بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:118].
وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الذين لا علم عندهم، وهم أهل الجهالة من المشركين ونحوهم للنبي ﷺ على سبيل العناد والتعنت في طلب الآيات الدالة على صدقه: هلا يكلمنا الله مباشرة ليخبرنا أنك رسول، أو تأتينا معجزة من الله تدلنا على صدقك، وقد جاءهم من المعجزات ما فيه الغَناء والكفاية، وهذا القول قد سبقوا إليه، ليس هؤلاء أول من قال هذه المقالة ولا أول من طلب مثل هذه المطالب، فقد قالت الأمم قبلهم لرسلهم على سبيل التعجيز والعناد والمكابرة كهذا القول، وذلك لتشابه قلوب السابقين باللاحقين في الكفر والضلال والعناد والعتو على الله -تبارك وتعالى- والله -تبارك وتعالى- يبين الآيات التي توضح الحق وتجليه وتدفع مقالة أهل الباطل وتدحضها، وتسلي نبيه ﷺ وأهل الإيمان، لا جديد، فما يقال لكم قد قيل لمن كان قبلكم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هذه الآيات يبينها لقوم يوقنون، الذين صار عندهم الإيمان بمنزلة من الرسوخ، فاستقر في قلوبهم استقرارًا لا يقبل التشكيك، فذلك هو اليقين.
يؤخذ من هذه الآية: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة البقرة:118] فهناك علاقة بين القلوب والألسن، فإذا كانت القلوب فاسدة جرى الفساد على الألسن، وذلك في عموم الناس في الأولين والآخرين، فكما جرى على لسان الأولين وقع ذلك أيضًا للآخرين، فإذا تشابهت القلوب تشابهت الأقوال، تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم، وتشابهت أحوالهم، وتشابهت مطالبهم، وذلك أن الأقوال تابعة لما في القلوب.
ولهذا فإنك قد تعلم مقالة الرجل في الأمر يقع ولم يتكلم به، الأمور الواقعة والفتن التي تحصل في كل مكان وزمان، تعرف مقالات الناس فيها دون أن تسمع منهم، فمن كان صاحب سنة وعلم فإنك تعرف قوله في هذا ولم تسمع منه، ومن كان يتخبط أو من أهل العناد أو التلبيس أو نحو ذلك فإنك تعرف قوله ولم تسمع منه، وهذا أمر معلوم مشاهد.
وهنا: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ قدموا الضمير المتعلق بهم على لفظ الجلالة: يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ما قالوا: لولا الله يكلمنا لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ فهذا يدل على شدة المكابرة والاعتداد بالنفس.
ثم أيضًا طلب التكليم: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ يدل على أن هؤلاء المشركين كانوا يعلمون أن الله يتكلم كلامًا حقيقيًا يليق بجلاله وعظمته، فهذه قضية يدركها من لم تتلوث فطرته بالعلوم الكلامية، كما وقع لكثير من أهل البدع.
وفي هذه الآية التي ساقها الله للنبي ﷺ ولأمته: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [سورة البقرة:118] تسلية للنبي ﷺ لأن الإنسان من شأنه أن يتسلى بما جرى ووقع لغيره، فحينما يقال له: هذا الذي قيل لك، هذا الذي حصل معك، قد قيل لفلان ممن يأتسي به ويقتدي به ويعظمه ويجله، لا جديد هذه الجرأة ليست بِبِدْعٍ في أقوال هؤلاء ومطالبهم، بل وجه ذلك إلى من كان قبلك من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فهذا مما يخفف، بما أن هذه سنة جارية، وعادة مستمرة فيحصل بسبب ذلك تهوين، بخلاف ما إذا انفرد الإنسان بشيء لم يُسبق إلى مثله، فيكون قد انفرد بمصيبته وبليته، لكن إذا كان الناس على هذا المهيع، وأحوالهم على هذا جارية، فإن الإنسان يتسلى وقد يحتاج إلى شيء من التذكير، فيقال له: لست أول من يقع له ذلك، وكانت الخنساء تقول:
ولولا كثرة الباكين حولي | على إخوانهم لقتلت نفسي[1] |
فالإنسان يتسلى بما يقع للآخرين في عصره، أو في غير عصره، والنبي ﷺ أرشد من أصيب بمصيبة أن يذكر مصيبته فيه ﷺ[2] تخف عليه المصيبة.
وقال الله عن أهل النار: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [سورة الزخرف: 39] بمعنى أن الناس إذا وقعت المصيبة العامة في البلد فإن ذلك يهون على الناس، كثر الموت بسبب الحروب، أو بسبب أوبئة، أو غير ذلك، يخف عليهم الموت، ويسهل، لكن حينما ينفرد في البلد واحد ويموت، ينهال أهل البلد معزين له، وتتعاظم عليه بليته ومصيبته، حينما يقع مرض بإنسان مرض خطير قد يجزع ويخاف ويتعاظم ذلك في نفسه ولكنه لو كان هذا المرض عامًا في الناس فيوجد حوله المئات أو الآلاف فإن ذلك يسهُل عليه.
وكذلك أيضًا هؤلاء الذين يطلبون الآيات لو جاءتهم هذه الآيات لا يؤمنون، والله قد ذكر ذلك في مواضع من كتابه: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا [سورة الأنعام:111] يحشر عليهم كل شيء، يكلمهم الموتى يقومون من القبور ويتكلمون ويقولون: هذا حق، ونزلت عليهم الملائكة، ومع ذلك لم يؤمنوا، والله يقول: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ [سورة الإسراء:59] يعني المعجزات هذه التي يطلبونها ويقترحونها: إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:59] يعني آية مبصرة واضحة لا خفاء فيها فَظَلَمُوا بِهَا [سورة الإسراء:59].
فالله يرسل مع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من الآيات ما يدل على صدقهم وتقوم الحجة به على أقوامهم، وهذا من معاني اسمه: "المؤمن"، يظهر دلائل صدق هؤلاء الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ولكن هناك آيات يقترحها هؤلاء الذين خوطبوا بالرسالة، ووجهت إليهم الدعوة، يقترحونها من عند أنفسهم على سبيل العناد والعنت والمكابرة وليس بقصد الإيمان وبيان الحق، وإلا فكما قال النبي ﷺ: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر[3] آية كافية للدلالة على صدقه.
وذكر النبي ﷺ أنه أوتي هذا القرآن هذا الوحي يتلى إلى يوم القيامة، فهو آية باقية والتحدي قائم، ثم قال: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [سورة البقرة:119] فيقول: هؤلاء الذين يتعنتون، هؤلاء الذين يكابرون، هؤلاء الذين يجادلون، هؤلاء الذين يقترحون الآيات، يتمنعون من الإيمان لا شأن لك بهم، ولا تكترث بمطالبهم فالله سيتولى جزاءهم، وإنما عليك البلاغ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ الهدى الكامل الذي لا تعلق للباطل به بوجه من الوجوه، لا في إنزاله: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [سورة الشعراء:210، 211] نزل نزولًا متلبسًا بالحق وهو متضمن للحق ليس فيه شيء من الباطل.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [سورة الكهف:1] ليس فيه عوج لا في ألفاظه ولا في معانيه قَيِّمًا [سورة الكهف:2] هو في غاية الاستقامة في أحكامه وأوامره ونواهيه، وفي بلاغته وفصاحته وسلامته من كل عيب، ليس فيه تناقض، ولا تعارض، وليس فيه ما يستدرك، وهكذا.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سورة البقرة:119] فهذه مهمته ﷺ يبشر المتقين بما يسرهم، وينذر الكافرين المعرضين، ولذلك ينبغي أن يتخذ ذلك سبيلاً في دعوة الناس، تبشير لأهل الاستجابة والإيمان والخير والصلاح، يقال لهم: أبشروا وأملوا فإن الله -تبارك وتعالى- يجزيكم على هذه الأعمال التي تقومون بها، أنتم على الجادة، أنتم على خير، أنتم على حالة من الاستقامة والصلاح والإصلاح، الله هو الذي يجزيكم على أعمالكم ولن يضيع من ذلك شيئًا، تبشرهم بذلك فيكون ذلك حفزًا للنفوس ومقويًا لها من أجل العمل والاستمرار والدوام والثبات والزيادة في الخير، فالنفوس بحاجة إلى مثل هذا، فهذه النفوس تحتاج إلى تبشير.
أما من كان في حال من الإعراض فإنه لا يقال في حقه: أبشر أنت على خير، وإنما يحتاج إلى إنذار وتخويف، أن تذكر له قوارع القرآن ونصوص الوعيد؛ ليعظم الخوف في قلبه فيكون ذلك سوطًا يسوقه إلى طاعة الله ويزجره عن معصيته، وهذه هي الحكمة في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- أن يراعى حال الناس ويجمع بين ما يحمل على الخوف وما يحمل على الرجاء، الوعد والوعيد، وهذا كثير في القرآن، فيذكر نصوص الوعيد، ويذكر نصوص الوعد، يذكر صفات أهل الإيمان ويذكر صفات أضدادهم، يذكر حال أهل الجنة ويذكر حال أهل النار.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [سورة البقرة:119] هذا فيه تهديد ووعيد وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ؛ لأن الله هو الذي سيتولى أمرهم، ويعاقبهم ويجازيهم على أعمالهم، إن عليك إلا البلاغ، ليس هؤلاء موضعًا لمجازاتك ومحاسبتك، فالله هو خالقهم ومليكهم وهو الذي يرجعون إليه وحده دونما سواه، وهو الذي يتولى جزاءهم، فالبشر ليس عليهم شيء من ذلك، ولهذا كان النبي ﷺ يقول: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم[4] فيكفي أن تُبلغ الدعوة إلى الله وأن يعلم الناس الحق، ثم تترك نياتهم ومقاصدهم إلى الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- انظر: شرح ديوان الحماسة (ص:601)، وسمط اللآلي في شرح أمالي القالي (1/ 145)، والبديع في نقد الشعر (ص:56).
- أخرجه ابن ماجه، أبواب الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة، برقم (1599)، وقال محققوه: "حسن بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف موسى بن عبيدة: وهو الربذي"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7879).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، برقم (4981)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، برقم (152).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب u وخالد بن الوليد t إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم (4351)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1064).