بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- مخاطبًا أهل الإيمان في هذه السورة الكريمة سورة البقرة: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:110] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ اشتغلوا بأداء هذه الصلاة على وجهها المشروع من إقامة أركانها وشروطها وواجباتها ومستحباتها، وأدوا الزكاة المفروضة في أموالكم، واعلموا أن كل خير تقدمونه لأنفسكم تجدون ثوابه عند الله -تبارك وتعالى- مرصودًا موفورًا في آخرتكم، إن الله تعالى بصير بكل أعمالكم، وسيجازيكم عليها.
هنا الله -تبارك وتعالى- يأمر أهل الإيمان: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ بعد أن ذكر هؤلاء من أهل الكتاب الذين يتمنون إعادتكم إلى دينكم الأول الذي كنتم عليه في جاهليتكم أن ترجعوا كفارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [سورة البقرة:109].
ثم أمر بالعفو والصفح: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109] بعد هذا قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:110] فوجه الارتباط هنا وهو ما يعرف بعلم المناسبة أن ذكر الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بعدما ذكر من حال أهل الكتاب، وما ينبغي تجاه ذلك من العفو والصفح انتظار أمر الله -تبارك وتعالى- فهنا ذكر سببًا يستجلب به النصر وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فذكر هذا الأمر بعدما سبق: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:109، 110] فدل على أن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة من أسباب النصر، وقد جاء ذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [سورة الحج:40، 41].
ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أقيموا الصلاة، قامت الصلاة، دائمًا في كل موضع يؤمر بها إنما يؤمر بإقامتها وليس بأدائها؛ وذلك أن إقامتها تعني أن يأتي بها على الوجه المشروع مستوفية لما ذكر، فيقوم بحقوقها الروحية في صورتها العملية، وذلك بالتوجه إلى الله -تبارك وتعالى- ومناجاته، والانقطاع إليه عما عداه، وإشعار القلب بعظمته وكبريائه، فبهذا الشعور ينمو الإيمان وتقوى الثقة بالله وتتنزه النفس عن أن تأتي بالفواحش والمنكرات، وتستنير البصيرة، فتكون أقوى نفاذًا في الحق، وأشد بعدًا عن الأهواء.
فنفوس المصلين جديرة بالنصر، الذين يصلون هذه الصلاة، لما تعطيه هذه الصلاة التي هي بهذه الصفة من القوة المعنوية، ومن الثقة بالله -تبارك وتعالى- وقدرته والارتباط به، فإذا رأيت أهل الإيمان، إذا رأيت المقاتلين يسجدون لله ويصلون كما أمرهم الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك يُبشر بخير، يبشر بخير أن هؤلاء لهم صلة مع من يملك القوة والنصر.
ولذلك يقول الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الأنفال:45] يعني من أجل أن تحققوا الفلاح وهو نيل المطلوب والنجاة من المرهوب، الثبات مع الاتصال بالله بكثرة ذكره، الذكر بالقلب، باستحضار العظمة والمراقبة، وما إلى ذلك من التوكل واليقين والثقة، وكذلك أيضًا الارتباط به بذكره -تبارك وتعالى- بالجوارح بالعمل بطاعته، ومن أعظم ذلك هذه الصلاة فهي من أجل ذكر الله وأجلى صوره: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [سورة العنكبوت:45] وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ [سورة النساء:102] هذه صلاة الخوف ذكرها الله في جماعة في وقت مواجهة العدو، حينما يكون أهل الإيمان مقابل الأعداء يتخوفون من هؤلاء أن يصيبوا منهم غرة في أي لحظة، ومع ذلك يصلون جماعة بهذه الصفة.
ثم بعد ذلك إذا حصل لهم الأمان والاطمئنان عند ذلك: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [سورة النساء:103] فهذا كله من أجل أن يكون أهل الإيمان لهم صلة ثابتة قوية بربهم وخالقهم -جل جلاله وتقدست أسماؤه.
هؤلاء هم الذين ينصرهم الله الصلاة هي صلة بين العبد وربه، فهذه الصلاة بهذا المثابة لا شك أنها سبب لكل خير، وطمأنينة النفوس وثبات القلوب ورباطة الجأش والتوكل على الله .
وأيضًا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ذكرنا في بعض المناسبات وجه الاقتران كثيرًا في القرآن بين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وذكرنا أقوال أهل العلم في ذلك، فمن قائل: بأن سعادة العبد دائرة بين أمرين: حسن الصلة بالله ورأس ذلك في الصلاة، والإحسان إلى المخلوقين ورأس ذلك بالزكاة، فذكر أصلي السعادة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك كان النبي ﷺ يقول: قم يا بلال فأرحنا بالصلاة[1].
وأيضًا مما ذكروه وهو لا ينافي ما ذكرته آنفًا بأن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، والعبادات إما مالية وإما بدنية كما هو معلوم، فذكر رأس هذا ورأس هذا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ.
ثم قال: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:110] هنا مثل هذه الجملة تبعث بالطمأنينة في النفوس، بحيث يكون العبد واثقًا بجزاء الله وثوابه، وأن الله لا يضيع من عمله قليلاً ولا كثيرًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ "ما" هذه تفيد العموم وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ والإضافة هنا إلى الأنفس، فهذا الذي تقدمه، هذا الذي تبذله، هذا الذي تعمله، إنما تقدم لنفسك، سواء كان ذلك في العبادات المحضة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن، قيام الليل، كل ذلك إنما تقدمه لنفسك، فلا مجال للإعجاب بالعمل أو التكثر به أو الامتنان أو نحو ذلك.
وكذلك أيضًا التبرم والاستثقال، هذا الإنسان الذي يذهب لأداء فريضة الحج أو كان يحج نافلة حينما يستشعر هذا المعنى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:110] فهذا العمل الذي يعمله سيجد ثوابه عند الله -تبارك وتعالى- إذن لا يذهب متبرمًا ويرجع متسخطًا متضجرًا، وهو في غاية الاستثقال فيما بين ذلك، لا يكون المؤمن بهذه المثابة، يتذكر هذا المعنى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:110] النفقات التي يبذلها في حجه أو في أعماله الأخرى أو في إنفاقه في سبيل الله: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:110] فالله -تبارك وتعالى- ينميه لصاحبه، ويجده العبد موفورًا عنده الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإذا استشعر العبد مثل هذا في نفقاته على الأهل والقرابات والمحتاجين فإنه لا يمكن أن يندم على نفقة في هذا السبيل.
ولا يمكن أن يقول: بأنه قد أعطى ثم بعد ذلك وجد الجحود والنكران؛ لأنه إنما يقدم ويبذل لنفسه: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:110] إن كنت تعمل لله فهذا ستجده عنده.
كذلك ما يبذله الإنسان من النفع المتعدي بأنواعه المختلفة، إذا كان هذا العمل لله خالصًا فإن العبد لا يمكن أن ينقطع أو يتوقف؛ لأنه لم يقدر له هذا الجهد وهذا العمل وهذا السعي، وهذا البذل وهذا الإحسان من قبل الآخرين، لم يشكروه، لم يقدموه، لم يمنحوه وسامًا أو درعًا أو نحو ذلك إنما يجد ذلك عند الله.
وكلمة "خير" هنا نكرة في سياق الشرط فهي للعموم، وقد سبقت بــ"من" التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:110] لا يضيع عند الله شيء: مِنْ خَيْرٍ يعني ولو قلّ، والوزن عند الله -تبارك وتعالى- بمثاقيل الذر: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة:7، 8].
عائشة -رضي الله عنها- جاءتها سائلة فأعطتها عنبة، وقالت: "كم في العنبة من مثقال ذرة؟"[2].
والنبي ﷺ قال: لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق[3] فالخير لا يضيع عند الله ولو كان قليلاً، وبهذا يكون العبد مسارعًا في الخيرات باذلاً في سبيل الله -تبارك وتعالى- ثابتًا على هذا البذل والإحسان لا ينقطع بسبب أن هؤلاء الخلق الذين أحسن إليهم لم يقابلوا هذا الإحسان بالإحسان، فإن كان كذلك يفعل فإن هذا العمل لا يكون خالصًا لوجه الله -تبارك وتعالى- وإنما الشعار: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [سورة الإنسان:9].
وذكرنا في بعض المناسبات كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[4]: أن من كان ينتظر من الناس الشكر على البذل والإحسان والعطاء ونحو ذلك فإنه لا يكون من أهل هذه الآية: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [سورة الإنسان:9] فالإنسان أحيانًا يحسن إلى الآخرين ويتوقع منهم المردود، يتوقع منهم الثمرة، يتوقع منهم أن يقابلوه بشيء من الإحسان والتقدير وما إلى ذلك، فهذا لا يكون العمل فيه متجردًا لوجه الله ﷺ.
ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:110] فإن هذه الجملة تدل على معنىً كبير تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ حينما يقول لك الكبير من الناس: عملك أجرك ثوابك إحسانك عندي أنا، معناها أنك تطمئن كل الاطمئنان وتثق كل الثقة أن ذلك سيأتي ويكون في غاية الوفرة، فأنت تسرح الذهن فيه هذه الحال متصورًا أعظم ما يكون من الجزاء، جزاؤك عندي، عندي أنا تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ الذي هو أكرم الأكرمين وهو الغني وبيده خزائن السماوات والأرض، وهو لا يخلف الميعاد، فإذا كان الأمر كذلك فما حاجة العبد لتعريف الآخرين بعمله وإفضاله وإحسانه، أو ما حاجة العبد حينما يحزن قلبه إذا لم يُقدر جهده وعمله وسعيه.
ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:110] فـ"إن" هذه تفيد التوكيد، كما أنها تشعر بالتعليل، يعني تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أعمالكم هذه التي تعملونها معروفة معلومة إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ بما تعملون، بكل ما تعملون، فـ"ما" هذه تفيد العموم بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني: أنه نافذ البصر، فالبصير على وزن فعيل صيغة مبالغة، أي أن لا يخفى عليه من أعمالكم قليل ولا كثير، فهذا يبعث على مراقبة الله في العمل، والإخلاص فيه، كذلك أن يؤديه على الوجه المشروع، كذلك يبعث على مزيد من الثقة والطمأنينة، فإذا قال الرئيس ونحو ذلك لمرؤوسه: أعمالك التي تعملها نحن على اطلاع عليها، نحن مطلعون على كل الجهود التي تبذلها في هذا السبيل، نحن مطلعون على الأوقات التي تقضيها في هذا العمل، يطمئن الإنسان ويستريح.
ومن الناس من يعمل أوقاتًا طويلة متواصلة، يواصل الليل بالنهار والنهار بالليل، وقد لا يشعر به أحد، يعمل في مصالح عامة ونحو ذلك، فإذا قيل له من قبل كبير يؤمل نائلة منه قال له: كل ما تعمل نحن على اطلاع ومعرفة به، اطمئن تمام الاطمئنان، وزاده ذلك اندفاعًا فأقبل على العمل بجد ونهم وحرص ورغبة أكيدة، فكيف إذا كان ذلك القائل هو الله : إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الأعمال التي تعملونها في ظلام الليل من طاعات وعبادات، الصدقات التي تتصدقون بها في الخفاء، الإرادات والنيات الطيبة والمقاصد الحسنة، حسن الظن بالناس، إرادة الخير، محبة الخير، أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، كل ذلك يطلع عليه الله -تبارك وتعالى- ولو خفي على الناس.
الإحسان إلى محتاج، الإحسان إلى ضعيف، الإحسان إلى قريب، الإحسان إلى جار، الإحسان إلى صديق، الإحسان إلى زميل في عمل أو دراسة أو نحو ذلك؛ كل هذا يتجرد فيه الإنسان لله ويحتسب الأجر والثواب عنده: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
إذن لا محل لهذه العبارات التي قد يقولها قائلون: فلان ليس بأهل للإحسان، وقد وضعت الإحسان في غير موضعه، اتق شر من أحسنت إليه، ونحو ذلك من الكلام الذي لا حاجة إليه، إنما هو يعمل لربه -تبارك وتعالى- والله مطلع على عمله إذًا هو لا يُرجِّي عائدة من هؤلاء الناس، فهذا يعني الجد والإقبال، ولهذا فإن أبا بكر لما كان ينفق على مسطح، ومسطح كان من أهل بدر، وكان قريبًا لأبي بكر الصديق من جهة الخؤولة، فقذف عرض أبي بكر كان ممن تكلم في عائشة -رضي الله عنها- في قضية الإفك، فحلف أبو بكر أن لا يصله، وأن لا ينفق عليه، يعني ينفق عليه وقريب ومع ذلك يقذف عرضه، فقال الله : وَلا يَأْتَلِ يعني لا يحلف أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة النور:22].
لاحظ الآن إفك ومن قريب وأيضًا ممن وقع هذا الإفك على من أحسن إليه وكان ينفق عليه هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [سورة الرحمن:60] فأبو بكر لما نزلت هذه الآية قال: "بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي"[5] فأعاد إليه النفقة مرة أخرى.
هذه النفوس الكبيرة، هذه أصحاب القلوب الكبيرة، هؤلاء هم الكبار، هؤلاء هم الذين حصلوا المراتب العالية، فكان هو الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- لم يقف مع نفسه ويقول: هذا قذف عرضي بعدما كنت أنفق عليه فهو ليس بأهل، لا والله لا أفعل، ولا أعود إلى مكالمته أو الإنفاق عليه، مباشرة تجاوز هذا وأعاد النفقة كأنه لم يكن شيء من ذلك.
فحينما نعرض أنفسنا على مثل هذه النصوص، ونعرض أنفسنا على مثل هذه الموازين: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:110] فهذا يعني أننا لا نحاسب الآخرين بمثاقيل الذر باعتبار أنهم لم يقدروا هذا الإحسان، باعتبار أن هؤلاء القرابات لم يشكروا هذا المعروف، أننا لم نسمع منهم كلمة شكر، أن هؤلاء لم يبعثوا لنا بشيء مما يدل على تقدير هذا الجهد الذي بذلناه في حقنا، لا، لا، لا، إذا جاءك من يشكر قل: أنا الذي أشكرك، إذا جاء من يقول: أحسنت إليّ، قل: بل أنت الذي أحسنت إلي، هو في الواقع أن الله ساقه إليك ليكون ذلك سببًا إلى إحسانك لنفسك: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:272] تنفق من مال، تنفق من علم، تنفق من عمل، تنفق من بذل، من جهد، من نصيحة: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272].
إذًا عملك لله وهو لنفسك، وسيأتيك وافيًا، هذه الثلاث تكفي في إخلاص العمل لله -تبارك وتعالى- فإذا جاءك من يريد أن يقدم لك الدعاء أو الشكر على إحسان قل: بل أنا الذي أدعو لك، وأنا الذي أشكرك، وأنا الذي ممتن ومغتبط بما يصلني من معروفك، وإذا جاءك من يعتذر إليك أنه أساء أو نحو ذلك قل: أن الذي أعتذر أنا المقصر وأنا المسيء وأنا الظالم، ونحو ذلك.
هكذا يكون أصحاب القلوب الكبيرة، وهذا ما كان عليه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والرسل وأتباع الرسل من أولياء الله -تبارك وتعالى- وأصحاب المراتب العالية في الإيمان.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، برقم (4986)، وأحمد في المسند، برقم (23154)، وقال محققوه: "رجاله ثقات، لكن اختلف فيه على سالم بن أبي الجعد".
- انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 462).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، برقم (2626).
- انظر: مجموع الفتاوى (14/ 329، 330).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [سورة النور:12] إلى قوله: الكَاذِبُونَ برقم (4750)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).