بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
كنا نتحدث في الليلة الماضية عن قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125].
وكان آخر ما تحدثنا عنه هو ما يتعلق بالترتيب بين هذه المذكورات، وكذلك التطهير، تطهير البيت الحرام للطائفين والعاكفين والركع السجود.
بقي أن يُقال: تأمل ما ذُكر في هذه الآية من جمع الطائفين والعاكفين جمع السلامة، الطائفين جمع طائف، والعاكفين، فهذا لكونه أقرب إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون ويعتكفون، يُجددون الطواف فهنا هؤلاء أعلق بالبيت كما سبق، فالطواف خاص بالبيت الحرام، والاعتكاف خاص بالمساجد، وأما الصلاة التي أشار إليها بالرُكع السجود فإنها لا تختص بالمسجد الحرام، كما لا تختص بالمساجد، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا[1] ولذلك لما يُجمعا جمع سلامة فقال: وَالرُّكَّعِ لم يقل والراكعين الساجدين، كما قال في الطائفين والعاكفين، قال: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.
ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] كيف خص الركوع والسجود بالذكر من بين سائر أحوال المصلين؟ الصلاة فيها قيام، وفيها جلوس، وفيها ركوع وسجود ورفع وخفض، فخص الركوع والسجود بالذكر؛ لأن هذه الأحوال هي الأحوال التي تكون أدل على الخضوع، ركوع، حينما ينحني الإنسان لله لكن نحن حينما ألفنا هذا لم نعد نستشعر، لكن لو رأيت إنسانًا يقف أمام إنسان وقد ركع على هيئة الراكع فهذا يُحرك النفس، ويهز الوجدان، لو رأيت إنسانًا يقف أمام صنم ويركع أمامه فهذا أيضًا يُحرك النفس، كيف يُذلل نفسه بهذا الانحناء؟ لو ركع لك إنسان جاهل لاقشعر جلدك، أليس كذلك؟ لو جاء إنسان وركع لك، فهذا شيء هائل، لو رأيت إنسانًا يسجد لإنسان فهذا أشد.
فحينما يضع الإنسان جبهته على الأرض خضوعًا لله وتذللاً يضع أشرف شيء، وأعلى شيء في جسده ليكون أخفض شيء على الأرض، الموضع الذي تطأه الأقدام، فهذا غاية التذلل.
ولذلك في هذين الموضعين في الركوع "سبحان ربي العظيم" تعظيم في الانحناء، وفي السجود لما وصل إلى القاع قال: "سبحان ربي الأعلى"، فالعبد قد وضع جبهته في السُفل ويُردد سبحان ربي الأعلى، يقول: يا رب أنا قد وضعت جبهتي على الأرض، وأنت الأعلى أُنزهك في عليائك، فهذه أخص أوصاف الصلاة، وأدل أحوال الصلاة وهيئات الصلاة على الخضوع.
هذا بالإضافة إلى فائدة أخرى وهي: أن التعبير عن العبادة بجزء منها يدل على رُكنيته، وأنه جُزء لا يتجزأ، يعني: أن هذا ليس بشيء مستحب.
مثلاً يُعبر عن الإنسان بالرقبة فَكُّ رَقَبَةٍ [سورة البلد:13] الإنسان المملوك فَكُّ رَقَبَةٍ [سورة البلد:13] لماذا لم يُعبر عنه باليد؟ الرقبة جزء من الإنسان لماذا لم يقل يد أو رجل؟ لأن اليد ممكن أن تنفصل ويبقى الإنسان حيًّا، لكن الرقبة لا تنفصل إلا بانفصال الحياة، مفارقة الروح الجسد، فعُبر عن الإنسان بجزء لا ينفك، ولا ينفصل عنه إلا بمُفارقة الروح.
وكذلك: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78] قرآن الفجر يعني القراءة في صلاة الفجر الفريضة، عُبر عن صلاة الفجر بالقراءة فيها؛ لأن القراءة رُكن أقل هذه القراءة الذي يُجزئ، وهو المُتعين في الرُكنية قراءة الفاتحة وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78] فمعلوم أن هذا يُقصد به صلاة الفرض وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ليس القراءة خارج الصلاة لو أن أحدًا يقرأ في وقت الفجر؛ فإنه ليس بمقصود في هذه الآية قطعًا باتفاق أهل العلم، وإنما قرآن الفجر الذي يُقرأ في الصلاة تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار، ولذلك شُرع في صلاة الفجر إطالة القراءة تطويل في القراءة.
ثم تأمل أيضًا العطف بين الركوع وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ هنا عطف الرُكع السجود على ما قبله، لكنه لم يعطف السجود على الرُكع، قال: وَالرُّكَّعِ لم يقل والسجود يعني السُجد الساجدين وإنما قال: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ لكن في الطائفين والعاكفين جاء بحرف العطف أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ لم يقل والسجود السُجد، يمكن أن يُقال -والله أعلم: باعتبار أن الطواف والاعتكاف عبادتان لا تلازم بينهما، وهذه عبادة مستقلة تمامًا، وهذه عبادة مستقلة تماما، فعطفها عليها بهذا الاعتبار، يمكن للإنسان أن يعتكف بهذا المسجد، لكن لا يطوف إلا بالكعبة، ويمكن أن يطوف ولا يعتكف، ويمكن أن يعتكف في الحرم ولا يطوف، فعطف هذا على هذا فهي عبادات مستقلة، كذلك الصلاة والرُكع السجود، الصلاة غير الاعتكاف، لكن في الرُكع السجود لم يأت بحرف العطف؛ لأنهما هيئتان تجتمعان في شيء واحد، عبادة واحدة وهي الصلاة، والقُرب بينهما ظاهر، يركع ويسجد ليس بينهما إلا لحظات بخلاف الطواف والاعتكاف فبينهما مُباينة، هذا ما يتعلق بهذه الآية.
ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126].
ذكرنا في مُناسبات سابقة أن "إذ" هذه تكون مسبوقة بفعل مُقدر، وهو واذكر إذ قال، وهذا يدل على أهمية هذا الأمر الذي يُذكر بعدها، ذكره الله لنبيه ﷺ ذكره الله في أشرف كتاب، لأشرف أمة، واذكر إذ قال إبراهيم حينما دعا رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] يعني: مكة، بلدًا آمنًا من الخوف وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [سورة البقرة:126] من أنواع الثمرات، وطلب وسأل أن يخص بهذا الرزق قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] يعني: وارزق أهله ثم جاء بالبدل قال: مَنْ آمَنَ يعني: كأنه قال: وارزق من آمن منهم بالله واليوم الآخر، كما قال الله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ كل الناس، ثم قال: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] فهذا بدل بعض من كل، فكذلك هنا وَارْزُقْ أَهْلَهُ هذا يشمل كل أهل مكة أهل الحرم وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ثم قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فهذا بدل بعض من كل، يعني: وارزق من آمن منهم فقط من الثمرات.
فالله -تبارك وتعالى- قال له: ومن كفر منهم فارزقه في الدنيا قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126] أُلجأه إلى عذاب النار وبئس المرجع والمصير والمُقام.
يؤخذ من هذه الآية: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] هذا الدعاء من إبراهيم اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ قدم الأمن على الرزق؛ لأن الأمن هو الأهم فإذا تحقق الأمن للناس قامت معايشهم ومصالحهم وأسواقهم، وراجت تجاراتهم، ثم بعد ذلك هم يهنئون ويطمئنون بما يطعمون من الطعام والشراب، أما إذا حصل الخوف فلا ترى إلا أسواقًا موصدة، وتجارات كاسدة، ونفوسًا خائفة وجلة لا تهنأ بالطعام.
الإنسان إذا كان في حال من الخوف فإن نفسه تكون في حال من الاستفزاز المُستمر تكون مشدودة، وكما يقولون بأن القلب يبعث الدماء بقوة في أحوال للإنسان كالخوف والغضب، في حال الخوف القلب يضطرب ونبضه يزداد ويقوى وتكون أحوال الإنسان وأعضاؤه وجوارحه مُهيأة للانطلاق للهرب إذا خاف، يريد أن يفر إذا سمع فزعًا، سمع خوفًا، قيل له: جاء العدو فتجد أن هذا الإنسان يبدأ الدم يضخ فيه بقوة ليكون ذلك أدعى لانفلاته وانطلاقه.
فحينما يتفرق هذا الدم في هذه الأعضاء في اليدين والرجلين ونحو ذلك، هنا لا مجال للتفكير بصورة سليمة مُستقرة، فيبقى الناس في حال الخوف، تكاد الأذهان تُشل، لا يُفكر الإنسان إلا بشيء واحد، كيف يحصل له النجاة والخلاص؟ ليس هناك تفكير في الآخرين، وإذا اشتد الخوف كما في الآخرة يوم القيامة هنا لا أحد يشتغل بأحد لا الوالد بالولد، ولا الولد بالوالد، فكل واحد يفر من الآخر، والأبصار شاخصة.
وهكذا في أحوال الهول الشديد، فالله قال في يوم الأحزاب مصورًا الحال التي بلغت بأهل الإيمان حينما حوصروا: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [سورة الأحزاب:10] تبلغ الحناجر، بعض العلماء يقولون: معنى هذا أن الرئة تنتفخ في حال الخوف، ولا أدري هل هي من الناحية الطبية تنتفخ فعلاً، أو أن هذا انتفاخ يكون في القولون مثلاً؟
يقولون: تنتفخ الرئة فيرتفع القلب إلى أعلى، فيشعر الإنسان كأنه سيخرج قلبه.
وبعض أهل العلم يقولون: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [سورة الأحزاب:10] بمعنى أن ذلك من قبيل التصوير لشدة الخوف، يعني: كأن القلب يكاد يخرج من حنجرة الإنسان لشدة الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [سورة الأحزاب:10].
وفي الآية الأخرى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [سورة يوسف:110] يعني: بلغت الشدة الغاية حتى ترد هذه الخواطر في ما أظنه أقرب من أقوال المفسرين في معنى الآية ومحملها اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ على هذه القراءة المتواترة وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [سورة يوسف:110] القراءة الأخرى (كذّبوا) واضحة لا إشكال فيها، لكن كُذِبُوا بمعنى تخلف النصر الذي وعدوا به، هذا كيف يقع من الرسل؟
فالجواب عنه: ما ذكره بعض أهل العلم أن هذا من قبيل الخواطر والواردات في أوقات الشدة العصيبة المُستحكمة فيدفعها المؤمن فلا تضره، تكون خطرات لا تضر حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [سورة يوسف:110] إذا كان هؤلاء بهذه المثابة الرُسل ترد عليهم هذه الخواطر، معنى ذلك أن عقل الإنسان في أحوال الخوف الشديد يكاد يتعطل من التفكير، فتتعطل العلوم والمعارف والنهضة والتجارة، تتعطل ضرورات الناس، لا يستطيعون يذهبون إلى المساجد، وانظروا إلى بلاد من حولنا تأتي الجمعة والجمعة ولا يصلون؛ لأنهم يتوقعون حينما يدخلون المسجد يصلون يجتمعون أن يُستهدف هذا المسجد من أي فئة كانت، الخوف من كل مكان، تجتمع الشياطين من كل نواحي الأرض فلا يدري هؤلاء من الذي قتلهم، من الذي جنى هذه الجناية، كل جهة من هذه الجهات يتوقع أن تفعل مثل هذا، فتارة يُرمى هذا على تلك الطائفة، وتارة يُرمى على طائفة أخرى، وتارة يُرمى على طائفة أخرى، وكل ذلك وارد، فيبقى الناس في حال من الهلع فتتعطل الصلوات في المساجد.
وكذلك ما يتعلق بالنفوس، القتل، كثرة الهرج، كما أخبر النبي ﷺ أن العبادة في أيام الهرج لها ما لها من الفضل والمزية، فقال ﷺ: العبادة في الهرج كهجرة إلي[2].
وكذلك أيضًا من الضرورات الخمس: الأعراض، العِرض تخرج البنت أو الولد ولا يرجع، إحصاءات أرقام كبيرة جدًا في الخطف، لا يرجع للناس أولادهم، المدارس الجامعات، يُخطف الولد من عند بيت أهله بل قد يدخلون بيت الأهل ويخطفون البنت أو البنات، ولا يستطيع أحد أن يدفع عن عرضه، عصابات إجرام، فينتشر الفساد العريض، ولا يأمن الناس على أنفسهم وأعراضهم فضلاً عن أموالهم، فإن الأموال تُستباح والسطو والنهب على التجارات والمتاجر والأسواق، وأنتم ترون كثير من النفوس السبوعية لو حصل لها أدنى فرصة في اختلال الأمن لرأيت النهب كيف يكون للمتاجر والمحلات ولعاثوا فيها فسادًا، نسأل الله العافية. ترون في بعض المقاطع مثل هذه الأشياء.
فهنا قال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] أرزق أهله من الثمرات، كما قال الله -تبارك وتعالى- مُمتنًا على أهل مكة، على قريش لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [سورة قريش:1- 4].
وقوله -تبارك وتعالى: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ "مِن" هذه للتبعيض؛ لأنهم لم يرزقوا كل الثمرات التي على وجه الأرض.
وإذا كان كذلك دعوة إبراهيم وهي إلى هذا القدر مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فإن الله قد حقق ذلك، قال عن الحرم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57] تُجبى من أقاصي الدنيا إلى هذا الوادي الذي لا زرع فيه، وصار هذا الوادي هو أعظم مكان في الدنيا من ناحية الأمن.
وقد ذكرت في الليلة الماضية ما يتعلق بهذا الجانب، وأنه لا يجوز لأحد أن يُفرط فيه، أو أن يتسبب في إخلال بأمنه، أو أن يخوف أهله، أو بأن يعتدي عليهم بأي نوع من أنواع العدوان، أو أن ينشر ما يُثير في نفوس الناس الخوف ليصور أن هذا البلد غير آمن كما ذكرت في هذه المقاطع التي تصور وتُنشر، منها ما يكون بحُسن نية، ومنها ما يكون بسوء نية، منها ما يكون من باب التسلية لربما، ومنها ما يكون لغير ذلك، كل هذا لا يجوز.
يعني: حينما يصور للناس الحرم سقطت رافعة دماء أموات، والناس مقبلون على الموسم على الحج، ما هي الحكمة والمصلحة في نشر هذا وإذاعة هذه الصور للناس؟
الرسالة التي تصل إلى المشاهدين أن هذا مكان غير آمن، وفي توقيت دقيق جدًا وحساس، الناس جاءوا للحج، ومنهم من يتهيأ للمجيء فتُنشر هذه المقاطع، هذا لا يجوز، تصوير هذه الأماكن على أنها مخوفة غير آمنة هذا خلاف مقصود الشارع.
وبعض هذا كذب محض، أحد هذه المقاطع يصور الناس يتسارعون في المسجد النبوي يجرون ثم يُقال كذبًا بأنهم رأوا رجلاً توهموا أنه يحمل حزامًا ناسفًا فانطلقوا، هذه الرسالة ما مفادها؟ أن يتوقع الشر والمكروه في داخل المسجد النبوي، أو المسجد الحرام، بينما الصورة منذ رأيت أولها عرفت أن هذا كذب وذلك أنه معروف أن المسجد كان النساء يخرجن إلى الروضة في وقتين في اليوم في الصباح وفي المساء، فإذا فُتح لهن ووضع الحاجز دون الرجال كان الذين يتسارعون هم النساء منذ زمن من سنين يجرين جريًا، ثم بعد ذلك لما كثُر الناس والوافدون على المسجد النبوي، وجاء كثير من الأعاجم وغيرهم، فصار إذا فُتح لهم وأُغلق على النساء تسارعوا إلى الروضة جريًا، فجاء هذا وصورهم، وقال إنهم فروا هربًا من أمر مخوف وهذا كذب، إنما كان هذا التسارع ليستبقوا إلى الروضة، فهذا الذي يكذب وهو يعلم أنه يكذب، وينشر هذه الصورة كيف تكون حاله؟
على كل حال، بقي في الآية من الفوائد ما أذكره إن شاء الله تعالى في الليلة الآتية.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، رقم: (438)، ومسلم، باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم: (521).
- أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج، رقم: (2948).