الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[89] قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ..}
تاريخ النشر: ٠٣ / محرّم / ١٤٣٧
التحميل: 1181
مرات الإستماع: 2058

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:121] معنى الآية الذين أعطيناهم الكتاب من اليهود والنصارى يقرأون القراءة الصحيحة، ويتبعونه حق الاتباع، يؤمنون بما جاء فيه من الإيمان برسل الله ومنهم خاتم الرسل -عليه الصلاة والسلام- ولا يحرفون ولا يبدلون ما جاء في كتابهم، هؤلاء هم الذين يؤمنون بالنبي ﷺ وبما أنزل عليه، أما الذين بدلوا وحرفوا وغيروا وكتموا فهؤلاء هم كفار بالنبي ﷺ وبما أنزل عليه، ومن يكفر به فهذا هو الخاسر.

يؤخذ من هذه الآية: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هذا في سياق المدح، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- استقرأ ما يعبر به عن أهل الكتاب، وما يسمون أو يوصفون به، فجعل ذلك على أنواع: فـالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يقول: باستقراء القرآن أن مثل هذا يذكر عادة في سياق المدح الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ أما إذا قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] مثلاً، فهذه تكون في معرض الذم، وأما إذا قال: أوتوا الكتاب فهذا قد يتناول الفريقين، لكنه لا يفرد به الممدوحون دون غيرهم، يعني إذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [سورة النساء:47] قد يشمل أهل الإيمان منهم وأهل الكفر، لكنه لا يفرد به الأخيار، أهل الإيمان والتوحيد منهم، وإذا جاء: أَهْلِ الْكِتَابِ عم الفريقين، إذا جاء أَهْلِ الْكِتَابِ هذا ذكره في مفتاح السعادة[1] ومبناه كما ذكرت على الاستقراء، تتبع هذه الاستعمالات ونظر إلى السياق من حيث المدح والذم فخرج بهذه النتيجة.

وفي قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ إلى آخر ما ذكره: الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ به [سورة البقرة:121] هذه كأنها تلخيص لما سبق مما ذكره الله -تبارك وتعالى- من أحوالهم قبل ذلك، فالذين يتلون كتابهم غير مبدلين ولا كاتمين ولا محرفين ولا متخيرين، يتبعونه، يتلونه حق تلاوته، بالعمل بما فيه، فهؤلاء هم الذين يستحقون الثناء والمدح وهم الذين يقرؤونه ويتبعونه الاتباع الصحيح، فليست القضية بالدعاوى إنما القضية بالحقائق، فهؤلاء ينتسبون إلى أنبياء كرام، وينتسبون إلى كتب منزلة قد دخلها ما دخلها من التحريف والتبديل، فالعبرة ليست بالدعوى في الانتساب، أو بالدعاوى الكبيرة في الأماني نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ إنما العبرة بالحقائق، وما يكون عليه الإنسان، فهم على شر حال إلا من آمن منهم الإيمان الصحيح، وهؤلاء قلة.

وهنا أيضًا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ التلاوة تأتي بمعنى تلاوة الألفاظ، وتأتي بمعنى الاتباع والعمل بما فيه، والآيات الواردة في كتاب الله بالأمر بتلاوة أو بمدح من يتلوه حق تلاوته: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [سورة العنكبوت:45] يشمل الأمرين وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [سورة النمل:92] يشمل الأمرين، يعني تلاوة الألفاظ وكذلك العمل والاتباع.

فهنا: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [سورة البقرة:121] فلفظ "تلا" هذا الذي يكون عقب الشيء يتبعه، فهذا في تلاوة الألفاظ كأنه يتتبع الحروف والكلمات بتلاوته لها، وأما العمل والتطبيق والامتثال فهو يتبعه؛ لأن من يتبع شيئًا يكون تاليًا، فلان يتلو كذا، يعني يتبعه، فهذا العامل بالكتاب المطبق لتعالميه يكون تاليًا له، فالتلاوة تشمل هذا وهذا، وهذه التلاوة الكاملة، ليست التلاوة بإقامة حروفه، تقوم إقامة في غاية الدقة كأنما خلق هذا الإنسان لإقامة هذه الحروف، يقيمها أعظم من إقامة القداح، لشدة ضبطه وإتقانه بنطق الحرف، لكن إذا نظرت إلى السلوك والعمل رأيت بونًا شاسعًا.

وهذا تشاهده فيما يعرض أحيانًا من مقاطع في تلاوات عجيبة في دقتها وإقامة الحروف، وإذا نظرت إلى الصور والأشكال هذا أو من معه من القراء الذين اجتمعوا يتمايلون ويتضاحكون وهو يقرأ بقراءة تكسر الحجارة، يقرأ آيات تقطع الحجر، آيات تتحدث عن مشاهد القيامة، آيات تتحدث عن عظمة الله وتظن أن هذا القارئ ومن حضر في هذا المكان أنهم في غاية الخشوع والانكسار، أنهم في حالة انهيار من البكاء، لكن تفاجأ أنهم ينظرون إلى بعضهم ويضحكون؛ لأنه أقام هذه القراءة إقامة تامة متقنة على مقامة معينة، فهم يطربون ويتمايلون، وتسمع أحيانًا بعض الأصوات التي تحاكي القراءة كأنها نغمات، لا يملك الواحد منهم نفسه، ليس هؤلاء الذين يتلونه حق تلاوته، وإنما هؤلاء في حال لا تحمد، ويكون هذا فتنة لهم، ويكون نقصًا في حقهم لا يكون كمالاً.

فالإتقان في القراءة وجودة الأصوات أحيانًا يكون بلاءً على صاحبه، لكن لو اجتمع هذا مع العمل والامتثال والتطبيق وظهر في سمت الإنسان وهديه ودله، لرأيت هذا الذي يقرأ إذا رأيته عرفت أنه يخشى الله كما جاء في الأثر[2] رأيت أنه يخشى الله؛ لما يظهر عليه من أثر القرآن والخشوع والخضوع والإخبات والوقار، ولكنك ترى أحيانًا خلاف ذلك تمامًا.

فهذه قضية لا بد من العناية بها: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال ابن مسعود : "يحلون حلاله ويحرمون حرامه ويؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه"[3] وقد نقل هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[4] فهذه حق التلاوة، وليست مجرد الألفاظ.

يؤخذ من هذه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة البقرة:121] أن للإيمان علامة يعرف بها، وهذه العلامة هي: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أنهم يتلونه حق تلاوته، يا أهل القرآن إيمانكم بهذا القرآن هو اتباعكم له الاتباع الصحيح والعمل بما جاء فيه، أن يصطبغ الإنسان في ظاهره وباطنه بصبغة القرآن، أن يصبغه القرآن في قلبه، وفي هديه، وسمته ودله، وفي أعماله وأحواله وجوارحه: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [سورة البقرة:138] فلا بد أن يصطبغ بالقرآن من يعيش مع القرآن ويقرأ القرآن، ويكون من أهل القرآن ومن القراء لا بد أن يكون أكثر تميزًا من غيره من الناس، أما أن يكون أكثر شرودًا، وأن يكون أكثر ظلمة في وجهه وقلبه وعمله فهذا خلاف ما يتوقع وينتظر من مثله أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ مفهوم المخالفة أنهم إن لم يكونوا كذلك فإن إيمانهم به ليس على الوجه الصحيح.

والإيمان قول وعمل، ليس الإيمان فقط بالقرآن أن يؤمن أنه كلام الله، وأنه وحي أوحى الله به، بل لا بد من أمور أخرى في الإيمان، فإن العمل من جملة الإيمان، فالذي يقول: هذا كلام الله، ولكنه لا يعمل به يكون إيمانه به قد نقص، الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، فالعمل بالقرآن هو من جملة الإيمان به، ورب جاهل لا يحسن قراءة كثير من القرآن لكنه في حال من الإخبات والخوف والعمل والجد والاجتهاد في طاعة الله يَفضُل أولئك القراء الذين لم يكن لهم نصيب من القرآن إلا إقامة الحروف والألفاظ، وشاهدوا في هذه المواقع والمقاطع ترون عجبًا، ولست أعمم يوجد ما شاء الله، يوجد من إذا رأيتهم ذكرت الله، لكن أتحدث عن فئة يتعجب المؤمن حينما ينظر إلى هؤلاء كيف أوتوا هذه الأصوات؟! وكيف أوتوا هذا الإتقان ولكن الحال لا تسر أبدًا، ولا يظهر أثر للتدين على هؤلاء، أين أثر القرآن على هؤلاء وعلينا جميعًا أمة القرآن، أين الأثر نحن أمة القرآن؟!

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] هذه الأمة بطوائفها الثلاث ليس القراء فقط فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة فاطر:32] هذه الطوائف الثلاث أين أثر القرآن عليها؟!! ولكن المشتغلين بالقرآن من القراء والدارسين للتفسير وعلومه وما أشبه ذلك التبعة أعظم.

ثم هنا الإشارة إلى البعيد: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ الإشارة إلى البعيد هذه تدل على رفعة المنزلة، المرتبة، الشرف، فهؤلاء بمنزلة عالية، فهم درجات عند الله -تبارك وتعالى- الفقهاء درجات، وأهل القرآن درجات، القراء وكذلك أيضًا سائر أهل الإيمان هم درجات عند الله -تبارك وتعالى- يتفاضلون ويتفاوتون بحسب ما يقوم بقلوبهم وما يوجد من العمل والاتباع لهذا القرآن، ويقبُح بمن تعلم شيئًا من علوم الشريعة ألا يظهر ذلك على سمته وهديه ودله وعمله، أن يكون طلاب العلوم الشرعية يستوون مع غيرهم في هديهم وسمتهم وفي عملهم، فإذا جاء يصلي متأخرًا من غير عذر أن يكون هذا هو ديدنه فهذه مشكلة، هذا خلل يحتاج إلى مراجعة، أن يسبقه العامة إلى مقدم الصفوف فأين أثر القرآن؟ إذا كان طالب العلم الشرعي لا يوتر وبعض العامة يقوم ليلاً طويلاً ويبكي، إذا كان طالب العلم لا يخشع قلبه ولا تدمع عينه، والعامة لربما لا يتمالك الواحد منهم إذا سمع آية أو ذكرى أو موعظة فأين أثر العلم الشرعي على أصحابه؟!

كذلك أيضًا المعيار والمقياس وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:121] وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ الإشارة هنا إلى البعيد يمكن أن يكون لبعدهم عن الخير والرحمة والفلاح، والتركيب فَأُوْلَئِكَ هُمُ فجاء كما نذكر في مناسبات شتى بضمير الفصل "هم" بين طرفي الكلام، أولئك خاسرون، فدخل شيئان: ضمير الفصل بين طرفي الكلام "أولئك هم" لتقوية النسبة، ودخول "ال" على الخاسرين فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فهذا يشبه الحصر بدخول الضمير، ضمير الفصل "هم" ودخول "ال" يعني كأن هؤلاء قد حصلوا الوصف الكامل من الخسارة، - نسأل الله العافية - الْخَاسِرُونَ كأنه لا خاسر إلا هؤلاء، من هم الخاسرون حقيقة؟

هم هؤلاء: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ ومفهوم المخالفة أن من يؤمن به حق الإيمان فهذا هو الرابح، هذا هو المفلح.

إذًا الخسارة الحقيقية هي بالكفر بهذا القرآن، فمن كفر به ولو حصل المليارات، ولو حصل أعلى الشهادات، ولو حصل أعلى الرتب في الوظائف فإنه خاسر، خبرات طويلة، دورات تدريبية طويلة، ممارسات، نجاحات، إدارة شركات ضخمة هائلة عبر العالم، ثروات في كل مكان، هو خاسر بنص القرآن الْخَاسِرُونَ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ.

 فالنجاح الحقيقي ليس بجمع الحطام وإنما النجاح الحقيقي في عمارة دار لا تفنى ولا تبلى، دار أبدية سرمدية، أما هذه الدار التي كم سيبقى فيها مديرًا وكم سيبقى فيها آمرًا ناهيًا، عشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، ستين، سبعين سنة، مائة سنة يأمر وينهى، ثم ماذا؟

ثم التلاشي، ثم الزوال فتذهب تلك الأحلام، ويدرك أنه كان يسعى خلف سراب حينما أعرض عن الإيمان والحق والهدى الذي كان يجب عليه أن يتبعه، وأن يعمل به، وأن يجد ويجتهد في تحصيله، أعرض عن هذا بالكلية وصار مشتغلاً بما لم يؤمر بالاشتغال به، هذه هي الخسارة، هذا الذي قد قضى العمر في جمع الحطام، فجمع منه شيئًا كثيرًا يكفي الأجيال التي بعده متعاقبة هذا إذا كان في لحظة الحشرجة وخروج الروح يدرك عندها أنه ذهبت أيامه وذهب شبابه وذهب نشاطه وقوته وعمره في وهم كبير، مثل إنسان جالس مدة طويلة ذهب يومًا في نزهة وجلس كلما رأى حجرًا جميلاً أعجبه أخذه، وقضى يومه وهو في تعب يتتبع الأحجار في الصحراء أو يتتبع أزهارًا، يأخذ هذه وهذه وهذه مما أنبت الربيع، فلما اجتمع له من ذلك شيء كثير إلى آخر النهار وإذا بالذي بيده قد ذبُل فأدرك أنه قد تعنى وتعب وبذل جهدًا في شيء لا بقاء له، الإنسان يأخذ من الدنيا ويعمل، لكن لا ينسى أهم المهمات، فحديثنا عن هذا، ليس تعطيل الدنيا، وتعطيل التجارات والمكاسب، لا، أن تشغله هذه الدنيا، وأن يكون المعيار عندنا في النجاح هو في جمع هذا الحطام.

هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 104). 
  2.  شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1692). 
  3.  أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 218)، وتفسير ابن كثير (1/ 403). 
  4.  مجموع الفتاوى (7/ 168). 

مواد ذات صلة