الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[45] قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ..}
تاريخ النشر: ١٧ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1335
مرات الإستماع: 1632

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

مرحبًا بكم جميعًا أيها الأحبة، وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره، وحسن عبادته.

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة -سورة البقرة- بعدما ذكر وقص خبر بني إسرائيل في جملة من الآيات التي ذكر فيها عتوهم وتمردهم على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسله -عليهم الصلاة والسلام- قال الله بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] فذكر أهل الإيمان أول من ذكر، وحمل ذلك على المؤمنين من هذه الأمة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا من هذه الأمة اعتقدوا، وأقروا، وأذعنت قلوبهم وانقادت بما يجب الإيقان والإذعان والإقرار به من الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وما يتبع ذلك من قضايا الإيمان.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وهم اليهود، وقيل لهم ذلك، قيل: باعتبار أنهم قالوا: هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] يعني: رجعنا إليك، وأصل الهود هو الرجوع، يقال: هاد، أي رجع، وكما قيل:

يا أيها المذنب هُد هُد واثبت كأنك هدهد

على كل حال، وبعضهم يقول غير هذا في سبب التسمية وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وهم أهل الملة المعروفة، قيل: سموا بذلك باعتبار أنهم قالوا: إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82] أو نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [سورة الصف:14] لما قال عيسى للحواريين: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ [سورة الصف:14] وبعضهم يقول غير هذا في بسبب التسمية، بعضهم يضيفهم إلى بلدة يقال لها: الناصرة، وهي كما يقال: بلد المسيح عيسى التي ولد فيها، والله أعلم.

وَالصَّابِئِينَ هذا الاسم يقال لطوائف متعددة، وبعض هذه الطوائف كانت على الإيمان، وبعض هذه الطوائف كانت على الإشراك، فهو يقال لقوم من الحنفاء ما كانوا على دين من أديان الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بعينه، يعني ما كانوا على شريعة موسى وما كانوا من أتباع المسيح ولكن كانوا حنفاء على الفطرة، وهو الأقرب هنا -والله أعلم بهذا السياق.

كما أن ذلك يقال لطائفة من النصارى، كما يقال ذلك لعبدة الكواكب الذين كانوا في زمن إبراهيم وحصلت معهم المناظرة في طريقه في مهاجره إلى بلاد الشام رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] الآيات، هذا في سياق المناظرة، كان مناظرًا ولم يكن ناظرًا، يعني ما قاله معتقدًا بربوبية الكوكب، ثم توصل إلى التوحيد بعد ذلك، وإنما قاله على سبيل التنزل مع المخالف، هذا هو الأرجح من أقوال أهل العلم من المفسرين وغيرهم، أنه قاله مناظرًا لا ناظرًا، وفرق بين المقامين.

ويقال ذلك أيضًا لطائفة من المشركين أولئك الذين كانوا في زمن إبراهيم كانوا يعبدون الكواكب ويتقربون إليها، ويعتقدون فيها عقائد من تدبير أمر العالم، وما إلى ذلك، يضيفون الحوادث الأرضية إلى هذه الكواكب وحركاتها ومنازلها.

ويقال ذلك لغيرهم كما يقال لطائفة موجودة إلى اليوم في العراق، فهذا يطلق على طوائف، وقد ألف بعض أهل العلم مصنفًا خاصًا في الصابئة، وإطلاقات الصابئة، هذا فضلاً عما يوجد في كتب الفرق والأديان والمذاهب.

على كل حال، فهؤلاء الذي يظهر -والله أعلم- من هذا السياق الذي في سورة البقرة أنهم قوم كانوا على الفطرة، على التوحيد، وليس لهم دين محدد مقرر من شرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

هذه الطوائف الأربع الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ هؤلاء من كان منهم على الإيمان والتوحيد مع العمل الصالح والاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء ثوابهم وأجرهم لا يضيع عند الله -تبارك وتعالى- ولا خوف عليهم، والخوف كما ذكرنا في بعض المناسبات: هو قلق من أمر مستقبل وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والحزن: هو غم يلحق الإنسان بسبب أمر فائت، هذا هو المشهور في الإطلاق، وقد يطلق الحزن مرادًا به الخوف، لكنه إطلاق واستعمال قليل -والله تعالى أعلم- وأهل الجنة يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34].

هؤلاء حينما كانوا في زمان هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وبعده قبل بعث النبي ﷺ كلما كان على الإيمان والتوحيد من هؤلاء فهم موعودون بالأجر عند الله والثواب ودخول الجنة، وينتفي عنهم الخوف والحزن.

فهذه الأمة كما أخبر النبي ﷺ أنهم شطر أهل الجنة، نصف أهل الجنة، لكن يوجد في الجنة من اليهود والنصارى والصابئين أهل الفطرة والتوحيد والإيمان، وكذلك من قوم نوح ممن آمن به وهم قلة، وكذلك من آمن بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كالذين آمنوا بصالح وهم قلة، وهكذا.

لكن بعد بعث النبي ﷺ فإن شرعه قد نسخ الشرائع السابقة، وقد قال النبي ﷺ: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار[1].

فبعد بعث النبي ﷺ لا يمكن أن يقال: بأن أحدًا من اليهود أو النصارى أو أهل الأديان أيًّا كان من الصابئة أو من غيرهم لم يتبع النبي ﷺ ولم يؤمن، لا يمكن أن يكون من أهل النجاة، وهذا أمر معلوم، وهو بالإجماع، ولا يجوز لأحد أن ينازع، أو يجادل، أو يشكك في هذه الحقيقة الثابتة، لا يمكن أن يُصحَح دين أحد بعد بعث النبي ﷺ ولو كان على الدين الأصل الذي جاء به ذلك النبي من غير تحريف، ولو كان ذلك موحدًا، فإنه لا يصح إيمانه بنبيه حتى يؤمن برسول الله ﷺ ولهذا قال الله عن قوم نوح، أضاف إليهم تكذيب المرسلين مع أنهم كذبوا بنوح وهو أول رسول إلى أهل الأرض، ولكن من كذب نبيًا كأنما كذب جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

فهنا يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد: أن ما ذكره الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية من هذه الأصول الكبار مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا هذه الثلاث فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] فهذه كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله : هي موجبة السعادة[2]، السعادة الكاملة في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه إذا انتفى الخوف وهو القلق من أمر مستقبل وانتفى الحزن الغم بسبب أمر فائت، فإن ذلك يساوي السعادة؛ لأن السعادة ترحل إذا وجد الخوف، العالم اليوم يعيش في قلق، سواء كان هؤلاء في بلاد حروب أو كان هؤلاء في بلاد أخرى.

القلق من ماذا؟ القلق من المستقبل، إلا من هدى الله قلبه بالإيمان وكمال الإيقان، مثل هذا لا يحصل له مثل هذا القلق؛ لأنه يؤمن بالقضاء والقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن لصيبه، فالقلق على ماذا؟ الرزق بيد الله فالذي رزقه وهو في بطن أمه لا تستطيع أمه أن توصل إليه الطعام والشراب لم يكن ليضيعه بعدما خرج من بطن أمه، وضع الله -تبارك وتعالى- له وهو في بطن أمه يدين ورجلين، وهو ليس بحاجة لهما، وشق فاه وهو ليس بحاجة إلى فيه وهو في بطن أمه، ولكن لأنه سيخرج إلى عالم يحتاج فيه إلى يدين ورجلين، وإلى فيه، فهذا لا يضيعه.

أيها الأحبة، انظروا إلى أسراب الطيور والدواب في قعر البحر، وفي جو السماء، وفي الغابة والصحراء من الذي يطعمها، ومن الذي يتعاهدها صباح مساء، وأنتم قارون في دوركم ومحالكم؟

الله -تبارك وتعالى- هو الذي يسوق إليها الأرزاق، فالقلق لماذا؟ المؤمن يعلم ذلك ويتيقنه.

تجد الناس لربما يقلقون يتخوفون من حصول أمراض تنزل بهم أو بذويهم أو نحو ذلك، وإذا سمعوا عن وباء، أو نحو ذلك، فإنهم لا تسأل عن حالهم وكثرة تتبعهم، بل لربما يجبنون عن كثير من الأعمال التي كانوا يزاولونها، والمناسك والعبادات التي كانوا يتقربون بها؛ خشية من هذه العلل والأوصاب، قلق، مع أنه ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، هذه حقيقة مقررة ثابتة، ثم المؤمن على أي شيء يأسف، إن كان محبوسًا بمرضه فهذا يساوي زيادة في الأجور والعطاء والرفعة؛ لأن الصحيح أن المرض والبلاء يكون تكفيرًا للسيئات، ويكون رفعة في الدرجات، وسبيلاً إلى الحسنات، وقد صح عن رسول الله ﷺ ما يدل على ذلك، خلافًا للمشهور أنه يكون تكفيرًا للسيئات، وقد ذكرت دلائل هذا في الكلام على الأعمال القلبية تفصيلاً في الكلام على الصبر.

ثم أيضًا هو مع هذه الأجور الزيادة بسبب المرض والوصب هو في زيادة، لو علم بها لتمنى الزيادة في العلة والمرض، هو في زيادة لم ينقص شيء، يعطى عطاء أكثر، يزاد، وكذلك أيضًا الأعمال التي كان يعملها قد يتحسر على رمضان، ويقول: لم يتيسر لي كما كان القيام والصيام، يقال: ما كان يجري لك كما كان، لا ينقص من أجرك شيء.

ومن حبس معه ممن يرافقه ويقوم على شؤونه فكذلك أيضًا، ما يصيبهم من هم وغم وحزن بسبب هذا العليل، هم يؤجرون على هذا، وقيامهم عليه وما يفوتهم من قراءة وصلاة وقيام ونحو ذلك يجرى عليهم ما كان من العمل.

فلماذا القلق؟ ولماذا الحزن؟ ولا يأتيه إلا ما قُدِّر له، وهذا المرض لن يقرب أجله إطلاقًا لحظة، كما أن العافية لن تؤخر الأجل لحظة، الأجل هو هو بالمرض وبغير المرض.

فهذا القلق الذي في العالم -أيها الأحبة- إنما هو لضعف اليقين، فهنا ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الأعمال: الإيمان بالله واليوم الآخر، والأعمال الصالحة، من كان متحققًا بذلك وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62].

ولاحظوا أنه هنا حكم بنفي الخوف عنهم، ونفي الحزن، وكما قلنا: بأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر إيمانهم بالله واليوم الآخر، وما هم عليه من الأعمال الصالحة ينتفي عنهم ما ذكر من المخاوف والأحزان وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وهذا الأمن وانتفاء الخوف يكون في الدور الثلاثة في الدنيا، ويكون في البرزخ، ويكون في القيامة.

وهكذا تستقبلهم الملائكة، وتتنزل عليهم، وعند موتهم أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۝ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [سورة فصلت:30- 32].

هذا تبشير الملائكة لهؤلاء فهذا لمن تحقق بهذه الأوصاف، فينبغي للمؤمن أن يراجع نفسه، وأن يعرض نفسه على هذه الصفات الثلاث: الإيمان بالله، واليوم الآخر، فإذا آمن بالله حصل له الانشراح، وعلم أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُدبِّره، وهو ربه ومليكه، وأنه أرحم به من الوالدة بولدها، وأن ما يختاره له فهو خير له من اختياره لنفسه، فيحصل له الطمأنينة، فيسعد بذلك بمعرفته بالله لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له.

وهكذا أيضًا إذا آمن باليوم الآخر، فإنه يعلم أن هذه الحياة قصيرة ومتقضية، وأن الحياة الحقيقية هناك، فإذا حصلت له هنا خسائر، أو ظلم، أو بُخس حقه وضيع، أو نحو ذلك، الحياة هناك، والجزاء الحقيقي هناك، والرفعة الحقيقية هناك، أما هذه الحياة فإنها لا تستحق، لا تساوي هذه الدنيا عند الله جناح بعوضة، ليست بعوضة، جناح، ولم يقل: لا تساوي جناحي بعوضة، لا، جناح واحد للبعوضة، وما قيمة البعوضة، وما قيمة جناح البعوضة؟! هذا الغم وهذا الحزن، وهذا القلق على هذه الدنيا، والصراع عليها وعلى حطامها، وقطيعة الأرحام، وما إلى ذلك، كل هذا الذي ترون على شيء لا يساوي عند الله جناح بعوضة، هذا المقادر الحقيقي لهذه الدنيا عند الله -تبارك وتعالى- فإذا أُعطي منها الكفار والفجار فلا تذهب نفس المؤمن حسرات على ذلك؛ لأنه يعلم حقيقة هذه الدنيا، وأنها ليست بشيء، فإذا فقد شيئًا منها فإنه يتعزى بما عند الله -تبارك وتعالى- فالذي أعطاه يعوضه.

ثم أيضًا لاحظوا أن الصابئين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:62] فالصابئون تارة يجعلهم الله قسمًا من المشركين مع أهل الكتاب، وتارة يجعلهم قسيمًا لهم، فإذا كان اليهود والنصارى قد يكونون مشركين يوجد فيهم إشراك فالصابئون أولى، وذلك بعد تبديلهم، يعني بقي لهم الاسم، ولكن فارقهم الإيمان الصحيح والتوحيد فوقعوا في الإشراك، فحيث جعلوا غير مشركين، وذلك أن أصل دينهم على الفطرة -كما ذكرنا- ليس فيه إشراك، والشرك حصل بعد ذلك كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[3].

فهذه الأصناف الأربعة: الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ هذه الطوائف الأربع التي وصفها في هذه الآية من سورة البقرة بالإيمان، أو من قال مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:62] بمعنى إذا كانوا على استقامة وتوحيد مع العمل الصالح.

وفي سورة الحج ذكر ست ملل، هذه الأربع وزاد عليها أهل الإشراك والمجوس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى [سورة الحج:17] ولاحظ قدم الصابئين على النصارى في آية الحج، وفي آية البقرة قدم النصارى على الصابئين وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة الحج:17] هنا في آية الحج ذكر ذلك في مقام الحكم بين هذه الطوائف، ذكرهم بهذا الترتيب بحسب حالهم، فذكر الذين هادوا والصابئين باعتبار أنهم قبل النصارى، يعني من الناحية التاريخية، ثم ذكر وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا أما في سورة البقرة في هذه الآية فذكرهم بحسب مراتبهم فيما هم عليه من الدين والإيمان ونحو ذلك، فذكر اليهود، ثم ذكر النصارى؛ لأن النصارى في الأصل كانوا على شريعة التوراة فلم تنسخ، وهم متعبدون بها، وإنما جاء عيسى مكملاً لها، ناسخًا لبعض الآصار والأغلال، الشرائع الثقال التي كانت على اليهود، ولم تنسخ التوراة ببعث عيسى وهم من جملة أنبياء بني إسرائيل، وإذا ذكر أهل الكتاب في القرآن فهم اليهود والنصارى.

فهنا ذكر اليهود، ثم ذكر النصارى في آية البقرة، ثم ذكر الصابئين بعدهم، باعتبار أن الصابئين دون اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى أهل كتاب، لكن إذا كان هؤلاء جميعًا على الإيمان فهم أهل نجاة، قبل بعث محمد ﷺ وشريعة موسى وشريعة عيسى لم تكن عامة لجميع الخلق، والنبي ﷺ يقول: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة[4] هذا في جملة خصائصه -عليه الصلاة والسلام .

واليهود لا يدعون إلى دينهم، ولا يبشرون به، والنصارى جاء عن المسيح  -إن صح عنه فيما يوجد في كتبهم الآن أنه قال: بعثت لهداية خراف بني إسرائيل الضالة.

فهذا يحتج به عليهم في الإرساليات التنصيرية التي يرسلونها في بلاد المسلمين، وفي غير بلاد المسلمين من البلاد الوثنية ونحوها، فيقال: ما شأنكم وهؤلاء، فإنما جاء عيسى إلى قوم معينين، ولم يرسل إلى العالمين، ولذلك وجد من وجد من الصابئة في زمن هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فاعتبر ذلك لهم يعني الإيمان والتوحيد؛ لأن أولئك الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما كانت بعثتهم عامة لجميع الخلق، وأقرب مثال على ذلك الخضر فلم يكن على شريعة موسى وكان ذلك يسعه، أما بعد بعث النبي ﷺ فلا يسع الخروج عن اتباعه وشريعته، بل قال ﷺ: لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي[5].

وأنا أؤكد على هذا المعنى من أجل ألا يتشكك أحد فيه، فهذا من القضايا الأصول المجمع عليها، ويوجد من يغضب إذا قيل: إن اليهود والنصارى في هذا العصر كفار، وأنهم من أهل النار إن ماتوا على ذلك، يصحح إيمانهم، ولربما يلبسون بمثل هذه الآيات.

ثم أيضًا لاحظوا في هذه الآية: أن الله لما ذكر مساوئ بني إسرائيل، وعتو بني إسرائيل، وكما ذكرنا أن ذلك لم يكن عامًا لجميعهم، فقد وجد فيهم أخيار وصلحاء، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة:24] فهي في أهل الكتاب كما سبق، فلما ذكر مساوئ هؤلاء اليهود وكان منهم أخيار فذكر الله -تبارك وتعالى- من يكون من أهل النجاة والوعد بألطاف الله ورحمته، وينتفي عنه الخوف والحزن.

ويؤخذ من هذه الآية: أن من ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة حصول الأجر، الثواب عند الله -تبارك وتعالى- وزيادة على ذلك انتفاء الخوف، وانتفاء الحزن، ولذلك إذا ضعف إيمان الإنسان كثرت مخاوفه، وكثرت الأمور المزعجة والمقلقة له، فهو يترقب كل شيء، يترقب المكروه دائمًا، وإذا فاته شيء من هذه الدنيا من فقد محبوب أو فقد مال، أو نحو ذلك فإن نفسه تذهب حسرات على ما فقد، وأهل الإيمان تجدهم في حال من الطمأنينة، وقد ذكرت شواهد لهذا قديمًا وحديثًا في مناسبات سابقة.

ويؤخذ من هذه الآية: أن الله -تبارك وتعالى- يجمع بين الترغيب والترهيب، يعني: حينما يذكر ما فعله بهؤلاء اليهود، ويذكر مساوئهم ونحو ذلك يذكر الوعد بعد ذلك لمن كان على الإيمان والعمل الصالح إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا فـ "إن" تفيد الاهتمام بالخبر، وتوكيد الخبر، فهي بمنزلة إعادة الجمل مرتين، فهذا يدفع به ما قد يتوهم من أن الذم السابق يشمل جميع اليهود، وقد يتوهم سلف هؤلاء الذين لحقهم الذم أنهم كانوا جميعًا على هذه الحال الموصوفة.

أيضًا الابتداء بأهل الإيمان، لا شك أن من ذكر معهم أنهم كانوا على الإيمان، ولكن هذه الأمة لما كانت أكمل الأمم وأعظم في تحقيق الإيمان وشرائع الإيمان في هذه الشريعة والملة أعظم مما هو في غيرها، وهي كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بمنزلة الشرائع المتعددة لسعتها وشمولها، وكما قال النبي ﷺ: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها شهادة ألا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[6].

فشرائع الإيمان كثيرة في هذه الملة والشريعة، وهذه الأمة أشرف وأكمل، فابتدأ بذكرهم، وجاء هذا الوصف المطلق لهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مع أن أولئك كانوا على الإيمان، أعني من كان منهم ناجيًا، كما قال الله عنهم: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران:114] فقد أهل الإيمان مع أنهم آخر هذه الأمم من ناحية الزمان.

فكما قال النبي ﷺ: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[7] وهذا من فضل الله على هذه الأمة، ولاحظوا أنه حينما ذكر هذه الطوائف والكلام فيهم ذكر أهل الإيمان فلم يفوت ذكرهم.

يؤخذ من هذه الآية: سعة رحمة الله -تبارك وتعالى- ولطفه بعباده، فإن الله -تبارك وتعالى- حينما ذكر قبائح بني إسرائيل لم يترك ذكر الجزاء والوعد الحسن لمن كان على إيمان واستقامة، وإن كان آباؤه وأجداده على انحراف وضلالة، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى.

وكذلك أيضًا لاحظوا نفي الخوف والحزن، التعبير بنفي الخوف وَلا خَوْفٌ جاء بالخبر الاسمي وَلا خَوْفٌ وهذا أيضًا في سياق النفي يفيد العموم، يعني لا يوجد خوف بوجه من الوجوه، وهذا يشمل كما قلت: الدور الثلاثة، فينفي جنس الخوف عنهم، والجملة الاسمية كما نعرف تدل على الثبوت والدوام.

والحزن جاء بالخبر الفعلي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فهذا الحزن يقع ويتجدد بسبب ما يقع من موجباته وأسبابه، فهذا لا يقع لهم حزن بحال من الأحوال، وقدَّم الضمير المتعلق بهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ للعناية بهم، كما تقول: أنت لا خوف عليك، الأصل: ولا يحزنون هم، فقال: وَلا هُمْ اعتناءً بهم، فيكون لهم كما الاطمئنان، قد يقال: لا يحزنون باعتبار العموم، لكن أفرادًا منهم يقع لهم ذلك، قال: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فدل ذلك على عناية بهؤلاء وما يتصل بهم.

وإذا نفي الخوف والحزن عن هؤلاء الموصوفين بهذه الأوصاف، فإن مفهوم المخالفة أن غيرهم هو موضع المخاوف والأحزان، فمن فارق الإيمان والعمل الصالح فلا تسأل عن حاله، لا تسأل عن مخاوفه وقلقه، ولا تسأل عن أحزانه في الدنيا وفي البرزخ وفي القيامة وفي النار، والقرآن مليء بدلائل ذلك وشواهده.

تصور لو أنك أتيت إلى مكان فيه حريق أو نحو ذلك، وتسمع الصراخ الذي يقطع نياط القلوب، الله يقول عن أهل النار: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا [سورة فاطر:37] يصطرخون صراخ مستمر لا ينقطع، تصور لو أن أحدًا يحترق ويصرخ، الناس لا يتمالكون يحصل لهم فزع شديد، الذي لا علاقة له لربما يفزع ويبكي ويخاف، فهذه النار مليئة بالصراخ، الرجال والنساء على حد سواء؛ لأن عذابها لا يطاق، ولا يحتمل، ولا يوجد فيها بطل، يقول: أنا أتحمل ويكظم ويظهر شيئًا من التجلد، ولا يحصل فيها مؤانسة بسبب كثرة الداخلين فيها.

ثم أيضًا لاحظ في ختم هذه الآية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] باعتبار أن من استقر أجره عند ربه -تبارك وتعالى- وارتاضت نفسه بالإيمان فكانت هذه عاقبته ومصيره، ومعنى ذلك أنهم آمنون في الجنة والنعيم، وفي الدنيا -كما قال شيخ الإسلام رحمه الله- جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة[8].

أسأل الله أن يرزقنا وإياكم لذة الإيمان، ولذة النظر إلى وجهه الكريم، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانًا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، رقم: (153). 
  2.  مجموع الفتاوى (17/ 116). 
  3.  مجموع الفتاوى (28/ 608). 
  4. أخرجه البخاري، كتاب التيمم، رقم: (335). 
  5.  شعب الإيمان، رقم: (174). 
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، رقم: (35). 
  7.  أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، رقم: (876)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، رقم: (855). 
  8.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 452). 

مواد ذات صلة