كانت خير أمة.

ولذلك قال الله -تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] وسطًا عدولاً خيارًا، فهؤلاء من كونهم بهذه المثابة العدول الخيار فهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فإذا جاءك من يأمرك بالمعروف، وينهاك عن المنكر اقبل ذلك بصدر رحب، ولا تعتقد أن هذا تدخل في خصوصياتك، فإن هذا من القيام بالعدل وبالقسط، والامتثال لأمر الله، وتحقيق الصفة الكبرى، التي اتصفت بها هذه الأمة، وتميزت على سائر الأمم، وبهذا يكون لهم هذا الوصف من الخيرية خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] بماذا؟ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران:110] فإذا كانوا لا يأمرون بالمعروف، وكل واحد في شأنه، وفي حاله، ويعتقدون أن ذلك من قبيل التدخل في الخصوصيات، فإن هذا يكون سلبًا لهذه الخيرية، ولا بد.

وأيضًا تأمل قوله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة:44] يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله: "النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة"[2] ونسيان النفس يعني بترك الامتثال، فعبّر عن الترك بالنسيان، وهذا مبالغة في الترك؛ لأن النسيان يأتي بمعنى الترك، تقول: فلان نسي أصحابه، فلان صار له شأن ومال فنسي رفقاءه، بمعنى تركهم، والنسيان الآخر: وهو ذهاب المعلوم من الذهن، فهذا هو النسيان المعروف، تقول مثلاً: نسيت المسألة، يعني لم يعد يتذكر ذلك، فهذا يقال له: نسيان، ولكن النسيان المقصود هنا هو الترك وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ يعني تتركون الامتثال بما تأمرون به، ففي هذا العتاب والتوبيخ قال لهم: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:44] فهذه جملة حالية يصدر الكلام بهذا الضمير (وأنتم) ففيه زيادة في التقريع والتوبيخ، وتسجيل التبكيت على هؤلاء، فحينما تبكت إنسانًا تقول: وأنتم تفعلون كذا، وأنت تفعل كذا، وأنت حصل منك كذا، فأنت تبكته وتقرعه وتوبخه بذلك.

ثم هذا يدل أيضًا على أن من يتلو الكتاب ينبغي أن يكون على حال مرضية في نفسه من الامتثال والاستجابة لأمر الله ومع غيره في دعوته، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر؛ ولهذا قال الله : وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُون [سورة آل عمران:79] ماذا تدرسون؟ الكتاب وتعاليم الكتاب، وتعلمون الكتاب، فكيف تدرسون وتعلمون ولستم بهذه الصفة؟! بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ فالباء هذه تدل على التعليل، وتدل على السببية، بما كنتم تعلمون، فحري بمن يعلم الكتاب، ومن يدرس الكتاب من طلاب العلم الشرعي أن يكون الواحد منهم أكثر الناس تميزًا وامتثالاً ومبادرة لأمر الله، واستجابة لطاعته، لا يكون العوام يسبقونه إلى الطاعات، وهو من الذين يتأخرون عنها، فهذا فيه عظة وعبرة، وهذه الأمة تتلو الكتاب، فأين أثر الكتاب على أمة محمد ﷺ؟

إذا كان هذا الخطاب لبني إسرائيل يتلون كتابهم، فهذه الأمة أشرف من بني إسرائيل، وهذا الكتاب الذي أُنزل أشرف من الكتاب الذي أُنزل على بني إسرائيل، وهو أعظم تأثيرًا لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة الحشر:21] فأين أثر هذا الكتاب على من يتلوه من هذه الأمة؟! فهذه القضية لا تختص بالعلماء، وطلاب العلم أَفَلَا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44] أين عقولكم؟ أين يُذهب بها؟

فإن ترك الامتثال في الوقت الذي يأمر الإنسان الآخرين بالمعروف الذي لم يفعله، فإن ذلك يدل على عدم عقله، طيب لو كان لا يأمر بالمعروف، ولا يمتثل، فهذا عقله أسوأ حالاً من الأول، طيب لو كان لا يفعل المعروف، وينهى عنه، فهذا في الحضيض، أسوأ حالاً، وكلما كان العبد أكثر إعراضًا عن أمر الله، وعن الامتثال لما دعاه إليه القرآن، وما دعاه إليه الرسول ﷺ فإن ذلك يكون نقصًا في عقله؛ ولذلك انظروا في الآيات الكثيرة لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة البقرة:164].

ولما ذكر الله خبر أيوب وقصته في موضع، قال بعد ما ذكر السياق كاملاً: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [سورة الأنبياء:84] وفي الموضع الآخر: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [سورة ص:43] فأخذ منها بعض أهل العلم ما يسمى دلالة الإشارة عند الأصوليين، فقال هنا في نفس السياق ذكرى للعابدين وذكرى لأولي الألباب، وهم أصحاب العقول الراجحات، فدلّ على أن أعقل الناس أعبدهم لله -تبارك وتعالى؛ لماذا؟

لأنه ينظر نظر بعيد، في آخرة، ولا تغره الدنيا والشهوات، والمطامع القريبة؛ لأنه يعرف أنه إذا أخذ هذا الذي لا يحل له، فهي جمرة، فيتركها، والآخرون يمكن ينظرون إليه أن هذا مغفل، كيف يترك هذه الفرص؟ لكن هو الذي ينظر بنظر صحيح، وهؤلاء ينظرون بنظر قريب، لا يجاوز آنفاهم، فهذه لقلة عقولهم، فالإنسان الذي يتهافت على المعصية هذا لقلة عقله؛ لأنه يحمل على ظهره، والإنسان الذي يفري لسانه بأعراض الناس، هذا لقلة عقله، لماذا؟ لأنه سيدفع الثمن، وهي حسنات تذهب إليهم، كل غيبة بحسنات، لو قيل له: ادفع الآن كل غيبة بشيك، ادفع ثلاثة آلاف ريال في هذه الغيبة لفلان وفلان، ففي هذا المجلس كما اغتبت من إنسان؟ هذا أعطه ثلاثة آلاف، وهذا ثلاثة آلاف، لتاب توبة نصوحة من الغيبة، من أجل ثلاثة آلاف، لكن إذا قيل له: الحسنات ستوزع هنا وهناك، فأكثر أو أقل من هذه الغيبة، وكل ذلك محسوب عليك، فهذا الذي يتكلم ولا يبالي هذا لقلة عقله.

وهكذا -أيها الأحبة- فإن ضعف التدين والاستقامة والاستجابة والتقوى في نفوسنا، هذا لقلة عقلنا، ولقلة بصرنا، ولقلة علمنا؛ ولذلك فإن الله -تبارك وتعالى- عد ذلك الذي يفعل المعاصي جاهلاً مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54] وليس معناه: أنه ما يعرف أن هذا حرام؛ لأن الذي لا يعرف، فهذا غير مؤاخذ، لكن الله ذكر بعده التوبة، فالذي يتوب هو الذي يعلم بالحكم، فكل من عصى الله فهو جاهل، ولو قيل لأحد من الناس: يا جاهل لغضب، ولم يقف لغضبته شيء، لكن الواقع أنه جاهل، فلو عرف الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، وعظمه لما اجترأ على معصيته، ولكن لجهله يقع في ذلك، مثل الصغير الذي يأخذ ما يضره، فلربما وقع على النار، أو أخذ السكين وجرح يده، أو وضع في فيه شيئًا ربما يضره، أو نحو ذلك.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  البيتان للمخزومي، زهر الأكم في الأمثال والحكم (3/ 104) والدر الفريد وبيت القصيد (4/ 136).
  2.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:51). 

مواد ذات صلة