الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[90] قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ..}
تاريخ النشر: ٠٥ / محرّم / ١٤٣٧
التحميل: 1227
مرات الإستماع: 2041

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى- في سياق ابتدأه بهذا الخطاب يخاطب به بني إسرائيل مذكرًا لهم بنعمه، فالله -تبارك وتعالى- في هذه السورة ذكَّرهم بالنعم وذكَّرهم بالنقم، فهو يذكِّرهم بآلائه من أجل أن يشكروه وأن يعبدوه وأن يستجيبوا لرسله -عليهم الصلاة والسلام- وأن يؤمنوا بمحمد ﷺ فصرف لهم الخطاب هذا التصريف بين ذكر عقوباته ومثلاته التي نزلت بهم، وبين ذكر النعم التي أعطاهم وحباهم بها.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:122] يا ذرية يعقوب يا أولاد يعقوب فإن إسرائيل هو يعقوب اذكروا نعمي الكثيرة عليكم، اذكروها بقلوبكم والهجوا بها بألسنتكم، اذكروها بالقلوب بالاستحضار استحضار النعمة، واذكروها بالألسن بالإقرار والاعتراف، واذكروها بحالكم بالاستجابة والانقياد والامتثال والتواضع لله -تبارك وتعالى- وأني فضلتكم على عالم زمانكم وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ بعضهم يقول: على الجم الغفير لكن ليسوا بأفضل من هذه الأمة؛ لأن الله قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] وهم هذه الأمة، فالله اصطفاها، وفضل هذه الأمة على سائر الأمم، والله يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] والنبي ﷺ يقول: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[1].

وذكر النبي ﷺ جملة من فضائل هذه الأمة، وما فضلها به، ومثَّل حالها مع من قبلها: برجل استأجر أجراء فعملوا له إلى منتصف النهار هذا بمنزلة اليهود ثم انقطعوا فقال لهم: أتموا عملكم واستوفوا أجركم فأبوا، ثم استأجر أجراء فعملوا إلى العصر، ثم انقطعوا، فقال: أتموا عملكم تستوفون أجركم، فأبوا، فجاءت هذه الأمة في آخر اليوم في آخر النهار بعد العصر إلى غروب الشمس فاستوفوا أجرهم[2].

فهذه الأمة آخر الأمم إلا أنها أفضل وأكرم على الله -تبارك وتعالى- والنصوص في هذا كثيرة.

فقوله -تبارك وتعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ الذي عليه الجمهور من المفسرين: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أي: على عالمي زمانكم، فضلوا على عالم زمانهم ولم يفضلوا على جميع الأمم بما فيهم أمة محمد ﷺ.

يؤخذ من الفوائد من هذه الآية: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ خاطبهم بهذا الخطاب مذكرًا لهم بأسلافهم، يا أولاد يعقوب، يعني يقول: أنتم من سلالة كريمة طيبة، فاللائق الاستجابة والامتثال والاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى- وهكذا من خاطب غيره في نصحه ودعوته، فينبغي أن يخاطبه بالخطاب الذي يكون أدعى إلى القبول، لا يصكه كما يقال: صك الجندل، وينشقه الخردل، ثم يريد منه بعد ذلك أن يستجيب، إذا نصحت الولد، إذا نصحت الزوجة، إذا نصحت الجار، إذا نصحت القريب، إذا نصحت أيًا من الناس فإنه ينبغي أن يُسلك الطريق الموصل إلى المطلوب، فالطريق الأليق والأرفق والأحسن فتقول له: مثلك لا يفعل كذا، مثلك ينبغي أن يكون على حال من الاستقامة، وما يليق بمقامك ومنزلك وحالك، فإذا كان فرعون هو أعتى الخلق، والله يقول لنبيين كريمين، يقول لكليمه موسى ولأخيه هارون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44] فإذا كان هذا مطلوب مع فرعون في الخطاب الدعوي فغير فرعون من باب أولى، ولذلك لما دخل أحدهم على الخليفة، وقال له: إني قائل لك ومغلظ عليك، فقال: "مهلاً، لست بأسوأ من فرعون، ولست بأفضل من موسى "[3].

يقول: إذا كان موسى وهو الكليم يقال له في خطاب أسوأ الخلق: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا إذًا الخطاب اللين مع الناس في دعوتهم إذا كان المقصود الاستجابة هذا هو اللائق، أما هذه المهاترات والمصارمات والشتم عبر وسائل التواصل فهذا لا يليق، والتنابز بالألقاب الذي نهى الله عنه: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [سورة الحجرات:11] ورمي الناس بالظنون الكاذبة، والقدح في نياتهم ومقاصدهم، هذا لا يمكن أن يحصل معه نفع ولا قبول ولا استجابة، ومن كان بهذه المثابة فإن القلوب ترفضه، والنفوس تنفر عنه بما جبلت عليه من كراهية الشدة والغلظة.

ومن كان ديدنه سوء الظن بالناس وحمل هؤلاء وما يقولون على أسوأ المحامل، فيحاج الناس إلى شيء من الرفق، لا سيما في مثل هذه الأوقات التي كثر فيها الشر والتفرق، فلا يصح مثل هذا النوع من المصارمة الذي لا يزيد الناس إلا تفرقًا ويجعل الكثيرين يرتمون بأحضان الشياطين لربما نفورًا أو نكاية بهذا الذي يحصل بينهم وبينه المنافرة، هؤلاء الناس هؤلاء الشباب هؤلاء يحتاجون إلى احتواء، المخطئ يُعلَّم، الجاهل يُعلَّم، المقصر يسدد، يكمل بعضهم بعضًا، أما بهذه الطريقة ثم نريد من الآخرين أن يستجيبوا، فإن هذا بعيد وهو خلاف الحكمة.

هذا خطاب ربنا -تبارك وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة البقرة:122] ويذكرهم بهذه النعم، وهذا أيضًا يؤخذ منه أن الرب -تبارك وتعالى- يمُن على عباده، وقد تكلمنا على اسمه: "المنان" في الكلام على الأسماء الحسنى[4].

وأن ذلك مذموم إذا صدر من الخلق، فالمخلوق لا يحسن به ولا يُجمل بحال من الأحوال أن يمن على غيره: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [سورة الحجرات:17] أما منته -تبارك وتعالى- على خلقه فهذه تقتضي عبوديتهم وطاعتهم واستجابتهم فهو صاحب الفضل والإحسان والإنعام، وهو الأول والآخر فمبدأ النعم منه، ومنتهى الأمور إليه، ونواصي الخلق تحت قبضته وتصرفه، فإذا من على عباده فذلك في موضعه، بخلاف منة المخلوق التي يكون فيها نوع من جرح المشاعر، والإيذاء، والألم، ونحو ذلك، فهنا الله -تبارك وتعالى- يمن عليهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:122].

ويؤخذ من هذه الآية أن التذكير بالنعم مطلب؛ لأن النفوس تغفل عن هذه النعم، وكثير من الناس لا يتحرق قلبه إلا حال الفقد، يعني لا يتذكر إلا إذا فقد النعمة، وإذا فقد نعمة ما، قد لا ترجع إليه مرة ثانية، قد لا ترجع إليه، نحن ننعم بنعم كثيرة جدًا، هذا الهواء البارد الآن، هذه الكهرباء لو انطفأت وبقي الناس في الحر ساعات لعرفوا قدر هذه النعمة، الماء البارد نعمة، وفي قوله -تبارك وتعالى: لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [سورة التكاثر:8] هذا السؤال النبي ﷺ أخبر أن هذا السؤال يرد، يسأل الإنسان عن الماء البارد: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد؟[5] في الحديث القدسي، يسأل الإنسان عن هذا: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [سورة التكاثر:8].

فإذا كان الماء البارد يسأل الإنسان عنه ويحاسب عليه: سقيناك الماء البارد، الله يقول له: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد؟ فماذا عن الطيبات من المطعوم؟! وألوان المشروبات؟! واللذات والفرش والمراكب؟! وأنواع النعم من الزوجات والأولاد الذين لو قيل له: الولد الواحد تعدل به الدنيا قال: لا، لو أعطي الدنيا على أن يبذل ولدًا واحدًا لم يبلغ السنة لقال: لا، وجاءه من غير ثمن.

وكذلك أيضًا ما أعطى الله الإنسان من هذه العافية وهذه الأعضاء، لو قيل له: هذه الكبد، هذه الكلى، هذا القلب، ليس بيننا وبين ذاك المبتلى الذي يعاني من سرطان في الكبد، أو تليف في الكبد، أو فشل كلوي، أو غير ذلك ليس بيننا إلا رحمة الله  لو شاء ربك كنت أيضًا مثلهم، فهذا يمكن الإنسان بلحظة بأقل من الثانية أن يقع له هذا المرض، ثم بعد ذلك الذي يقال له: هاه، كم تبذل حتى يرتفع هذا المرض؟ قال: أبذل الدنيا وما فيها، ثيابي التي علي أدفعها وأبذلها في سبيل أني أعود إلى عافيتي، ولكن مثل هذه القضايا لا يحصل فيها الفداء، فيتعرض العبد لألطاف الله فمن الناس من لا يفيق إلا إذا حرم وسلب هذه النعمة وهذه العافية، افتقر أو سلبت عافيته فمرض، أو صار إلى حال من الاكتئاب والألم والوحشة وضيق الصدر، وأظلمت الدنيا في عينه، ثم بعد ذلك منهم من يفيق ويبدأ يلجأ إلى الله، يذهب إلى الرقاة، وهنا وهناك، لكن كما قال الله : كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7] هذا الهواء الذي نتنفسه نعمة الهواء، لو كان الإنسان لا يستطيع التنفس إلا عبر جهاز يحمله إذا سافر ويتنقل معه أنبوب ينقِّله معه يصعب عليه الحركة والانتقال والذهاب وحضور المناسبات، وكثير من التصرفات يعيقه، فما بال هذه النعمة نغفل عنها؟!

قد يشكو الإنسان قلة ما في يده، لكن لو نظر إلى حاله لوجد أن عنده ما لا يجده الخلفاء، الخليفة كان يركب على الدابة، أحسن مراكب الخلافة البرذون، من منكم يركب البرذون ويتنقل عليه، يذهب إلى عمله ويحمل أهله على عربة ويسافر بهم إلى مكة على دابة؟ الخليفة هكذا كان يفعل، يركب معه أولاده ونساؤه في هذه المراكب الجمال والهوادج والبراذين، أضعف واحد اليوم يركب السيارات، الخليفة كان في أحسن حالاته أنه يقف أمامه اثنان كل واحد معه مهفة يحرك الهواء أمام وجهه، لكن هل هذا يوازي هذه النعمة التي نشاهدها، هذه النعم برودة الهواء عبر هذه الأجهزة، الخليفة ما وجد هذا.

الماء الذي كان يؤتى به للخليفة هل كان من المياه هذه المقطرة هذه المياه المعقمة، والطعام الذي يأكله هل بهذه الآلات وهذا التنظيف وهذا التعقيم، والدار التي يسكنها هي مثل هذه الدور التي محكمة أو أن الحشرات تعشعش فيها، ولو كانت دار الخليفة، وإذا جاء الظلام عم الظلام فأوقدت السرج، ورائحة السرج تملأ المكان، من منا بيته يوقد فيه السرج؟ ليس عنده كهرباء وليس عنده هذه الأفران، الخليفة يصنع له طعامه على الحطب، من منا يوقد حطبًا في بيته؛ ليصنع له الطعام.

فأقول: أقل الناس اليوم يجد ما لا يجده الخليفة في السابق، دعك من الكنوز والأموال والمدخرات، هذه لا ينتفع بها، القضية فيما يمس هذا الجسد.

شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يتحدث عما لا يمكن الاحتراز منه من النجاسات التي يعفا عنها، يقول: مثل بعر الفأر، فإن هذا يصعب الاحتراز منه في العجين[6] يعني في وقتهم بعر الفأر يختلط مع العجين أن هذا أمر يعفا عنه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه عادي عندهم، من الذي يستطيع أن يحترز منه، لكن اليوم من يأكل هذا الخبز وقد اختلط بمثل هذه الأشياء؟

ولذلك أقول: التذكير بالنعم مطلب، يحتاج أن يُذكَّر الناس دائمًا، ويذكر الإنسان نفسه بها، ويذكر أولاده، وإذا جلسوا على الموائد شربوا الماء البارد، يقال لهم: هذه نعمة، إذا جلسوا آمنين متفكهين في بيوتهم لا يخافون، يذكرون أن لهم إخوانًا يعيشون في خوف وقلق، يعيشون ينامون في أقبية، تتساقط عليهم قذائف، يعيشون في أماكن لاجئين قد تفرقوا، يعيشون تحت قذائف حمم تبيد الجم الغفير من الناس، أصوات، نحن الآن تجد الناس الأطفال لربما يخافون من أصوات هذه الألعاب التي لربما يسمعون أصواتها في أيام العيد، ويفزع الأطفال ويبكون، فيتذكر الإنسان أولاد المسلمين في بلاد الشام وغير بلاد الشام يسمعون أصوات القذائف والبراميل التي تُهلك الأخضر واليابس، العمارة بكاملها تسقط على من فيها بأدوارها، ويبحثون عنهم تحت الركام ويخرج الأطفال وقد اختلطوا.

النعم إن لم تذكر وتشكر وإلا فقد تسلب، يتذكر الإنسان دائمًا هذا، كونك في مأمن مع أهلك مع أولادك، كونك تجد قوت يومك، الله أعطاك عافية لا تتردد على هذه المستشفيات كل ثلاثة أيام أو أربعة غسيل للكلى أو غير ذلك، فهذه نعمة يحتاج الإنسان أن يشكر وهو قائم وهو قاعد يلهج بذلك الله وعود الأولاد على هذا، عود النساء، بطر النعمة مؤذن بزوالها وذهابها.

ثم أيضًا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كما قيل: على قدر المقام يكون الملام، إذا كان مثل هؤلاء بهذه المثابة أولاد يعقوب فإن كفر النعم إذا صدر عنهم فإنه يكون أقبح وأشد، فإذا كفر بالله وأعرض عنه وكفر بنعمته من عرفه فإن ذلك يكون أشد وأغلظ في القبح، وهذه الأمة أشرف من بني إسرائيل، ونبيها أشرف، وكتابها أشرف، ونعم الله عليها أكثر من نعمه على بني إسرائيل، فإذا وقع من هذه الأمة كفر نعم والإعراض عنها فإن ذلك يؤذن بسلب هذه النعم.

وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:122] الله فضل هذه الأمة أيضًا على بني إسرائيل وعلى غيرهم، أفضل أمة على الإطلاق هي هذه الأمة، والنبي ﷺ يقول: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم[7] فهذا اصطفاء، والله يخلق ما يشاء وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68] فاختار هذا الرسول ﷺ واختار هذه الأمة على سائر الأمم.

فينبغي أن نكون على قدر هذا الاختيار والتشريف، وذلك يقتضي أن الأمة ترتفع، وتمتثل، وتكون على حال لائقة بأمة تشهد على الأمم، الأمة الوسط فتكون بأخلاقها قبل مقالها داعية إلى الله -تبارك وتعالى.

إن الكثيرين لم يعرفوا قدرهم من أبناء هذه الأمة، فتشبهوا بأعدائهم فأصبح في ظاهره لا تجد فرقًا بينه وبين من يعبد غير الله، أو يتبع غير النبي ﷺ في الظاهر، يلتبس عليك هذا بالبوذي والنصراني وبغيره، في هيئته الظاهرة، وأما في الباطن فتجد من الموبقات والانحرافات، وتجد من قبيح القول وفاحشه ما لا يصلح لأمة الاجتباء والاصطفاء، فمثل هؤلاء إذا سافروا إذا رآهم الناس، إذا جاء من يفد على هذه البلاد من غير المسلمين، يعني على بلاد المسلمين سواءً كانت هذه البلاد أو غيرها، ورأوا أحوال المسلمين فقد يكون ذلك صدًّا عن سبيل الله، يصدونهم بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم؛ لبعدهم عن التمسك بالدين، يعني يرون فيهم من الفجور ما لا يرونه لربما في أبنائهم أو في أنفسهم، فإذا سافر الإنسان إلى بلاد أخرى فينبغي أن يتذكر أنه يحمل رسالة، وأنه من خير أمة أخرجت للناس، فيكون في أحواله وأقواله وأفعاله على حال من الاعتدال والاستقامة، فيكون قدوة صالحة لا يكون فتنة لغيره: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الممتحنة:5] و"فتنة" مصدر يعني فاتنين، وكلام المفسرين في ذلك والأقوال التي تحتملها على أن "فتنة" هنا بمعنى فاتن اسم فاعل، يعني لا تجعلنا فاتنين بسوء فعالنا وتصرفاتنا، فيفتن الناس ويقولون: إن هؤلاء ليسوا على حق؛ فيتركون الدين، أو تسلط هؤلاء علينا فيستذلونا ويفتنون ويقولون: لو كانوا على حق لما كانوا تحتنا مستعبدين.

وكذلك: لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لا تجعلنا مفتونين، تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا، وكل هذه المعاني صحيحة، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

فالمقصود أن استحضار النعم والتذكير بها: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:122] هذا مما أمر الله -تبارك وتعالى- به، والله يقول لهذه الأمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [سورة الأحزاب:9].

ويقول: إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [سورة آل عمران:103].

ويقول: إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ [سورة الأعراف:86] هذا في من قبل هذه الأمة وفي هذه الأمة، فهذا التذكير بالنعم جارٍ في الأمم قاطبة.

وأسأل الله أن ينفعنا، وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، برقم (876)، وبرقم (896)، كتاب الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (855).
  2. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، برقم (557)، وبرقم (2271)، في كتاب الإجارة، باب الإجارة من العصر إلى الليل. 
  3.  انظر: تفسير السمرقندي = (بحر العلوم) (2/ 400). 
  4.  على الرابط: https: / / khaledalsabt.com/ cnt/ slasel/ 5219. 
  5. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب ومن سورة ألهاكم التكاثر، برقم (3358)، وقال: "هذا حديث غريب"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2022). 
  6.  انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 314). 
  7.  أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2276). 

مواد ذات صلة