بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ما زال الحديث -أيها الأحبة- متصلاً بهذه الدعوات التي دعا بها خليل الرحمن إبراهيم لما بنى الكعبة.
فكان من دعائه : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:129].
ولما دعا لنفسه وللذرية، قال: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:127، 128].
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] ابعث في هذه الأمة التي هي من ولد إسماعيل الذي وضعه إبراهيم مع أمه في مكة بوادٍ غير ذي زرع، عند بيت الله المحرم.
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة:129] من ذرية إسماعيل يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ [سورة البقرة:129] القرآن والحكمة، وهي السنة، ويُطهرهم من الشرك، وسوء الأخلاق والرذائل إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي لا يمتنع عليه شيء الْحَكِيمُ الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.
فيُؤخذ من هذه الآية -أيها الأحبة- الدعاء بهذا الاسم الكريم (ربنا) وما يدل عليه، وقد مضى التنبيه على ذلك، هذا الاسم الكريم (الرب) من معاني الربوبية التربيب والتربية، وإصلاح حال المربوبين، ومن معانيها: العطاء والنفع والدفع، وإجابة الدعوات، وإعطاء السائلين؛ ولذلك كان دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في القرآن (ربنا) فهنا يقول: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:129].
فلاحظ هنا هذا الدعاء، وما خُتم به من هذين الاسمين الكريمين الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وإنما يُذكر مع الدعاء ما يُناسبه ويُلائمه من أسماء الله الحُسنى، فبعث الرسول من هذه الأمة التي يُعلمهم التنزيل، ويتلو عليهم الآيات، ويُعلمهم السنة التي تشرحها، ويُزكي نفوسهم بالإيمان، والعمل الصالح، والتخلي عن أضداد ذلك، مثل هذا يمكن أن يُقال -والله أعلم- باعتبار أن كل ما يأتي به الرسول -عليه الصلاة والسلام- فهو حكمة إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:129] وكذلك من تمسك بهذا الذي بُعث به الرسول فإنه يكون عزيزًا، فإن الله يُعز بهذا الدين والقرآن أقوامًا، ويضع به آخرين، والله يقول: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون:8] فمن تمسك بهذا الدين فهو عزيز.
وهذا التعقيب بهذين الاسمين الكريمين يمكن أن يوجه بأن اختيار الرسول من هذه الأمة حيث يُزكيهم ويُعلمهم الكتاب والحكمة يتفق مع حكمته وتقدست أسماؤه، حيث إن الله -تبارك وتعالى- لا يترك خلقه هملاً، وإنما يبعث في كل أمة رسولاً؛ ليُقيم الحجة عليهم، ويحصل بذلك هداية من شاء الله هدايته، ويظهر في ذلك من حكمته ما كان مُستترًا عن نظر الكثيرين.
وكذلك أيضًا فإن بعث رسول في هؤلاء، وما زالت تلك الناحية في حال من الإقفار ليس فيها أحد، سوى هذا المولود مع أمه، فمن الذي يُحييها؟ ومن الذي يُحيي هذه الأرض في هذا الوادي القفر الذي لا زرع فيه، ولا ماء، ولا عِمران؟ ومن الذي يحوله إلى بلد يعج بقاطنيه، ومن يفدون عليه؟ بلد قفر، فلو أراد أعظم أهل الدنيا من أهل المُلك والمال أن يحول بلدًا لا يوجد فيها في نظر الناظرين شيء من مقومات الحياة جبال ضيقة بوادٍ، وكما تشهدون في الصور: أن الكعبة في موضع في غاية الغور، وليست على مكان مرتفع، ولا في مكان فسيح، وإنما في وادٍ لا زرع فيه، وهي جبال سوداء، فليست في براح من الأرض ومُنبسط، وليست في مروج وأنهار، وإنما بوادٍ غير ذي زرع، فلو أراد أعظم أهل الدنيا أن يُقيم بلدًا في تلك الناحية لأنفق الأموال الطائلة؛ ولما تحقق له مُراده، ولكن من الذي جعلها بهذه المثابة يفد إليها الناس من أقطار الدنيا، ويتشوقون إلى ذلك، ويبذلون فيه النفائس والمُهج، فهذا لا بد فيه من عزيز يتحقق مراده، ولا مُمانع له.
ثم أيضًا يُؤخذ من هذه الآية: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة:129] أن الهم الذي كان يحمله إبراهيم وذلك مما يتصل بهداية الخلق والذرية رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة:129] فهذه دعوته لذريته، فلم يقتصر بالدعاء لنفسه، أو الدعاء لولده وزوجه، وإنما دعا لذرية هؤلاء.
وكذلك أيضًا انظروا إلى هذه الدعوة رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [سورة البقرة:129] متى تحققت؟ هل تحققت بعد يوم أو بعد ثلاثة أيام، أو بعد أسبوع، أو بعد شهر، أو بعد ستة أشهر، أو بعد ست سنوات؟ بعد آلاف السنين، ببعث محمد ﷺ فهو الرسول الوحيد من ولد إسماعيل؛ ولهذا قال النبي ﷺ: أنا دعوة إبراهيم [1] حيث دعا بهذه الدعوة فتحققت، لكن بعد هذه المدة الطويلة، وهذا بالنسبة لله وقت قصير، فحساب الأيام والسنوات عند الله ليس كحسابنا وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [سورة الحج:47].
فنحن نستطيل الأيام والليالي، وربما ييأس الإنسان ويقول: دعوتُ فلم يُستجب لي، والنبي ﷺ أخبر أن الداعي إذا دعا إما أن يُعجل له، وإما أن يُدخر في الآخرة، وإما أن يُصرف عنه من الشر مثل ذلك، إذًا لا مجال لقول قائل: دعوت فلم يستجب لي، والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186] فهو يُجيب دعوة الداعين، وهؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مستجابو الدعوة، فأجاب الله دعوته، لكن بعد كم من السنين، بل آلاف السنين، فكما بين إبراهيم ومحمد ﷺ ؟ مدة طويلة جدًا، فمثل هذا يبعث المؤمن على التفاؤل، ونبذ اليأس والقنوط، فإذا دعا الله -تبارك وتعالى- لنفسه أو لأمته، فإنه لا يقول: دعونا فلم يُستجب لنا.
فهذا حال الأمة، كلأ مُباح تُداس كرامتها من قِبل أرذل الخلق، من اليهود والباطنية، وأشباه هؤلاء الذين هم أرذل الناس، فمثل هذا وإن بقي سنوات، وعشرات السنوات، فهي مدة يسيرة، وإذا أردت أن تعرف أنها مدة يسيرة، فانظر إلى صفحات القرون والتاريخ الغابر، منذ بعث الله محمدًا ﷺ وما وقع من الأحداث العِظام، كأنها أحلام، وهكذا ما يقع في مثل هذه الأوقات، ستطوى صفحاتها، ويُبدل الله من حال إلى حال.
أيضًا يُؤخذ من هذه الآية ما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله: أنّ هذه الآية الوحيدة التي جمعت بين حفظ القرآن (حفظ الألفاظ) والفهم[2] يعني: التلاوة والفهم، والعمل به يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [سورة البقرة:129] لفظًا وحفظًا وتحفيظًا، فكان النبي ﷺ يحفظها، فلم يكن يقرأ في كتاب سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [سورة الأعلى:6] ويقرأ عليهم فيحفظون وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] هذا المعنى، وبيان المعاني والأحكام بسيرته العملية، وبقوله -عليه الصلاة والسلام- ويُزكيهم بالتربية بالأعمال الصالحة، والتنزه عن أضدادها من الرذائل، فصارت ثلاثة أشياء متدرجة: الحفظ، والتلاوة، والتحفيظ، والثاني: البيان للمعاني، والفقه في الدين، والثالث: التزكية والتربية العملية، وبهذا يحصل الكمال، لا بد من هذه الأمور الثلاثة.
فالتلاوة وحدها لا تكفي، فلا بد من التعليم وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فالفقه في الدين، وفهم معاني القرآن إنما يُتلقى ذلك عن رسول الله ﷺ وعمن أخذوا عنه، وليس لأحد أن يقول: نحن رجال، وهم رجال، ونُريد أن نُفسر القرآن بحسب مُعطيات عصرنا، وبحسب أعرافنا وأفهامنا، فلكل عصر رجاله، فهذا الكلام مُغالطة كبيرة، ولا يمكن أن يتوصل معها إلى هدى، وإنما هو الضلال المُبين، والخروج من رِبقة الدين، فهذه هي النتيجة، فلو أُطلق العنان لكل أحد أن يتكلم في معاني القرآن، بعيدًا عن سنة رسول الله ﷺ وفهم السلف الصالح، فلا تسأل عن ضلالة هؤلاء.
ويدل قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة:129] أنه لا بد من التعليم، فالتلاوة والحفظ وحدها لا تكفي، ويُؤخذ العلم عن أهله، والأمر الثالث: لا بد من التربية، فليست القضية بمعلومات يجمعها الإنسان، وإنما يُقصد بذلك ما بعده من العمل، والامتثال، والتطبيق، والتزكية للنفوس، فهذا هو المطلوب وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79] فمن معاني الرباني: الفقيه الذي يُعلم الناس صغار العلم قبل كباره، والذي يُزكي نفوسهم، والذي يرجعون إليه فيما نابهم، ويسوسهم بما يحصل به تربية نفوسهم وأرواحهم، وما إلى ذلك، فلا بد من العمل والتزكية، وإلا فقد يجمع الإنسان العلم الكثير، ويكون وبالاً عليه.
ثم أيضًا تأمّل هذا الدعاء، فلم يقل: يعلمهم أمور الدنيا، وسُبل المكاسب والمعايش، وكيف يكسبون الأموال؟ وكيف يدخرونها ويتكثرون منها؟ وكيف تكون أجسامهم في حال من النشاط والتألق وغير ذلك؟ ولم يقل: يُعلمهم صنوف المطعومات والمشروبات، وما إلى ذلك، فمهمة الرسل وأتباعهم هي دلالة الناس على الله، والطريق الموصل إليه، لا تعليم الطهي، ولا تعليم سُبل الكسب المادي، ولا ما يتصل بهذه الأجساد، وكيف نُنميها؟ وكيف نجعلها في حالٍ من النظارة والجمال والتألق؟ فهذا ليس من مهمات الرسل وأتباعهم.
ولذلك من الخطأ أن يتحول الدعاة إلى الله إلى مُدربين، يتحدثون عن مثل هذه القضايا، كيف تُثمر الأموال؟ وكيف تُجامع؟ وكيف سُبل التغذية الصحية؟ وكيف تُحافظ على الرشاقة وغير ذلك مما قد يُقال للمرأة أو الرجل، فليس هذا من أعمال الرسل، فالناس في غاية الحرص على هذه القضايا، ولا يحتاجون إلى من يتحول إلى مُرشد لهم فيها، ويترك المهم الأعظم، وهو الدلالة على الله والدار الآخرة، وهذا يُبين لنا خطأ مَن يدعي بأن على الدعاة على الله أن يُعنوا بالعمارة المادية، وأن يوجه الاهتمام إلى هذه القضايا، فهذا ليس من مهمتهم، وكل ما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لا يدل على هذا، يتحول الناس إلى ماديين دنيويين، حتى العبادات يُقال لهم: صلوا، وقوموا الليل من أجل أن يحصل لكم كذا، اقرأوا القرآن من أجل أن يحصل لكم كذا، يعني في الدنيا، صوموا من أجل أن يحصل لكم كذا، فيتحول الإنسان إلى عبد من أجل هذه الدنيا تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة[3] الحديث.
فالفقه في الدين والفهم نور من الله -تبارك وتعالى- ويُقتبس من مشكاة النبوة، والحكمة فُسرت بالسنة، وكل هذه المعاني صحيحة، فالله أمر أزواج نبيه ﷺ أن يذكرن ما يُتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، فالكتاب هو القرآن، وما سوى ذلك مما كان يُتلى في بيت النبي ﷺ هو السنة، فهذه هي الحكمة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[4] والفلاسفة ومن وافقهم يسمون الفلسفة بالحكمة، والفلاسفة بالحكماء، فأين هذا من هذا؟! والفلاسفة في قضايا الإلهيات، كما قال شيخ الإسلام: هم أضل الناس[5] لأنهم يتحدثون من منُطلق قاصر محجوب محدود، وهو هذا العقل، والعقل لا يُدرك إلا بعض ما يتصل بهذا العالم المادي، جزء يسير وإلا فهو لا يُدرك أشياء، مما يتصل بروحه التي بين جنبيه، فهذا أمر معلوم لا يخفى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (3/ 393) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2343) وهو في المستدرك على الصحيحين للحاكم (3623) بلفظ: أنا دعوة أبي إبراهيم.
- تفسير السعدي (ص:66).
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال برقم: (6435).
- حقوق آل البيت (ص:21).
- الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق (ص:171).