الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[53] قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ..}
تاريخ النشر: ٠٦ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 1092
مرات الإستماع: 1579

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنواصل الحديث في الكلام على هذه الآيات التي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيها قصص بني إسرائيل، وما جرى منهم، وما جرى عليهم، فبعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- خبرهم في قصة القتيل الذي تدارءوا قتله وتدافعوه، ثم بعد ذلك أمرهم نبيهم موسى أن يذبحوا بقرة بأمر الله فكان منهم من التعنت ما كان، ثم بعد ذلك أراهم الله هذه الآية وهي إحياء هذا القتيل، فكان نتيجة ذلك وعاقبته أن قست قلوبهم في موطن ترق فيه القلوب وتلين، وتستكين وتخضع إلى ربها وباريها بعد أن رأت هذه الآيات العظام.

فالله -تبارك وتعالى- بعد هذا يسلي نبيه ﷺ وأهل الإيمان: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:75] هؤلاء لا مطمع في إيمانهم، هؤلاء لا يرجى انقيادهم وقد كانوا بتلك المثابة يسمعون كلام الله ثم يحرفونه بعد أن فهموا وعقلوا معناه، يصرفونه إلى غير مراد الله -تبارك وتعالى- يصرفون ألفاظه كما يصرفون أيضًا معانيه، وهم يعلمون ذلك، يعلمون هذا الجرم الذي صدر عنهم فلم يكن ذلك قد وقع بطريق الخطأ.

فهذا فيه تسلية للنبي ﷺ ولأهل الإيمان بأن لا يحزنوا، ولا يأسوا على كفر هؤلاء وإعراضهم مهما ظهر لهم من البينات والآيات الدالة على حقية ما جاء به رسول الله ﷺ فهم قوم عتاة، عتاة على الله وعتاة على رسله -عليهم الصلاة والسلام- وهم عتاة على الحق، ففي مثل هذه الحال التي يسمعون فيها كلامه -تبارك وتعالى- يقع منهم التحريف.

ويؤخذ من ذلك أن من لم يؤمن بما هو أظهر وأبين لا يرجى منه أن يؤمن بما هو أخفى، يعني إذا كانوا في هذه الحالة يسمعون كلام الله ثم يحرفونه بعد عقلهم له: مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فكيف يكون إيمانهم بما هو ليس بهذه المرتبة؟

فهذا الذي يسمع كلام الله ثم يقع منه التحريف بعدما عقله أبعد ما يكون عن الاستجابة والاهتداء، فلا يُطمع في إيمانه.

كذلك أيضًا هنا خص الله -تبارك وتعالى- اليهود بتحريف كلامه في هذا الموضع، وفي مواضع أخرى من كتاب الله -تبارك وتعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [سورة المائدة:41] ولا زال الحال على ذلك إلى يومنا هذا، ولو قرأتم في تاريخ ترجمة القرآن ومبتدأ ذلك ستجدون أن أول من قام بالترجمة هم أحبار اليهود، وكذلك أيضًا وقع ذلك من قبل بعض النصارى.

هؤلاء حرفوه منذ زمن بعيد بطريق الترجمة، لكنهم حبسوا تلك الترجمات من أجل أن يرجعوا إليها عند الحاجة، ولم تظهر المطابع آنذاك، يعني هذا قبل قرون طويلة، قبل أكثر من سبعة قرون، فما أظهروها، ولكن لما ظهرت المطابع أظهرت بعض الترجمات، فاضطر المسلمون إلى الدخول في هذا الباب، باب الترجمة، ولم يكن ذلك قد فتح فيما مضى؛ لأن الناس كانوا في غنية، وكان الإسلام عزيزًا، وإذا فتح شيء من البلاد تعلم أهلها العربية، ويقرؤون القرآن باللغة العربية، وغاية ما هنالك في كتب أهل العلم كتب الفقه إنما هو الكلام في ترجمة الفاتحة ونحو ذلك لمن دخل في الإسلام ولم يمكنه أن يتعلم ذلك باللغة العربية، هل يُترجم له؟ وهل يصح أن يقرأها بالفارسية أو لا؟

نقل هذا عن بعض الفقهاء من أهل الكوفة، ولكن ترجمة القرآن من أوله إلى آخره لم يكن ذلك على بالهم، فضلاً عن أن يكون ذلك عملاً واقعيًّا، ولكن لما وجدت المطابع وطبع هؤلاء تلك الترجمات التي كتبها يهود ونصارى تشوه دين الإسلام، فهنا جاء الحديث عن الترجمة، ووقع في ذلك خلاف كثير وجدل كبير، فمن مانع لها ومن مجيز بضوابط إلى أن صار هذا القول هو السائد وتنوسي القول الأول، مع أنه قال به علماء كبار، وارجعوا إلى ما كتب في أوائل القرن الماضي، كانت هذه القضية محل جدل كثير وألف فيها مؤلفات وكتب فيها مقالات واختلف العلماء فيها اختلافًا مشهورًا إلا أن ذلك قد تنوسي مع الأيام، وصارت الترجمة أمرا سائغًا لا يستشكله الناس في مثل هذه الأيام، المقصود أن هؤلاء هم أول من قاموا بالترجمة، لكنها ترجمة محرفة تشوه الإسلام.

وقبل مدة ليست بالبعيدة قبل سنوات أعلنت وزارة خارجية دويلة إسرائيل بأنهم قد أطلقوا مشروعًا عالميًّا لتفسير القرآن بعنوان: "قرآن نت" وما ظنك بهؤلاء اليهود إذا كانوا يتعاملون مع التوراة يحرفونها كما قال الله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام: 91] فما ظنكم بصنيعهم وفعلهم مع القرآن، إذا كان هذا يفعلونه مع كبير أنبيائهم موسى وحينما سمعوا الله يكلم موسى يقولون في النهاية: سمعناه يقول: إن شئتم فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، هؤلاء ليس فيهم طب كما يقال، ولا يرجى منهم إيمان؛ ولهذا جاء هذا الاستفهام بهذه الصيغة، الاستفهام الإنكاري أَفَتَطْمَعُونَ وهو مضمن معنى النفي، يعني هؤلاء لا مطمع فيهم.

وفيه معنى أيضًا التقدير لعدم إيمانهم ومعنى التعجب أيضًا، كل ذلك مضمن فيه فكأنه قيل: فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فاعجبوا من طمعكم في إيمانهم، أمر يثير التعجب: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [سورة البقرة:75] يعني كيف يقع هذا؟ هذا أمر يثير العجب، هؤلاء لا مطمع فيهم.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:75] أن التحريف بعد عقل المعنى أعظم؛ وذلك لأن الجاهل قد يصدر بعض التصرفات عن جهل؛ لأنه لم يدرك المراد، ولكن من عقل الشيء وفهمه وعرفه فإن ذلك يكون أقبح في حقه، فقد اجترأ على محادة الله -تبارك وتعالى- مع علمه بذلك.

مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وهذا فيه توبيخ لهؤلاء اليهود، وذلك يلحق المعاصرين للنبي ﷺ وذلك بأن المساوئ التي تكون صادرة من قبل الآباء فإنها تلحق، المذمة المتوجهة إلى الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم ومسلكهم ومنهاجهم، وقد كان هؤلاء في عهد النبي ﷺ على طريقة أوائلهم، وهكذا كانوا يسلكون مسلكهم، فمثل هذا لا يرجى منه رشد ولا إيمان ولا خضوع، وإنما هنالك العناد والعتو والتمرد.

كذلك أيضًا هذا التكرار في هذه الأفعال ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فالعقل والعلم بينهما مقاربة من جهة المعنى، وهذا يدل على شدة قسوة قلوب هؤلاء، وعلى عظم جرمهم عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فالقضية لم تكن ملتبسة أو أن هناك احتمالات أو نحو هذا، وإنما كان ذلك بعد اتضاح هذا الأمر بحيث لا يبقى فيه أدنى التباس، عقلوا مراد الله -تبارك وتعالى- فحملوه على المحامل الفاسدة وهم يعلمون المراد.

وكذلك يؤخذ من هذه الآية عظم التحريف وإن سمي بالتأويل يُحَرِّفُونَهُ فإن التحريف يكون على نوعين كما هو معلوم تحريف الألفاظ والثاني هو تحريف المعاني، فاليهود وقعوا في تحريف الألفاظ وتحريف المعاني، حرفوا ألفاظ الكتاب المنزل وحرفوا معانيه، وهذه الأمة أخبر النبي ﷺ أنها ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، ولكن الله تكفل بحفظ هذا القرآن إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:9] فهذا أمر تكفل الله -تبارك وتعالى- به، لكن وقع تحريف المعاني كثيرًا من قبل طوائف من أهل البدع والأهواء والضلالات ومن قبل أهل التعصب المذهبي أيضًا، فأهل البدع حرفوا المعاني، فهم كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: يؤلون المعنى، يعني يصرفونه عن ظاهره إلى معانٍ غير مراده[1] هذا إذا أمكنهم، فإن لم يستطيعوا سلبوا معناه المراد بحيث لا يدل على الحق، أو على قول المخالف، وهذا كثير كالذين حرفوا معاني صفات الله -تبارك وتعالى- وحرفوا دلائل الاعتقاد الصحيح في أبواب الإيمان والقدر ونحو ذلك.

وكذلك أيضًا أولئك الذين وقعوا في التعصب المذهبي فهم يتمحلون في لي أعناق النصوص من أجل أن توافق مذاهبهم، وقل مثل ذلك أيضًا في أصحاب الأهواء ممن يريدون أن يفهموا القرآن على وفق أهوائهم، فيفسرونه بما تمليه عليهم هذه الأهواء، وهذا لا شك أنه من التحريف، ولذلك تجد هؤلاء في هذا العصر يرفعون عقيرتهم وتجد الواحد منهم من أجهل الجاهلين ويتحدث عن الحجاب مثلاً ثم يقول: هذه الآيات لا تدل على الحجاب يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [سورة الأحزاب: 59] يقول: هذه ليست في الحجاب ولا علاقة لها بالحجاب.

وهكذا في الآية الأخرى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [سورة الأحزاب:53] يقول: هذه أيضًا لا تتعلق بموضوع الحجاب وإنما هذه عادة من العادات التي ابتكرها الناس، ثم بعد ذلك نشأ عليها الصغير وشاب عليها الكبير، ونسبوها إلى دين الله فهو لا يؤمن بالحجاب، ويتكلم ويجادل ويتفلسف في لقاء في قناة فضائية يشاهده الملايين، فهذا من التحريف، يعني إذا أوردت عليه النصوص حرفها، وحملها على معانٍ أخرى غير مرادها، وهكذا فيما يتعلق بالأحكام الفقهية.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  انظر: مجموع الفتاوى (33/ 180)، ودرء تعارض العقل والنقل (7/ 128). 

مواد ذات صلة