بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما ذكره من خبر بني إسرائيل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة البقرة:113] لما ذكر قولهم قبله أنه: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى قال: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:111، 112] فهؤلاء هم الذين يدخلون الجنة.
ثم بعد ذلك ذكر حال هؤلاء من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كيف كان بعضهم يضلل بعضًا، ويكفر بعضهم بعضًا وهم يتلون الكتاب المنزل عليهم، ولم يقف ذلك على هؤلاء بل قال الذي لا يعلمون من أهل الإشراك ممن لم ينزل عليهم كتاب قالوا مثل قولهم، يعني قالوا: بأن اليهود والنصارى ليسوا على شيء، والمقصود أن الآية التي قبل هذه وهي قوله: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] فـ"أو" بمعنى التقسيم، أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا، ويدل لهذا المعنى هذه الآية، أن كل طائفة تنفي عن الأخرى أنها على شيء من الدين الصحيح، تنفي عنها أنها على حق أو على جادة صحيحة، وهم يقرؤون التوراة والإنجيل وفيهما وجوب الإيمان بجميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والإيمان بجميع الكتب المنزلة، فكون ذلك يصدر عنهم فيكفرون بعيسى أعني اليهود، أو أن النصارى يكفرون بما جاء به موسى وهم يجدون في كتبهم لزوم الإيمان بذلك جميعًا.
كذلك قال الذين لا يعلمون من أهل الإشراك كقولهم بأن كل من خالف ما هم عليه من الشرك يقولون: بأنه ليس على شيء فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [سورة البقرة:113] يفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، ويجازي كلاً بعمله.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] ما جاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- في هذه الطوائف المختلفة في الكتاب المخالفة له من أهل الكتاب ومن طوائف هذه الأمة التي فارقت الجماعة وركبت الضلالة، يقول: "بأنهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب"[1] قد جمعوا وصفي الاختلاف الذي ذمه الله -تبارك وتعالى- في كتابه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[2] فالله ذم الذين خالفوا الأنبياء والذين اختلفوا على الأنبياء، كل هؤلاء في موضع الذم.
ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] يؤخذ منها شدة العداوة بين اليهود والنصارى، وأنهم لا يرون أنهم على دين صحيح أصلاً، لكنهم يجتمعون في حرب المسلمين، ولو أن ذلك وجه واستغل من قبل أهل الإيمان لاشتغل بعض هؤلاء ببعض، فبينهم من العداوة ما لا يقادر قدره، بل إن بين أهل الطائفة الواحدة من العداوة والتفرق والاختلاف والتكفير ما لا يعلمه إلا الله، ولا يحصيه إلا الله، طوائف اليهود، اليهود على فرق مختلفة متناحرة، يكفر بعضها بعضًا، والنصارى على طوائف، وفرق، وتحت كل فرقة من الفرق ما لا يحصيه العاد.
فالنصارى يفترقون إلى أرثوذوكس وتحتهم طوائف، وينقسمون أيضًا ويفترقون إلى كاثوليك، ويفترقون أيضًا إلى بروتستانت، وكل فرقة تكفر الأخرى وتعاديها، وترى أنها على ضلالة، وأنها لا تُمثل من الحق قليلاً ولا كثيرًا، ولو أن هذا استغل من قبل المسلمين لاشتغل بعض هؤلاء ببعض، ولكن اجتمعوا على حربنا، يجتمع الذي في الكنيسة الشرقية هناك في روسيا مع صاحب الكنيسة الغربية وبينهم من العداوة ما لا يعلمه إلا الله، يكفر بعضهم بعضًا وهم نصارى، ولكن يجتمعون في حرب هذه الأمة.
يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] إذًا القضية ليس أن هؤلاء يختلفون معهم في مسائل فرعية أو جزئية أو قضايا قابلة للأخذ والرد، ليسوا على شيء، يعني يرون أنهم على دين مختلق باطل، والنصارى يرون أن اليهود على دين مختلق باطل، فهم يتراشقون بالكفر، وتتعصب كل طائفة لما عندها، وهذا ذكره الله لهذه الأمة؛ لتحذر من الوقوع في مثل ذلك، فلا يصح لمن كان من أتباع هذا الدين أن يتفرق فيه، وأن يرمي من خالفه بالكفر والضلالة من غير موجب شرعي، فيكون قد شابه هؤلاء من أهل الكتاب، كل طائفة يعني ممن ينتسب إلى الإسلام حينما يشابهون هؤلاء تأخذ ببعض الدين، أو تأخذ بقضايا قد دخلها ما دخلها من التبديل والتحريف والتغيير والبدع والأهواء، ثم بعد ذلك ترمي من خالفها بالكفر والضلالة.
فالله -تبارك وتعالى- قد جاء بهذا الدين كاملاً شاملاً وسمانا المسلمين، وكان الجيل الأول الذين تلقوا عن رسول الله ﷺ هذا الدين نقيًا ينتسبون إلى الإسلام فحسب، لا يوجد بينهم مذاهب، ولا طوائف، ولا فرق، إنما ينتسبون إلى النسب الشرعية، وهم قد حققوا ما أمرهم الله به من قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [سورة آل عمران:103] وحينما وقع بينهم القتال في الفتنة لم يؤدِ ذلك إلى تضليل بعضهم لبعض، ولا تكفير بعضهم لبعض، فكان بعضهم يشهد للآخر بالفضل والخيرية، ويشهد له إن كان ذلك قد جاء عن الشارع يشهد له بالجنة.
وكان علي مع ما وقع من القتال مع أهل الشام يقول: "إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة في الجنة"[3] فهذا كان حالهم مع وجود القتال، فكانوا مجتهدين متأولين في ذلك.
أما الخلاف الذي ذمه الله -تبارك وتعالى- وهو أن يحصل التنازع بين طوائف الأمة فيضلل بعضهم بعضًا، فهذا الدين الذي أنزله على نبيه ﷺ أنزله نقيًا كاملاً شاملاً، لا يجوز لأحد أن يجزئه فيأخذ ببعض هذا الدين، ثم بعد ذلك يتعصب لمن دخل معه في هذه الأعمال ويكون من لم يدخل معه مذمومًا معيبًا فضل عن أن يكون ضالاً في نظره، فهذا يكون من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا.
فمن أراد السلامة والنجاة والخلاص من هذا كله فليكن على ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- حيث لم يحصل بينهم هذا الشر والتفرق والاختلاف والتحول إلى طوائف متنازعة، فيسعنا ما وسعهم، ويكفينا ما كفاهم، وفي هذا عبرة لمن اعتبر وتبصرة لمن تبصر.
ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:113] أن العتب على من نزل عليهم الهدى والوحي حينما يقع منهم الانحراف أو التفرق أن ذلك يكون أعظم في حقهم والجرم يكون أشد، ومن ثم فإن العقوبة تكون أشنع، فهؤلاء أهل كتاب ويتلون في هذا الكتاب، وكما قيل: على قدر المقام يكون الملام، فإذا كان هذا الذم قد توجه لأهل الكتاب، فإن الذم الذي يتوجه لهذه الأمة التي هي أشرف وأعظم وأكمل وأعلم ونبيها أكرم وأعظم وكتابها أشرف الكتب وأعظم الكتب فإن الذم الذي يلحقهم حينما يفعلون فعل أولئك يكون أشد، والنصوص الواردة في النهي عن التنازع والتفرق كثيرة جدًا في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ ومع ذلك نجد من الأحوال التي تخالف ذلك وتضاده شيئًا كثيرًا، أمة نزل عليها نصوص كثيرة مستفيضة في هذا الباب تنهاهم تزجرهم عن الاختلاف، وتأمرهم بالاجتماع، ثم بعد ذلك يقع بينهم هذا الذي حذرهم الله منه.
ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة البقرة:113] هذا خبر يراد به التوبيخ والوعيد يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إذًا سيرجعون إليه ويفصل بينهم ويجازي كلاً بعمله، ودخول الفاء فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ باعتبار ما هو مفرع على تلك المقالات وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] وكذلك أيضًا قول الذين لا يعلمون: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فهذا الحكم مسبب عن هذه المقالات التي قالوها والدعاوى التي ادعوها.
وهنا: اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة الزمر:3] ما قال: فيما يختلفون فيه، قدَّم الضمير المتعلق بهم فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وذلك للاهتمام بجانب هؤلاء المختلفين الذين جعلوا دينهم على هذه الحال والمثابة فكانوا أوزاعًا، وجعلوا دينهم زبرًا تنازعوه بينهم، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "صار لكل طائفة من الكتب التي تعتمدها وترجع إليها وتنبذ ما سواها"[4] فهذا فعل هؤلاء من أهل الكتاب، وتقديم هنا الظرف "فيه" على متعلقه يَخْتَلِفُونَ للاهتمام به، وأيضًا لمراعاة فواصل الآيات.
هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- انظر: مجموع الفتاوى (15/ 284)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 353).
- المصدر السابق.
- انظر: تفسير الطبري (10/ 199)، تفسير ابن كثير (3/ 416).
- انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 148)، والفوائد لابن القيم (ص:104).