بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة السلام على رسول الله، أما بعد:
فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما وقع لبني إسرائيل حينما جاء موسى لميقات ربه، وذلك أنهم عبدوا العجل، ثم تاب الله -تبارك وتعالى- عليهم بعد هذا الجرم الشنيع، قال الله بعد ذلك: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:53] يعدد عليهم نعمه وآلاءه.
ففي هذا الميقات الذي كلَّم الله موسى به وأنزل عليه التوراة: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب واذكروا نعمتنا عليكم إذ أتينا موسى الكتاب، أعطينا موسى الكتاب وَالْفُرْقَانَ فهذا الكتاب وصفه الله -تبارك وتعالى- بهذا الوصف أنه فرقان، يفرُق الله به بين الحق والباطل، والمقصود بذلك التوراة، وذلك من أجل أن يهتدوا لَعَلَّكُمْ أي: من أجل هدايتكم.
وبعض أهل العلم يقول: كل "لعل" في القرآن فهي للتعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون.
ومن أهل العلم من حمل "لعل" على بابها وهي أنها للترجي، والله -تبارك وتعالى- لا يقع منه الترجي؛ لأن الترجي إنما يكون ممن لا يعلم عواقب الأمور، والله بكل شيء عليم، وخرَّجوا ذلك باعتبار أن الخطاب روعي فيه حال المخاطبين: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
وهذه الآية يؤخذ منها أن إنزال الكتب نعمة من الله وتقدست أسماؤه، بل هي من أعظم النعم وأجلها؛ لأن الناس لا يمكن أن يعرفوا حقائق الأمور، لا يمكن أن يعرفوا كثيرًا من الغيوب إلا عن طريق الوحي، الأمور الغائبة عنهم في الزمن الماضي، والأمور الغائبة عنهم في المستقبل، ما يتعلق بالله والدار الآخرة، كيف تصل العقول إلى مثل هذه الأمور مهما كانت هذه العقول، ومهما أوتيت من القُدَر والإمكانات والذكاء، فإن الأمور الغيبية غائبة عنها، فالوحي هو الطريق إلى معرفتها، قد يدرك العقل جملاً من صفات الله -تبارك وتعالى- ودلائل ربوبيته ووحدانيته ونحو ذلك، ولكنه لا يدرك ذلك على التفصيل إلا عن طريق الوحي، وهكذا في محاب الله ومساخطه، وشرائع الإيمان فإن ذلك إنما يعرف عن طريق الوحي، وقل مثل ذلك ما يتعلق بالدار التي يصير الناس إليها، وأوصاف هذه الدار، فإن هذا إنما يعرف بطريق الوحي، فهذا الوحي وهذه الكتب يتوصلون بها إلى المعارف الكبرى، التي تتوقف عليها سعادتهم وفلاحهم ونجاتهم، فبها يعرفون المعبود، وبها يعرفون الطريق التي رسمها لعباده، وبها يعرفون الدار التي يصيرون إليها.
ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن إنزال هذه الكتب إنما هو لغاية عظمى، لغاية كبرى وهي: بيان الحق وهداية الخلق، فالله -تبارك وتعالى- هنا يذكر أنه آتى موسى الكتاب والفرقان قال: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
إذًا هذه الكتب نزلت من أجل الاهتداء، ولم تنزل هذه الكتب من أجل أن تتلى فحسب، أن يتلوها المسلم من أجل أن يحصل الحسنات والأجر والثواب، فهذا مطلوب بلا شك، ولكن المقصود الأساس هو الاهتداء بها، وإنما طريق الاهتداء التدبر، أن يتدبرها ليعقل عن الله -تبارك وتعالى- مراده، فمن أراد الهداية فعليه بتدبر القرآن فهو أصل الهداية وينبوعها، ولا بد من ذلك وإلا فالضلال سيكون حليفه.
ثم قال -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54] واذكروا إذ قال موسى، اذكروا نعمتي عليكم حين قال موسى لقومه: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إلهًا، حيث وضعتم العبادة في غير من خلق، وجعلتم الإله عجلاً مصطنعًا، فهذا من أعظم الظلم.
فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ إلى خالقكم الذي أوجدكم من العدم، وذلك بأن يقتل بعضكم بعضًا: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذلك القتل خير لكم عند خالقكم وربكم وبارئكم من العقوبة التي تنتظركم وهي النار، فامتثلتم ذلك فَتَابَ عَلَيْكُمْ فمنَّ عليكم بقبول توبتكم، وفقكم للتوبة وقبلها منكم.
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ لمن تاب من عباده الرَّحِيمُ بهم، تواب: كثير التوبة على العباد، على كثرة ذنوبهم ومعاصيهم، وعلى كثرة هؤلاء العباد.
فيؤخذ من هذه الآية أنه ينبغي لمن يخاطب الناس في دعوتهم إلى ربهم -تبارك وتعالى- أن يستعمل معهم الأسلوب الذي تقبله نفوسهم وتنقاد إليه أرواحهم، فموسى بعد هذا الجرم الشنيع عبادة العجل، واستضعاف هارون والهم بقتله والشماتة به، يقول لهم موسى : يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ خاطبهم بهذا الكلام الذي هو في غاية اللطف، وهم قد جنوا أعظم جناية، فينبغي أن يراعى هذا في خطاب الناس، فالعبارات الموحشة، العبارات المنفرة، العبارات التي من شأنها أن تصرف الناس عن القبول ينبغي أن تجتنب، يخاطب الناس بالخطاب اللائق إذا كان المراد هو القبول والانقياد، أما إذا كان المراد هو تنفير الناس أو تكسير هؤلاء الناس فذلك شأن آخر.
وقد ذكرت في بعض المناسبات ما ينبغي للخطيب مراعاته من اختيار العبارات المناسبة، ويبتعد في العبارات الموحشة من توجيها بضمير الخطاب فيقول لهم: أنتم تفعلون كذا، أنتم يصدر عنكم كذا، أنتم إذا فعلتم كذا أدخلكم الله النار، وإذا فعلتم كذا أنزل الله بكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وكأنه وقف على المنبر يُجرِّم هؤلاء ويسمعهم العبارات التي تثقل على مسامعهم، فمثل هذا لا يحسُن ولا يليق.
فهذا الخطاب اللطيف بهذا التودد: يَا قَوْمِ يقرركم بذنبكم: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فذكر لهم موجب التوبة، ثم بعد ذلك حثهم عليها: فَتُوبُوا ثم بين لهم لمن يتوبوا: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ وهذا الجرم الذي عملوه هو: بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ شيء لا يُعقل ولا تقبله النفوس السوية، ومع ذلك فعلتموه.
فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ كيف تجعلون أنفسكم متذللة لمن لا يملك لها نفعًا ولا ضرًا، يخاطبهم بهذا -عليه الصلاة والسلام- يقول: أنتم أشرف من هذا العجل المصنوع الذي صنعتموه بأيديكم، فهذا أسوأ الظلم، وذلك أن الإنسان ينبغي له أن يترفع عن عبادة غير الله -تبارك وتعالى- فالله هو الذي خلقه وأوجده وكرَّمه، وجعله في أحسن تقويم، فالعبادة يصرفها له وحده، ولا يذل لغير الله وتقدست أسماؤه، فمثل هذا تدركه الفطر السليمة والعقول الصحيحة، فهذا الذي فعلوه بأنفسهم هو ظلم عظيم.
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ والباء هنا للسببية يعني بسبب اتخاذكم العجل، وحذف المفعول الثاني بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إلهًا أو معبودًا، لكنه حذف في جميع المواضع في القرآن، قال بعض العلم: لأنه لا يُتصور أو لا يليق أن يتفوه بمثل هذا، عجل ويكون إله، وانظروا أثر العجل وعبادة العجل على اليهود كيف صاروا يعبدون الذهب، وهذا مشاهد في أرجاء المعمورة.
والتعبير هنا بلفظ البارئ مرتين: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى من؟ ما قال: إلى إلهكم الحق، وإنما قال: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ثم كررها مرة أخرى فقال: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فالبارئ هو الذي أوجدهم من العدم برأهم أوجدهم بعد أن كانوا عدمًا، فكيف تتخذون عجلاً صنعتموه بأيديكم وتتركون وتعرضون عن المستحق للعبادة وهو البارئ الموجد من العدم.
وقد ذكرنا في بعض المناسبات في قوله تعالى مثلاً: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21] وقلنا: إن الأمر بعبادة الله كثيرًا ما يقرن في القرآن بهذا الخلق الَّذِي خَلَقَكُمْ فمن خَلق هو المستحق لأن يُعبد وحده دون ما سواه، فهنا ذكر لفظ البارئ الموجد من العدم، هذا الذي يستحق أن يُعبد لا أن يُعبد العجل المصنوع الذي صنعتموه بأيديكم وقلتم فيه ما قلتم من الفرية الكبرى: بأنه إله، ولهذا لاحظوا أنه كرر لفظ البارئ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ للتوكيد، الأصل الإضمار، قال: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54] عنده، فالضمائر تختصر، فإذا أعاد ما يصلح في موضعه الضمير فأظهره هذا الذي يسمونه الإظهار في موضع الإضمار، فهذا يكون لملحظ بلاغي، فهنا هذه القضية تتعلق بالعبادة هؤلاء عبدوا عجل، فهو يؤكد عليهم هذا البارئ هو الذي يستحق أن يُعبد، فأعاده مرتين وهذا فيه ما فيه من هذا الملحظ -والله تعالى أعلم- هذا الفعل هذه التوبة هي خير لكم عند الذي أوجدكم وأنشأكم، فالذي أوجدكم من العدم توبتكم هذه خير عنده من بقائكم على هذه الحال من عبادة عجل مصنوع لا ينفع ولا يضر.
ثم يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فتوبوا، بأن الفاء تدل على التعقيب المباشر فَتُوبُوا فيؤخذ من هذا أن التوبة أنها واجبة على الفور، لا يؤجل التوبة، يجب على الإنسان أن يتوب مباشرة ولا يسوِّف ويقول: إذا حجيت أو إذا تزوجت أو إذا بلغت الأربعين، وإنما يبادر، فها نحن نرى أقوامًا قد حجوا ولم يوفقوا للتوبة، ونرى أقوامًا قد شابت مفارقهم ولم يوفقوا للتوبة، فالعبد يجب عليه أن يبادر ولا يدري في أي لحظة يختطف ويموت، ولا يدري الإنسان هل يوفق للتوبة أو لا.
وكما ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الأنفال:24] يحول بين المرء وقلبه، يريد التوبة فلا يتمكن؛ لأنه أعرض عنها، لم يبادر إليها، فهذه أمور مصيرية، يتعلق بها مصير الإنسان، المستقبل الحقيقي، فلا تفريط، يتشبث بها، يحرص عليها، يحرص على الهداية، يقبل بكُليَّته بقلبه بكامله على الهدى والإيمان، ويبادر إلى التوبة ويجددها دائمًا، شيخ الإسلام -رحمه الله- كان يقول: "بأنه يجدد إسلامه في كل يوم"[1].
ويقول: "وما أسلمت بعد إسلاما جيدا"[2] وهذا الكلام قد يظنه الإنسان في بعض الأحيان من باب التواضع، ولكنه عند التأمل يظهر أن هذا الكلام صحيح، النقص الذي يعتور الإنسان والتقصير الكثير في جوانب كثيرة والجهل الذي من شأنه يخفى عليه كثير من الأمور الشرعية والأحكام والراجح في مسائل الخلاف، وما إلى ذلك، يحتاج معه إلى أن يصحح دائمًا، يصحح النية والقصد والإخلاص، يصحح العمل، يراجع نفسه من التقصير من المعصية، ويجدد دائمًا؛ لأنه لأن الإيمان يَخلَق في الجوف كما يَخلَق الثوب، فيحتاج إلى تعاهد وتجديد.
وهذه الجملة فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ المعنى: فليقتل بعضكم بعضًا، وقال: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ تنزيلاً للنفوس المتفقة في أمر متحد كالإيمان منزلة النفس الواحدة؛ ولهذا قال: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أي: فليقتل بعضكم بعضًا.
وقد قال بعض المفسرين وهي من أخبار بني إسرائيل -فالله أعلم بها- قالوا: إنه قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألفًا، قيل: أُلقي عليهم الغمام، السحاب الأبيض الرقيق، وصار الواحد لا يرى وجه الآخر، فيضرب بالسيف من أمامه، فيقتل الرجل أباه وابنه، أخاه، وهو لا يشعر، حتى حصلت فيهم مقتلة عظيمة، ثم رفع ذلك عنهم وحصلت هذه التوبة من الله -تبارك وتعالى- لهم، فكانت توبتهم هذه.
ويؤخذ من هذه الآية سعة رحمة الله بعباده، سعة رحمة الله بهؤلاء العباد، بتوفيقهم للتوبة، وقبول التوبة منهم، وسعة رحمة الله بهذه الأمة أمة محمد ﷺ انظروا إلى توبة بني إسرائيل كيف كانت: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ توبة عظيمة شاقة صعبة، قتل النفوس، ولكن هذه الأمة المرحومة التوبة ما على الإنسان إلا أن يندم، ويُقلِع، ويعزم ألا يعود، ثم بعد ذلك تبدل سيئاته حسنات، لا يحتاج أنه يقتل نفسه ولا يقتل غيره.
ويؤخذ من قوله: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54] إثبات هذا الاسم لله "البارئ" وهو متضمن لصفة البرء الإيجاد من العدم، وقد تكلمنا على هذا المعنى في الكلام على الأسماء الحسنى، والفرق بين البارئ والخالق والمصور، وقلنا: البارئ الموجد من العدم، وتكلمنا على الفرق بين البَرء والبُرء، وأصل هذه المادة، فإن إحداهما تدل على الإيجاد من العدم، والثانية تدل على مزايلة الشيء، حينما يبرأ العليل المريض يكون قد فارق العلة، وهكذا فإن الخالق يأتي بمعنى المقدر، ويأتي بمعنى الموجد والمنشئ من العدم، فيكون بمعنى البارئ بهذا المعنى الثاني.
المصور يكون بمعنى المشكل الذي أعطى هذا المخلوق صورة وهيئة تخصه، لكن إذا ذكر البارئ وحده دخل فيه معنى الخالق، فهنا إثبات هذا الاسم، وكذلك أيضًا التواب والرحيم، التواب الرحيم يبعثان على الأمل، ربنا الذي نعبده تواب، فتوبته على عباده تارة تكون بتوفيقهم للتوبة، وتارة بقبولها منهم، تواب كثير التوبة، وكذلك رحيم صيغة مبالغة فهو كثير الرحمة عظيم الرحمة، يقول الله : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [سورة الأعراف:156] رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [سورة غافر:7] واستوى على أوسع المخلوقات وأعظمها وهو العرش، بأوسع الصفات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [سورة طه:5].
ثم قال الله -تبارك وتعالى: فَتَابَ عَلَيْكُمْ لاحظوا هذا يسمونه التفات هناك: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54] فموسى يخاطبهم، ثم جاء بعد ذلك الخطاب للغيبة فَتَابَ عَلَيْكُمْ فهذا يسمونه التفات من التكلم إلى الغيبة، ما قال: فوفقكم أو فوفقتكم إلى التوبة فتبت عليكم فَتَابَ عَلَيْكُمْ.
فقوله: عَلَيْكُمْ جاء بضمير الخطاب، يعني ما قال: فوفقتكم فتبت عليكم، ولم يقل: فتاب عليهم بضمير الغائب، مع أن الضمير للقوم: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ هذا غائب، قال: فَتَابَ عَلَيْكُمْ فجاء بالخطاب، فهذه نعمة أراد تذكيرهم بها، فخاطبهم بذلك مباشرة، ما قال: فتاب عليهم.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانًا -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- انظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 143)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 520).
- المصدر السابق.