بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
نواصل الحديث فيما يستخرج من الهدايات من هذه الآيات التي قص الله -تبارك وتعالى- علينا فيها خبر بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) بهذا السياق الطويل، فالله -تبارك وتعالى- يقول بعد أن ذكر ما أمروا به من الدخول في حال من الخضوع، وكذلك أن يقولوا: حط عنا خطايانا، فماذا حصل من هؤلاء؟
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة:59] فبدل هؤلاء الجائرون من بني إسرائيل قول الله -تبارك وتعالى- الذي أمرهم أن يقولوه، وحرَّفوا هذا القول على وجه هو غاية في الاستهزاء والسخرية، مما ينبئ عن نفوس متمردة كأنها لم تلق شيئًا من التربية والترويض، مع أنهم يرافقون هؤلاء الأنبياء الكبار -عليهم الصلاة والسلام.
كبير أنبيائهم موسى الله -تبارك وتعالى- يقول في حقه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [سورة طه:39] ما ظنكم برجل يقول الله فيه ذلك؟ كيف تكون حاله وأوصافه، وأعماله، وأحواله، وأخلاقه وهيئته؟ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [سورة طه:39] ومع ذلك هؤلاء المردة لم ينتفعوا الانتفاع اللائق بصحبة كليم الله موسى فبدلاً من أن يقولوا: حطة، قالوا: حبة في شعرة.
ودخلوا بدلا ًمن أن يكون ذلك في حال من الخضوع والركوع دخلوا يزحفون، فوقع منهم الاستخفاف بالقول والاستهزاء بالفعل، فبدلوا القول وبدلوا الفعل، لم يدخلوا دخولاً هكذا فيقال: إنهم لربما في حال نشوة النصر والفرح حصل لهم شيء من الذهول عن هذا القول الذي أمروا به وعن هذا الفعل، فإن الإنسان في أحوال الفرح الغامر لربما يغفل عما ينبغي عليه أن يفعله، لكن هؤلاء كانوا يستحضرون ذلك جيدًا بدليل أنهم تفوهوا بهذا القول القبيح، حبة في شعرة، وكذلك دخلوا يزحفون، فأنزل الله عليهم رجزًا وهو العذاب من السماء بسبب هذا التمرد والظلم والخروج عن طاعته والفسوق.
يؤخذ من هذه الآية فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ هذا يحتمل أن ذلك يعني الإظهار هنا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يحتمل أن التبديل حصل من بعضهم، وهم الموصوفون بالظلم، وأن ذلك لم يقع من جميعهم، هذا احتمال، وذكره بعض المفسرين.
وقالوا: إن علة الإظهار هنا لهذا الوصف فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ليبين عن أن هذا التبديل لم يقع من الجميع، وإنما وقع من طائفة منهم كانت ظالمة.
والمعنى الآخر وهو: أن هذا الظلم صادق على جميعهم، وأن هذا من قبيل الإظهار في موضع الإضمار، يعني: كان المعنى: فبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم، فبدلوا بمجموعهم قولاً غير الذي قيل لهم، فلماذا أظهر هذا الوصف، أظهر الفاعل هنا الذي يحمل هذا الوصف وهو الظلم؟
أظهره باعتبار أنه قصد به الإبانة، إبراز هذه الصفة التي كانوا يتصفون بها، وأن فعلهم هذا ظلم لا وجه له بحال من الأحوال، فإن وضع الشيء في غير موضعه يقال له الظلم، هذا هو تعريف الظلم عند أهل السنة والجماعة، وليس معناه كما يقول بعض المتكلمين: التصرف بملك الغير بغير إذنه. هذا ينبني عليه انحرافات في التصور والاعتقاد.
الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئًا في غير موضعه فهو ظالم، هؤلاء وضعوا هذا القول بدلاً من القول الذي أمروا به، ووضعوا هذا الفعل فعلوا غير ما أمروا بفعله، فهم بذلك ظالمون.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ثم قال: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أيضًا لاحظ أظهر في موضع الإضمار، ما قال: فأنزلنا عليها رجزًا من السماء، لماذا هنا؟ من أجل إبراز هذه الصفة وتعليق الحكم المرتب عليها بها فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ مما يؤذن بأن سبب نزول هذا الرجز وهو العذاب إنما هو الظلم الذي وقع منهم، فهذا الظلم هو سبب العذاب الواقع بهم فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ.
وهذا فيه أيضًا زيادة تقبيح لفعلهم وحالهم ووصفهم، فيذكرهم بهذا ويعلنه ويبرزه، ما قال: فأنزلنا عليهم رجزًا من السماء فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ فهذا فيه تقريع وتوبيخ وتشهير بجرمهم هذا وظلمهم وعتوهم على ربهم -تبارك وتعالى- وفيه تأكيد أيضًا على هذا الوصف حيث ظلموا في الوقت الذي أنعم الله فيه، أو أنعم به عليهم بهذا الفتح، وهذا الدخول لهذه الأرض، فبدلاً من أن يقابلوا ذلك بالشكران قابلوه بالعتو والاستهزاء والسخرية.
وإذا كان هؤلاء يسخرون في مثل هذه المقامات مع كبير أو مع هؤلاء الأنبياء، على القول بأن موسى لم يدرك ذلك، وأن هذا الفتح حصل لهم بعده، بعد وفاة موسى وهارون -عليهما السلام- فدخلوا مع يوشع بن نون، أيًّا كان، فهذا فتح وبصحبة أنبياء، وقد أمروا بالشكران والخضوع بالقول والفعل، ثم بعد ذلك يصدر عنهم هذا في مقام الإنعام والإفضال، فما ظنكم بهؤلاء إذا كانوا في محنة وشدة؟ ماذا يفعلون إذا كانوا في شدة، وفي حاجة، وفي بلاء، وفي مصيبة ماذا يفعلون؟ وما الذي يصدر عنهم؟
ولم يكن جميع بني إسرائيل بهذه المثابة، فيهم صلحاء، فيهم أخيار، كما قال الله - تبارك وتعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [سورة آل عمران:113، 114].
وقال - تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة:24] هذا في بني إسرائيل، لكن فيهم مردة كثر، فيهم عتاة على الله كثير.
في سورة الأعراف نفس القصة قال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [سورة الأعراف:162] ما قال: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [سورة البقرة:59] يمكن أن يقال لو قال قائل: بأن المذكور في سورة الأعراف هو الخبر عنهم لمجرد العبرة والعظة لهذه الأمة، أما المذكور هنا في سورة البقرة فهذا مقام تقريع وتوبيخ، يوجه الخطاب إليهم اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ [سورة البقرة:47] فهو يوبخهم ويقررهم بجرائمهم وذنوبهم، فناسب ذكر الظلم هنا مظهرًا في موضع الإضمار، وذكره مرتين فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:59].
ولاحظوا هنا تنكير الرجز فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا فهذا التنكير يفيد التهويل والتعظيم، لا تسأل عن قدر هذا الرجز الذي نزل عليهم، وهو العذاب، فهو شيء هائل بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة:59] فالباء هذه تدل على السببية، ما سبب نزول هذا الرجز؟ هو الفسق بما كانوا والتعبير بالفعل المضارع يَفْسُقُونَ يدل على أن ذلك كان من ديدنهم وعملهم المستمر، لم يكن ذلك مرة وزلة وإنما كان عادة مستمرة وخلقًا راسخًا لهم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وعرفنا أن الفسق هو الخروج عن طاعة الله - تبارك وتعالى.
فمثل هؤلاء حينما أنزل الله عليهم الرجز، وصرح بعلتهم وهو الفسق، يؤخذ منه أن الفسق والخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- يكون سببًا للعذاب، يكون سببا للعقوبة، سواء كانت هذه العقوبات معجلة في الدنيا، أو كانت مؤجلة في الآخرة، أو كانت خاصة تقع لهذا العاصي، أو كانت هذه عامة تصيب الناس جميعًا.
الخاصة ما يقع للناس من علل وأوصاب وخسائر في الأموال، وما يقع لهم من الألم والحزن والهم والغم الذي يجدونه في صدورهم، فكل ذلك مما جنت وكسبت أيدي الناس مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء:79] قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران:165] والعقوبات العامة كما في هذه الآية فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:59] وهكذا ما وقع من العقوبة العامة لأهل الإيمان في يوم أحد أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران:165] خالفت مجموعة من الرماة أمر رسول الله ﷺ فكان ذلك سببًا لهذه المصيبة والهزيمة والقتل والجراح، وتحول ميزان المعركة بعد أن كانوا منتصرين فصاروا منهزمين، معصية من بعض الرماة، ومعهم أفضل الخلق ﷺ فكيف إذا كانت الأمة غافلة سادرة، لاهية؟
فهذا يكون سببًا لنزول أنواع العقوبات، الله يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [سورة الأنفال:25] فهذا الذي يعلن المعصية ويظهرها هو لا يضر نفسه فقط فيقول: أنا حر أفعل ما أشاء، لا، نحن في مركب واحد في سفينة واحدة، فهذا يخرق السفينة كما صوَّر النبي ﷺ لنا هذا الحال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا[1].
فهذا الذي يخرق لا يمكن أن يدعي بحال من الأحوال أنه يتصرف تصرفًا بمحض إرادته مما يتصل بحريته دون أن يكون للآخرين تعلق بذلك، الجميع سيغرق، فهكذا المجتمع إذا ظهرت فيه المعاصي، ولم تغير ولم تنكر، ولكن الله -تبارك وتعالى- إذا أنزل العقوبة نجى الذي ينهون عن السوء، كما قال في خبر بني إسرائيل أولئك الذين اعتدوا في السبت.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة:59] فهذا يؤخذ منه ضرورة المباعدة عن المعاصي والذنوب والفسق، الإنسان في خاصة نفسه والمجموع، المجتمع بكاملة، وكذلك أيضًا صلاح الحال بالتوبة والمراجعة والاستغفار دائمًا.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- معددًا عليهم نعمه: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [سورة البقرة:60] واذكروا نعمتنا عليكم حينما كنتم في حال من العطش في تيهكم، فاستسقى موسى دعا ربه وتضرع إليه طالبًا السقيا فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فضرب فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا بعدد القبائل؛ لأن قبائل بني إسرائيل الأسباط كما عرفنا أنهم ذرية يعقوب من بنيه كانوا بهذا العدد، فهم مع يوسف أعني أولاد يعقوب يكملون اثني عشر ولدًا، فكانت منهم القبائل، فالأسباط هم ذرية يعقوب وليسوا أولاد يعقوب مباشرة، وإنما ما تناسل عنهم، هذا الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[2] وذهب إليه المحققون من المفسرين.
فهنا أمره الله بأن يضرب الحجر بعصاه، هذا العصا التي لما قال الله له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [سورة طه:17، 18] ينتفع بها أنواع المنافع، ومن المنافع التي حصلت فيما بعد أن الله أمره أن يضرب بعصاه الحجر، هذا الحجر بعضهم يقول: هو حجر خاص كانوا ينقلونه معهم فإذا احتاجوا إلى السقيا والماء ضربه موسى بعصاه فتفجرت منه العيون لبني إسرائيل لا يتزاحمون ولا يتضايقون، ولا يتنافسون على الماء ويصطرعون، وإنما لكل قبيلة عين جارية تجري من هذا الحجر.
وبعضهم يقول: هو حجر غير محدد، فإذا احتاجوا إلى السقيا ضرب حجرًا بهذه العصا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ما قال: حجرًا، فيحتمل أن تكون هذه (ال) للعهد، حجر معهود، الحجر المعهود لديكم، ويحتمل أن تكون مُعرِّفة، فيصدق ذلك على أي حجر، فالآية تحتمل والله تعالى أعلم، لكن هنا حينما ضرب بهذه العصا، والعلماء -رحمهم الله- تجدون في كلام بعض المفسرين في قوله -تبارك وتعالى: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى يذكرون فوائد العصا، وبعضهم ألف في ذلك مصنفًا خاصًا، هناك مؤلفات في فوائد العصا وحمل العصا.
على كل حال، ضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا بعدد هذه القبائل، مع أعلام كل قبيلة بالعين الخاصة بهم قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ومن أجل ألا يحصل التنازع وقيل لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ على سبيل الله التوسعة والإباحة وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ تنشرون الفساد، وتعملون بمعصية الله -تبارك وتعالى.
فيؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ مشروعية الاستسقاء عند الحاجة إلى الماء، فهذا الاستسقاء يشرع بالصلاة المعروفة صلاة الاستسقاء، ويشرع أيضًا بخطبة الجمعة فقد استسقى النبي ﷺ وهو على المنبر، فكل ذلك مشروع، وهذا يدل على أن هذا الاستسقاء كان في شريعتهم.
وكذلك أيضا في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ تكلمنا في مرة سابقة عن الأسباب، وذلك سبب في غير مظنته ضرب القتيل بجزء من بقرة ميتة فأحياه الله -تبارك وتعالى- وهنا حجر ليس فيه ماء ويضرب بعصا ليست بمادة للماء ولا تعلق لها بالماء، فتنفجر منه هذه العيون بعددهم، مما يدل على قدرة الله -تبارك وتعالى- بإخراج الشيء في غير مظنته إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس:82] مياه من حجر.
ويؤخذ منه أيضا: مشروعية فعل السبب، هناك في قتيل بني إسرائيل اضربوه ببعضها، بقرة ميتة لو كانت حية كان قيل سرت له الحياة من حياتها ميتة، أن تذبح ثم يضرب بجزء منها، هنا يضرب حجر، فيخرج منه هذه العيون.
ومريم - رحمها الله - ماذا قال لها؟ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [سورة مريم:25] امرأة نفساء ضعيفة، أضعف ما تكون المرأة في حال النفاس، وجذع النخلة أصلب الأجذاع، أصلب الجذوع هو جذع النخلة، وأغلظ الجذوع؛ ولهذا يقولون: بأن فرعون لما هدد السحرة وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه:71] ما ذكر شيئا آخر من الأشجار لصلابته وقسوته وشدته، وأيضًا إيلامه، فالذي يصلب يشد بقوة إلى الشيء الذي صلب منه فلو صلب إلى شجرة ملساء، فذلك أسهل لكن إلى جذع النخل فيتألم ظهره، فيكون زيادة في تعذيبه وإيلامه.
وهنا: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ فهي تساقط إذا أراد الله من غير هز، لكن كما قال بعضهم:
ألم تر أن الله قال لمريم | وهزي إليك الجذع يساقط الرطب |
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه | جنته ولكن كل شيء له سبب |
الإنسان يبذل الأسباب في الدعوة إلى الله والنتائج إلى الله، يبذل الأسباب في التربية، تربية الأولاد، تربية من تحت يده والنتائج إلى الله.
هذه كالبذور التي تلقى هذه تخرج وهذه لا تخرج، فتجد الولدين لربما التوأم في بيت واحد، والتربية واحدة من بطن واحد، وهذا في غاية القبول والانقياد والسلاسة والهدوء والسكينة والطيبة، والثاني في غاية التمرد ترى ذلك في حماليق عينيه وهو يرضع، يعرف توأم ترى في هذا صباحة الوجوه، والدعة، والسكينة، واللطف، والانقياد والاستجابة، والآخر التمرد وهو في مرحلة الرضاع يعرفه المتفرسون.
الهداية من الله تجد الإنسان يسمع الكلام الكثير، ويدرس، وبيئة طيبة وصالحة في بيته، وفي دراسته، ويدرس لربما حتى في دراسة شرعية، ومع ذلك ترى الأثر ضعيفا، وآخر بعيد يعيش في مكان بعيد، ونبتة ما شاء الله.
فالمقصود هو بذل الأسباب في تعليم، في النصح، في التربية، بذل الأسباب في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنتائج إلى الله.
ويؤخذ من هذه الآية في قوله -تبارك وتعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أن الأصل في المأكول والمشروب الإباحة هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [سورة البقرة:29] فالأصل في هذه الأشياء أنها مباحة للإنسان، خلقها الله للإنسان إلا ما دل الدليل على منعه وتحريمه، هذا في هذه الأشياء التي يتعاطاها الناس، فالأصل في المعاملات الحل، الأصل في الأطعمة الحل.
لكن الأصل في العبادات المنع، من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[3] فهذا يتلقى من الوحي، ما يأتي كل إنسان بعبادة كل ما يحلو له، ويقول أين الدليل على المنع؟
وذكر بعض أهل العلم قاعدة أيضًا: أن الأصل في الذبائح المنع وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:118]. وهكذا قالوا: الأصل في الفروج المنع.
ويؤخذ أيضا من قوله: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [سورة البقرة:60] هنا ما نزل عليهم مطر من السماء، وإنما نبع الحجر، فالسقيا قد تكون بمطر ينزل، وقد تكون بنبع عين لهم، فهذا كله مما يسقون به، فهنا لم ينزل عليهم مطر من السماء، فالله على كل شيء قدير.
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [سورة البقرة:60] مفسدين هذه حال مؤكدة يعني ساعين في الفساد، فهذا حينما جاء به بهذه الصيغة، فذلك يكسو هذا النهي عن الفساد، يعني: شيئا من القوة، ويكون أبلغ أثرا، فلا ينسى، ولا يغفل عنه، والله تعالى أعلم.
أكتفي بهذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
- أخرجه البخاري، كتاب الشركة، باب: هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، رقم: (2493).
- المسائل والأجوبة (ص: 219).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم: (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم: (1718).