بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
نواصل الحديث -أيها الأحبة- عن قوله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87].
فقد تحدثنا عن شطر هذه الآية في الليلة الماضية، وبقي الحديث عن شطرها الآخر؛ وذلك في إنكار الله -تبارك وتعالى- عليهم في قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ فهؤلاء اليهود ينكر الله عليهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ فهذه اللفظة (كلما) تدل على التكرار، وقد سبقت بهمزة الإنكار، يعني أن ذلك كان يتكرر منهم، ويتكرر مع من؟ مع أنبيائهم ورسلهم؛ لأن الله قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وهو التوراة.
وقلنا: إن شريعة بني إسرائيل كانت في التوراة وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فكل الرسل الذين جاؤوا بعد موسى والأنبياء كانوا من أنبياء بني إسرائيل إلا محمد -عليه الصلاة والسلام- فقال الله -تبارك وتعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ يعني يدخل في ذلك دخولاً أوليًّا: الأنبياء الذين هم من بني إسرائيل، كما يدخل في ذلك أيضًا النبي ﷺ كما سيتضح بعد قليل، ولكن الآية في أصلها وسياقها إنما هي في أنبياء بني إسرائيل.
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فمعيار القبول والرد للرسل ولما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- عند هؤلاء هو الهوى؛ لأنه قال: اسْتَكْبَرْتُمْ فالاستكبار يكون عن الحق الذي جاءوا به، والاستكبار عن اتباعهم، ثم أيضًا قال في ذكر النتيجة وما يقابلون به هؤلاء الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87] إذا خالف الأهواء، فالاستكبار والموقف من هذا الرسول المواجهة بالتكذيب، بل قد يتعدى ذلك إلى العدوان بالقتل، وأعظم الناس جناية وجرمًا من قتل نبيًّا أو قتله نبي.
وقد جاء أن هؤلاء قتلوا في يوم واحد من أنبيائهم سبعين نبينًا، لو أن أمة من الأمم قتلوا سبعين رجلاً منهم لكان كثيرًا، ولو قتلوا سبعين من الصالحين لعد جرمًا عظيمًا، ولو أن أمة قتلت سبعين من علمائها لعد ذلك من أعظم الإجرام، وأشنع العدوان، فكيف بقتل هذا العدد من الأنبياء في يوم واحد؟ أي قلوب يحملونها؟ وأي جوارح تمتد بالعدوان بالقتل لأطهر الخلق، وأشرف الخلق، وهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام؟!
وإذا كانوا يفعلون ذلك مع أنبيائهم فما الظن بغير أنبيائهم ممن يردّون دعوته حسدًا وهو النبي ﷺ؟
فالمعيار عند هؤلاء هو الهوى، وقد قيل: إن الهوى قيل له هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار؛ ولذلك لا يكاد يستعمل إلا على سبيل الذم بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ فاليهود من شأنهم التكذيب بالحق والاستكبار عن الانقياد له، كما أن من شأن النصارى التصديق بالباطل، واتباع الظنون والجهالات، فاليهود كذبوا من كذبوه من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين جاءوهم بالحق، والنصارى اتبعوا وصدقوا محالات العقول والشرائع، كما صدقوا بالتثليث الذي لا يقبله عقل ولا عد ولا حساب ولا رياضيات ولا علم من العلوم، قبلوا به وصار عقيدة مقررة تتوارثها الأجيال، وهكذا سائر الممتنعات، كما قال شيخ الإسلام في كتابه (الجواب الصحيح) الذي يرد فيه على هؤلاء النصارى، وهو من أجل الكتب وأنفع الكتب، بل لا يوجد كتاب في الرد على النصارى مثل هذا الكتاب.
فقوله: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ففي القتل عبّر بالفعل المضارع تَقْتُلُونَ وقد ذكر جمع من أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- ونقل ذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله[1] عن بعض المفسرين كصاحب الكشَّاف[2]: بأن التعبير هنا بالفعل المضارع تَقْتُلُونَ الذي يدل على التجدد؛ لأن التكذيب مضى، لكن القتل يتجدد، وقد ظهر تأثير ذلك بمحاولة قتله ﷺ بوضع السم في يوم خيبر، حيث وضعت له تلك اليهودية في الذراع السم، فنهس منه ﷺ نهسةً، ثم بعد ذلك أخبرته تلك الشاة أنها مسمومة، فتركه ﷺ إلى أن بقي ذلك الأثر يعاوده إلى يوم وفاته ﷺ يقول: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم[3] والمقصود به العرق الواصل الكبير إلى القلب، يقول: هذا المنتهى الآن من آثر تلك الأكلة؛ ولذلك قال الحافظ ابن القيم وجماعة: بأن النبي ﷺ قد نال الشهادة، يعني كانت له شهادة بموته ﷺ حيث مات شهيدًا؛ وذلك بسبب تلك الأكلة التي أكلها.
وهذا لا يتعارض مع عصمة الله له، فقد عصمه من الناس؛ فذلك السم بقي معه ﷺ حتى أدى الرسالة كاملة، ثم بعد ذلك أراد الله أن يكون أجله -عليه الصلاة والسلام- ووفاته بشهادة يختم بها، فعصمه الله وحفظه من الناس، حتى بلّغ الرسالة كاملة، فلما جاء الأجل ختمه بشهادة، وإلا فالأعرابي الذي اخترط سيف النبي ﷺ لما علقه بشجرة بغزوة ذات الرقاع، وقال: من يمنعك مني؟ فقال: الله[4] فسقط السيف من يده.
وكذلك في يوم حنين لما أراد شيبة أن يقتل النبي ﷺ من خلفه، فمنعه الله منه، والتفت إليه النبي ﷺ حتى صار الرجل ما يستطيع يفعل شيئًا، فمسح على صدره وتحول الرجل إلى مؤمن، وصار النبي ﷺ أحب الناس إليه[5].
وكذلك لما جاء أبو جهل وتوعد النبي ﷺ فماذا رأى؟ هولاً وأجنحة، وما استطاع الاقتراب من النبي ﷺ في مكة في المرحلة المكية، وكذلك حينما كان في الغار ووقفوا على فم الغار، فحفظه الله منهم، وقد كان النبي ﷺ يُحرس في الليل، فلما نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] صرفهم.
ثم أيضًا نجد أن التعبير بالفعل المضارع تَقْتُلُونَ يصور هذا الجرم البشع كأنك تشاهده، كأن عملية القتل ماثلة أمامك، تتجدد وتتكرر، فلم يقل: وفريقًا قتلتم، وإنما قال: تَقْتُلُونَ ليصور عظيم هذا الجرم، كأن السامع يشاهده فذلك أشد في بشاعته وقبحه، هذا بالإضافة إلى ما سبق من أن ذلك ليشمل النبي ﷺ فاستمر عدوانهم ذلك إلى أن جاء رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فحاولوا قتله، وقد حاولوا أيضًا قبل خيبر حينما أرادوا إلقاء رحى على رأسه ﷺ من فوق حُجرة، كان يجلس تحتها في القصة المعروفة[6] فهؤلاء هم قتلة الأنبياء، تكذيب واستكبار وقتل لأشرف الخلق ولأنبيائهم، فما الظن بهم؟
فقوم بهذه المثابة لا يرجى منهم إيمان ولا خير ولا إنصاف ولا رحمة، فمن كان يرجِّي شيئًا من ذلك أو ينتظره أو يؤمله من هؤلاء اليهود فهو ضائع، ما عرفهم، ومن مد يده إلى هؤلاء اليهود يرجو أن ينصفوه، أو أن ينصفوا قومه، أو أن يردوا بعض حقه، أو نحو ذلك، فهو مُضيِّع، وما عرف هؤلاء، وما قرأ القرآن قراءة صحيحة، حيث صورهم تصويرًا بليغًا في خلجات نفوسهم، وفي أقوالهم وأفعالهم، وما يبطنون إلى حد تصوير الأحقاد التي يعبرون عنها بِعض الأنامل وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [سورة آل عمران:119] فهو لا يجد شيئًا يتشفى به الآن في ساعته إلا أن يعض أنامله يتألم، لكن يُفرغ شحنة في داخله بمثل هذا التصرف المعبّر، فكيف لو تمكن؟ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [سورة الممتحنة:2] هم أعداء في السابق، والعداوة كامنة في نفوسهم، لكن المقصود بالعداوة الجديدة الآن يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً يعني: بالفعل، فتتحول العداوة الكامنة إلى عداوة بالممارسة بالقتل، وأيضًا بسط الألسن بالسوء، يسمعونكم ما تكرهون.
ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ الأصل في ترتيب الكلام: كذبتم فريقًا، مفعول به، فقدّمه من أجل التفصيل والاهتمام وتشويق السامع؛ ليتشوف ماذا فعلوا بهذا الفريق؟ وماذا فعلوا بهذا الفريق؟ ما الموقف من هؤلاء الرسل، جعلوهم وفرزوهم فكذبوا فريقًا، وقتلوا فريقًا، وهذا أيضًا يكون فيه التوافق بين رؤوس الآي.
ولاحظ أنه بدأ بالتكذيب فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ قبل القتل، ثم ذكر القتل؛ لأن أول ما يفعلون من الشر هو التكذيب، فالتكذيب يكون بعده القتل، فلو أنهم صدقوهم وآمنوا بهم لما اجترأوا على قتلهم، ولكن التكذيب وقع في نفوسهم ابتداءً، ويكذبون أنبياء! فهم يعرفونهم معرفة تامة، يعني ليس من قبيل آخر ومن قوم آخرين، وإنما ممن هم من أنفسهم، من أنبياء بني إسرائيل، ومن ولد يعقوب وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [سورة المائدة:20].
فالأنبياء كانوا فيهم، أكثر أمة فيها أنبياء هم بنو إسرائيل، ومع ذلك لا يُعرف في الأمم تمرد وعتو كالتمرد والعتو الذي كان في بني إسرائيل، ولذلك قال بعض أهل العلم بتعليل تكرار قصص بني إسرائيل في القرآن، قالوا: بأن هؤلاء في كل باب لهم تاريخ وسجل أسود، فإذا بسط هذا لهذه الأمة، فإن ذلك يكون دروسًا في سائر الجوانب والأبواب يعزيهم ويسليهم ويصبرهم؛ لأنه لا نبي بعد النبي ﷺ فبسط لهم خبر هؤلاء الذين هم أقرب الأمم، فهذه الأمة جاءت بعد بني إسرائيل، والله المستعان.
ثم إن التكذيب هو الشيء المشترك بين جميع هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين نالهم ما نالهم من هؤلاء القتلة من اليهود.
وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ فهذا على سبيل الخطاب أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87] ثم التفت فقال: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [سورة البقرة:88] إلى ضمير الغائب، هذا الذي يسمونه الالتفات في البلاغة، كما هو معروف، التفت من الخطاب إلى الغَيبة، وهذا يكون لمعانٍ وأمور بلاغية: من تنشيط السامع، كما ذكرنا في بعض المناسبات، وأيضًا يكون لملحظ في الموضع نفسه، فهنا إذا تأمّلت لما ذكر هذه المعايب والمثالب اسْتَكْبَرْتُمْ كَذَّبْتُمْ تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ كأنه أبعدهم عن رتبة الخطاب، إذ لا يستحقون إلا التجاهل والتغافل؛ لسوء فعالهم، فذكر مخازيهم الموجبة للإعراض عنهم، فجاء هذا الالتفات.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 323).
- تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 162).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته برقم: (4428).
- ( أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع برقم: (4135) ومسلم في الفضائل، باب توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس برقم: (843).
- الروض الأنف ت الوكيل (7/ 207).
- إمتاع الأسماع (13/ 251).