الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[58] تتمة تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ..}
تاريخ النشر: ١٣ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 1180
مرات الإستماع: 1372

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نواصل الحديث فيما يُستخرج من الهدايات من قول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [سورة البقرة:83] وقد ذكرنا في الليلة الماضية جملة من الهدايات التي تتصل بصدر هذه الآية، فيما يتعلق بحق الله -تبارك وتعالى- لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وأنه الحق المقدم على سائر الحقوق.

وكذلك الحق الثاني وهو حق الوالدين، وأنه أطلق في الإحسان، فيشمل ضروب الإحسان، وأنواعه، من إحسان قولي وفعلي، والإحسان بالمال، وبالمعاشرة والمخالطة، ولين الجانب، فهذا مضى الكلام عليه، وقد جاء ذلك مفصلاً، كما أسلفت في مجالس أخرى.

وفي هذه الآية جاءت هذه الأمور مرتبة بحسب الأهمية، فذكر حق الله -تبارك وتعالى: أن يُعبد وحده لا شريك له، وهذا - كما سبق - هو أول الحقوق وأعظمها، ثم بعد ذلك جاء بحق الوالدين، فهو الذي يلي حق الله ثم ذكر حق القرابة بالصلة والإحسان والتعاهد، فهذا يأتي بعد حق الوالدين فهو الحق الثالث.

وذكرنا بأن هذه القرابة إنما هي وشيجة تتصل بالأبوين، فهما سبب قرابة الإنسان، ثم ذكر اليتامى بعد القرابات؛ وذلك أن هذا اليتيم وهو الصغير الذي مات أبوه قبل أن يبلغ هو بحاجة إلى رعاية، والأطماع منقطعة دونه، يعني ليس هو كالمسكين يمكن أن يعمل عند الآخرين، وينتفع بجهده وعمله، وإنما هو صغير، ليس موضعًا للعمل، وهو بحاجة إلى رعاية وحفظ؛ لأنه لا يُحسن تدبير الأمور، سواء كان له مال أم لم يكن له مال، ثم إن هذا الصغير لا يستطيع أن يستقل بنفسه فيعمل ويكتسب، فإنه يبقى في معاناته، فإذا تُرك ضاع، فأمر الله برعاية حقه وَالْيَتَامَى فحقه شديد وعظيم، وهو أعظم من حق المسكين والفقير، والسبب أن المسكين يمكن أن يتصرف ويعمل ويكتسب ويتسبب ويسافر من بلد إلى بلد يطلب الرزق، أما هذا اليتيم فإلى أين يذهب؟ ثم هو عرضة لكل آسر وكاسر، قد يُبتز، وقد لا يُتقى الله فيه، فجاء حقه بعد حق هؤلاء من الوالدين والقرابات.

ثم بعد ذلك ذكر المساكين بعد هؤلاء جميعًا؛ وذلك أن هذا المسكين لا يجد كفايته، فهو بحاجة إلى رعاية وإحسان، فلا يضيع في المجتمع.

وتلاحظون في الآيات الأخرى التي ذكر فيها ابن السبيل، فإن ابن السبيل يذكر بعد المسكين؛ وذلك أن حاجة المسكين ملازمة مستمرة، أما ابن السبيل فهي حالة عارضة ألمت به لفقد نفقته؛ وانقطاعه في هذا السفر، أو لقلة هؤلاء بالنسبة للمساكين والفقراء، يعني الذين ينقطعون في الأسفار قلة بالنسبة للفقراء والمساكين، فذُكروا بعدهم في الآيات الأخرى.

والمقصود: أن الله -تبارك وتعالى- أخذ على بني إسرائيل العهد والميثاق، بأداء هذه الحقوق، وعرفنا أن الميثاق هو العهد المؤكد، وانظر ماذا قال بعد ذلك؟ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فذكر الإحسان بالفعل، ويشمل ذلك أيضًا الإحسان بالمال، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يسع الناس بماله وإحسانه البدني، فلا أقل من أن يسع الناس بحسن القول، والتلطف بالكلام، والله -تبارك وتعالى- يقول: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [سورة البقرة:263] ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [سورة البقرة:264] فهذا المن والأذى بأنواعه يُبطل الصدقة.

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ قول معروف: الرد الجميل الذي يُرد به على هذا السائل وَمَغْفِرَةٌ له، على الأرجح من أقوال المفسرين وهو قول الجمهور؛ لأن هذا السائل قد يأتي في وقت غير مناسب، وقد يُلح، ولا يحسن القول والسؤال والطلب، فيحتاج إلى أن يُتجاوز عنه، ويغفر له مثل هذا الإلحاح، ونحو ذلك، فهذا أفضل من أن يعطيه، ثم بعد ذلك يلحق هذا العطاء الزجر وينهره، ونحو هذا.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا هذا الإحسان لسائر الناس بالقول هو الذي يُؤمر به مع القريب والبعيد، بل حتى العدو، كما قال الله : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت: 34، 35] الدفع بالتي هي أحسن، فالكلام الحسن يأسر القلوب، وتستدفع به العداوة، ويحصل به من المنافع ما لا يقادر قدره، أما الكلام الذي يُؤذي ويجرح والصلف، فإن ذلك تستدعى به العداوات والبغضاء والشحناء والفرقة بين الناس، وبه يحصل فقد الأحباب والأصحاب والأقربين، وبه تستثار كوامن النفوس، فالعاقل هو الذي يحسن الخطاب والرد والجواب، ويدفع بالتي هي أحسن، ويتخير أحسن العبارات، ويرد بها، كما قال الله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [سورة الفرقان:63] سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [سورة القصص:55] فهو لا ينسفل ولا يهبط مع السفهاء وإن أساءوا إليه، فكيف بمن لم يسيئوا؟ وكيف بمن أحسنوا؟

ومن الناس من لا يوفق فيرد الإحسان بالإساءة، فلا يسلم الناس من لسانه وغمزه وهمزه ولمزه، وهم يحسنون إليه، أما إذا أساء إليه مسيء فإنه يهبط في الإساءة إلى الدركات، وهذا خلاف العقل، وهو خلاف أيضًا ما أمر الله -تبارك وتعالى- به.

وحينما يقول الإنسان للناس حسنًا، وحين يُؤمر الناس بهذا، فهذا يدل على أنهم يضمرون لهم الخير، سواء كانوا من أهل الإحسان، أو كانوا من أهل الإساءة، ليكن أمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر، الكلمة الطيبة، والصدقة، والكلام اللطيف، والذي يصدر من لسان عف، لا شك أنه يُؤثر، ويكون ذلك أدعى لقبول ما يقال، وما يُؤمر وما يُنهى عنه، وهو من الآداب المعروفة في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الرفق واللين في الكلام فهذا كله مما ينبغي مراعاته.

أما إذا أطلقت الألسن فإن هذه الألسن التي تنفلت، تدل على خفة العقول؛ لأن العقل زمام وخطام يُزم به اللسان، فإذا خف العقل تقاصر عن زم اللسان فانطلق، فلسان الإنسان يهرف بما لا يعرف، وينطلق يجرح ويُؤذي، ويقع في الأعراض، ويتكلم فيما لا يعنيه، ولا يبالي، أما العاقل فإنه يحسب الحرف؛ لأنه يعلم أن كلامه سيُعرض عليه في يوم لا يُغادر فيه الصغير ولا الكبير من الأعمال والأقوال وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [سورة الكهف:49] مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18] فيحسب كلامه، ويعتقد أن كلامه من عمله، وسيسأل عما يقول؛ ولهذا قالوا: بأن طول الصمت يدل على كمال العقل، وأما المهذار، فإنه لا يكون كذلك، إلا لضعف عقله، فعقله لا يسيطر على لسانه، والله المستعان.

والمقصود -أيها الأحبة- أن المؤمن يحب لإخوانه ما يحبه لنفسه، فإذا رأى عيبًا أو تقصيرًا نصح، ولا يسعه أن يتكلم في أعراض الناس، أو أن يغمزهم، أو أن يلزمهم وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [سورة الهمزة:1] هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [سورة القلم:11] المشي بالنميمة والهمز واللمز والغمز وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [سورة الحجرات:11] لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [سورة الحجرات:11] فلا مجال للسخرية ولا النميمة ولا الغيبة ولا الهمز ولا الغمز والوقيعة في الأعراض، إنما هي النصيحة من قلب محب مشفق، يحب الخير للآخرين، ومن أراد أن يُنصِف الناس وأن يُنصِف من نفسه فليضع نفسه موضعهم إذا خاطبهم أو عاملهم، فيتصرف معهم ويوجه إليهم هذا الخطاب، وكأنه في مقامهم.

فقال: وَقُولُوا هذا أمر، والأصل أن الأمر للوجوب وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ولاحظ هنا قوله: لِلنَّاسِ فإن ذلك يفيد العموم لِلنَّاسِ فأل دخلت هنا على اسم جنس، كل الناس، قولوا لهم كلامًا طيبًا حسنًا، أيًّا كان هذا الإنسان.

ثم أيضًا مثل هذه المخاطبات تدل على تربية عالية، وذوق رفيع، وتدل على عقل كامل، ومروءة تامة، فإن لسان المرء ينبئ عن مكنوناته وقلبه وعقله، فإذا نطق عُرف ما تحت هذا اللسان من عقل، فهذا اللسان يغترف من القلب، فالقلوب أوعية، والألسن مغاريف تغترف من هذا القلب، فيبدو على اللسان، ويظهر على صفحة الوجه ما يكون في مكنون الإنسان، فإذا تكلم عرف الناس عقله، وعرفوا تربيته، وعرفوا ما يتحلى به من الأخلاق، فأحبوه أو كرهوه، بل يعرفون صدقه من كذبه من خلال كلامه الذي يتكلم به.

ولذلك فإن شأن القول ليس بالسهل، سواء كان ذلك باللسان، أو كان باللسان الآخر وهو القلم، وانظر بنظرة سريعة خاطفة إلى ما يُكتب ويُسطر في هذه الوسائل التي فتحت على الناس، وفتح عليهم بسببها أبواب من الشر والفتن لا يعلمها إلا الله ما الذي يكتب؟ وما اللغة التي يتخاطب بها الناس؟ فتلك تنبؤك عن تربيتهم وما يتمتعون به، ويتحلون على الحقيقة من غير مواربة، فإن العين حينما ترى العين قد تنكسر ويستحي الإنسان، ولكن حينما يجلس أمام الشاشة هنا تظهر الأخلاق الحقيقية والتربية الحقيقية من غير تصنع.

إن الكثيرين -أيها الأحبة- حينما تراهم وتلقاهم قد ترى منهم ما يعجبك ويسرك من الأقوال والفعال، ولكن حينما يجلس الواحد منهم أمام هذه الوسائل ويكتب حيث لا يراه الناس، فإنه يكتب ما ينبئ عن معدنه، وعن حقيقة تربيته وأخلاقه، فترى هبوطًا وسفولاً في الأخلاق، نعم الناس يتفاوتون في هذا، لكن ما كنتُ أعلم أن انحطاط الأخلاق يصل إلى المستوى الذي رأيته، مع أني من أقل الناس قراءة في هذه الوسائل، أخلاق ولغة في الخطاب عجيبة، لا يمكن أن يتخرج هؤلاء إلا من حظائر -أعزكم الله.

هؤلاء الذين يكتبون بهذه اللغة لغة الإقذاع والسب والشتم وتنابز لا يمكن أن يكون هؤلاء قد تربوا تربية صحيحة، ومن الواضح جدًا أن فئة من الناس قد تربوا فعلاً في الشوارع، ثم بعد ذلك صاروا يكتبون، ولربما عند أنفسهم أنهم يذبون عن دين الله ويدافعون عنه، ويظنون أن ذلك من الغيرة عليه، ومن الجهاد في سبيلة، بلغة شوارع، سباب وشتائم وإقذاع لا تدري هل هذا من البشر أو أنه من الشياطين؟ وكيف يرضى الإنسان لنفسه أن يهبط إلى مثل هذه المستويات.

وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فيحتاج الإنسان أن يعود نفسه على هذا، وكثرة المزاولات تورث الملكات، قد يصعب على الإنسان في البداية لأنه ما اعتاد، لكن بالمجاهدة ومخالطة أهل المروءات لا شك أنها تُؤثر في المرء مع البعد عن مخالطة الأراذل، وعن قراءة ما يكتبون، فلست بحاجة لأن تتبع كل تافه، وأن تقرأ كل ما -أعزكم الله- يتقيؤه هؤلاء، ثم بعد ذلك قد ينشره الإنسان، ويقول: انظروا، انظروا ماذا؟

فالبعد والنأي بالنفس عن مثل هذا كله؛ لأن ذلك يؤثر في القلب، والطبع لص وسراق، والناس كأسراب القطا جبلوا على تشبه بعضهم ببعض، فإن استطعت ألا يطرق سمعك شيء من هذه المقالات المنسفلة فافعل، ومهما استطعت أن لا يجري شيء من ذلك على لسانك فافعل، فهذا هو الواجب.

ثم لاحظوا كيف أكد هذا بالمصدر وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فوضع المصدر موضع الاسم، يعني قولاً حسنًا، قولاً هذا هو الاسم، فوضع مكانه المصدر، وهذا يدل على التوكيد، وتقوية الكلام بمثل هذا، يدل على مبالغة في طلب هذه القضية، حتى صار كأنه نفس الحسن وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا كما تقول: رجل عدل.

ويُؤخذ من هذا الموضع من هذه الآية أن القول السيئ هو خلاف مراد الله -تبارك وتعالى- وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا مفهوم المخالفة: لا تقولوا للناس قولاً سيئًا، فمنطوقها الأمر بالقول الحسن، ومفهومها النهي عن القول السيئ، والقول السيئ يشحن النفوس، ويؤذيها، ويكون سببًا لزيادة العداوة لدى أصحاب العداوات، ويكون سببًا لصرم العلاقة مع الأصدقاء والأصحاب، كما سبق، أظهر للناس المشاعر الطيبة، والكلام الطيب تستأسر قلوبهم بذلك، والنبي ﷺ أخبر أن أقربنا إليه منزلة يوم القيامة هم أحاسننا أخلاقًا.

هذا العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل بهذه القضايا، ومنها القول الحسن، ماذا كانت النتيجة؟ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضوا، وهذا الموضع فيه التفات من الغَيبة إلى الخطاب، هو يتحدث عن غائب وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ثم قال: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فهذا لا شك أنه أوقع في النفوس، وهو أشد في التوبيخ والتقريع لهؤلاء اليهود.

فقوله: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ وذكر الإعراض معه فهذا يكون أشد من مجرد التولي ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [سورة البقرة:83] فهذا تولي بالقلوب وتولي بالأبدان، فهذا آكد وأشد، وأما قوله: إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ فيمكن أن يكون الاستثناء على ظاهره بمعنى أن بعضهم لم يحصل منهم هذا التولي، فيكون ذلك شاهدًا من شواهد الإنصاف، وترك التعميم في الأحكام حيث يصلح فيه ذلك.

ويحتمل أن يكون ذكر القليل كما في بعض المواضع بمنزلة العدم، تولوا جميعًا وهم معرضون، كما قال الله : وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة الأحزاب:18] يحتمل أنهم لا يأتون البأس أصلاً، ويحتمل أنهم يأتون من قبيل إثبات الحضور؛ ليأخذوا الغنيمة ويستدفعوا عن أنفسهم التهمة.

وعبّر في قوله: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ بالجملة الاسمية التي تدل على الثبوت، فهذا الإعراض مستمر هو خلقهم وديدنهم وعادتهم المستمرة التي لا تتخلف في كل زمان ومكان، وهو الإعراض عن الهدى، وعن التزام المواثيق، وعن مثل هذه القضايا التي ذكرها الله في هذه الآية، أما ذكر إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فإن ذلك تكلمنا عليه في مناسبات سابقة، كما في أول هذه السورة الكريمة هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:2، 3] فيدخل فيه الزكاة الواجبة، وهنا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ خصّ هاتين العبادتين لأهميتهما، وقد ذكرنا من قبل سبب الاقتران بين هاتين العبادتين العظيمتين، فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك إنما هو بسبب أن الصلاة صلة بين العبد وربه، والزكاة صلة مع العباد، وإحسان إليهم، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين، حسن الصلة بالله، والإحسان إلى الخلق.

وبعضهم يقول: بأن ذلك -والله أعلم- بكون العبادات إما مالية أو بدنية، رأس العبادات البدنية الصلاة، ورأس العبادات المالية هو الزكاة وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه[1] فالزكاة أفضل من الصدقة، فالذي قد ضيع الصلاة، وبخل بالزكاة، ماذا أبقى؟ هذه أُخذ عليهم الميثاق فيها، وكونها مؤكدة عندهم، وهي من شرائع الإيمان عندنا، لا شك أن هذا حينما قصه الله علينا، وجاء في النصوص مما يدل على أهمية هذه القضايا فيما خاطب الله به هذه الأمة، فيفهم منه أن هذه المذكورات في هذه الآية من أهم المهمات.

فإقام الصلاة، وهو أن يأتي بها كما أمر الله يصلي بجماعة مستوفية لشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومندوباتها، ويحافظ عليها كما أمر الله ويؤتي الزكاة التي افترضها الله عليه.

فهذا كله مما أُخذ الميثاق به على بني إسرائيل، فكان التولي والإعراض، فمن تولى عن هذه القضايا من هذه الأمة ففيه شبه من بني إسرائيل، والله المستعان.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع برقم: (6502). 

مواد ذات صلة