الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[99] قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ..}
تاريخ النشر: ١٩ / محرّم / ١٤٣٧
التحميل: 1124
مرات الإستماع: 2632

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- إبراهيم خليل الرحمن، وذكر ملته، وقال: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:130، 131] فكان من إبراهيم سرعة الاستجابة لربه وفاطره -جل جلاله وتقدست أسماؤه، وكان إسلامه ووجهه لرب العالمين، يعني: أنه كان على الإسلام، كما قال الله -تبارك وتعالى-: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [سورة آل عمران:67].

ثم قال الله : وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] حثَّ إبراهيم ويعقوب -عليهما السلام- أبناءهما على الامتثال والثبات على الإسلام قائلين: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [سورة البقرة:132] اختار لكم هذا الدين دين الإسلام، وهو الذي كان عليه جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] لا تفارقوا هذا الدين، ولا تتخلوا عنه بأي حال من الأحوال إلى الممات.

ويُؤخذ من هذه الآية: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] توصية إبراهيم ويعقوب -عليهما السلام- أبناءهما بلزوم الدين الذي اصطفاه الله لعباده، هذا أعظم ما يوصى به؛ ولذلك نجد في وصايا السلف وفي وصايا العلماء من بعدهم حينما يكتبون الوصايا فإنهم يوصون أبناءهم بأن يثبتوا على الإسلام، وأن يتمسكوا بشرائعه وأن يلزموا سنة رسوله ﷺ فكل ذلك مما يُقدم في الوصية؛ وذلك أنه أهم المُهمات، وأعظم المطالب قبل أن يُذكر ما يحتاج إلى الوصية به من أمور مالية دنيوية، وغير ذلك، ونجد في مثل هذه الآية التي تضمنت هذه الوصية جملة من المؤكدات التي تدل على شدة أهمية هذا المضمون الذي تضمنته هذه الوصية.

فعُبر بالماضي وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] وذلك لأنه أمر مُتحقق، أو قد تحقق وقوعه، وكذلك أيضًا لفظ الوصية يدل على أمر مؤكد يُحث على فعله، أو نهي يُحث على اجتنابه، ونحو ذلك ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [سورة الأنعام:151] فهذه الوصايا تدل على أن ما تضمنته أمر مؤكد يحُث عليه الموصي؛ ولذلك يُعبر بها في كلام الناس، وكذلك تخصيص الأبناء بهذا وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] لأن هذا هو أهم المطالب، فأولى ما توجه العناية إليه هو هذه القضايا: الإيمان والتوحيد، وإذا كان الإنسان مؤمن بأهمية هذه الأمور والقضايا فينبغي أن يكون أول من يوجه ذلك إليه هم أقرب الناس إليه، ومن الخطأ أن يولي الإنسان اهتمامه وبذله ونُصحه للأبعدين، ويكون أقرب الناس إليه لا ينتفعون به، بسبب تقصيره، وإعراضه عنهم، وانشغاله بغيرهم، فهذا خطأ، قد يزهد فيه أقرب الناس إليه، وهذا أمر لا يُنكر، فإن أزهد الناس بالعالم هم أهله وجيرانه، وهذا على مر الدهور، ولكن عليه أن يبذل جهده؛ ولذلك في الغالب للأسف وليس دائمًا أنك تجد أقل الناس انتفاعًا بالعالم هم أقرب الناس إليه، لكن هذا أيضًا لا يُعفيه من بذل النصيحة والجهد، فهؤلاء الأنبياء الكبار -عليهم الصلاة والسلام- يوصون أبناءهم بمثل هذا.

وكذلك أيضًا لاحظ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] يعني: وصّى يعقوب بنيه، فبنيه أُضيف إلى المعرفة (الهاء) وذلك يُفيد العموم، يعني: جميع الأبناء، لم يوص بعضهم، ولم يوص الأقرب منهم مثلاً، أو الأقرب إليه، أو الأصلح في نظره، وإنما عمّم هذه الوصية.

ويُؤخذ من وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] أنها وصية مطلقة غير مُقيدة بوقت من الأوقات، أو بحال من الأحوال، أو بموضع من المواضع، لزوم الدين في السراء والضراء، ولزوم شرائع الإسلام في السفر والحضر، وفي أوقات الغربة، وظهور أعلام النبوة وأنوارها، فهذا يكون في كل شأن، وحيث كان ذلك يوافق ما في نفس الإنسان، أو كان مما يثقل عليه، فهذا لا بد من لزومه واتباع ما شرعه الله -تبارك وتعالى- لعباده.

وفي قوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] النهي عن الموت على غير الإسلام، فهذا يدل على شدة أهمية هذا الأمر الذي ينبغي أن تُختم به حياة الإنسان، كما يعيش عليه المرء.

فيُؤخذ من هذه الآية أيضًا اللطف والرفق بمن يُخاطبهم الإنسان من أولاده، ومن يوصيهم وينصحهم، أو من يعظهم أو يذكرهم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [سورة البقرة:132] خاطبهم بهذه اللفظة التي تجذب أرواحهم، وتسترعي انتباههم يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] وإبراهيم حينما خاطب أباه كان يقول: يا أبتي، وبأرق العبارات يخاطبه، ومن الناس من إذا خاطب ولده فإنه ربما يُخاطبه بعبارات جارحة وقاسية، وربما نصحه ويصفه ويُسميه في هذه النصيحة، ويقول له: اسمع يا كذا، واسمع يا كذا، مما يُنفره من هذه النصيحة، ويُنفره من الناصح، ويُكره إليه ذلك كله، فلا تحصل الاستجابة، وإنما يقول: يا بُني، كما جاء في وصية لقمان -رحمه الله- لابنه وهو يعظه، فكان يُكرر عليه هذه العبارة، يا بُني، يا بُني، وإذا كانوا جمعًا يقول يا بني، أو يا أبنائي، فالناس يحتاجون إلى شيء من هذا اللطف؛ لأن المقصود هو الاستجابة، فإذا كان ذلك هو المطلوب فينبغي أن يُسلك له أقرب طريق يوصل إليه، أما أن يُنشق الإنسان الخردل، ويُصك بالجندل، ثم بعد ذلك يُقال له: استجب، فهذا لا يكون.

فقد يكون من الناس من يحتاج إلى شيء من التعنيف أو القسوة إذا اقتضى المقام ذلك، ولكن هذا خلاف الأصل، فالأصل في النصيحة أن تكون بالحُسنى، وأن تكون الدعوة بالحُسنى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا [سورة طه: 44] فليس بعد هذا شيء، ففرعون أعتى الخلق، ويُطالب موسى وهارون -عليهما السلام- بمخاطبته باللين والرفق، فلا داعي لاستعمال العبارات الموحشة في المخاطبات الدعوية، وفي النُصح والتعليم، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، سواء كان ذلك مقولاً يُشافه به المنصوح، أو كان ذلك مكتوبًا، يبعثه إليه، أو ينشره على الملأ، فاستخدام العبارات اللطيفة أدعى إلى القبول، وانظروا إلى كلام أهل العلم كشيخ الإسلام وغيره، يُقدم بين يدي نصائحه لقوم من الصوفية التصوف الشركي القبوري، ويُقدم بين يدي هذه النصائح كلامًا يُثني على هذا المنصوح بأشياء هي فيه: من الزهد، وما جعل الله له من القبول بين أتباعه، وما إلى ذلك من كلام يستميله به، فمثل هذا ينبغي أن يضع الإنسان الهدف أمامه ماذا يريد أن يصل إليه في مخاطباته ودعوته وكلامه وظهوره الإعلامي بقناة، أو غير ذلك، يرد أو يُناقش أو يحاور أو يخاطب الجمهور أو غير ذلك، فيحتاج أنه يُحدد المراد والهدف، فيكون هذا الخطاب بناء على ذلك.

والناس يُكثرون من الكلام في هذه السنوات من الخطاب الدعوي، وتغيير الخطاب، وما أشبه ذلك، وهذا كلام فيه إجمال، وقد يقصد به بعضهم أمورًا غير صحيحة، لكن ما دل عليه القرآن، وما دلت عليه سنة رسول الله ﷺ لا شك أنه مطلوب.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] اصطفى لكم الدين، واختاره لكم من بين سائر الأديان، ودخول اللام هنا تدل على أن ذلك مصلحة لهؤلاء العبادة، وأنه نعمة قد أصبغها الله -تبارك وتعالى- عليهم، فهو لهم وليس عليهم، فهو ليس بعبء وتكليف ثقيل يُرهق كواهلهم، وإنما هو شيء يتشرفون به، فيكون حِلية يحصل به كمال الإنسانية، ويحصل به كمال المروءات، وتقوم به ضروراتهم، وتتحقق مصالحهم الكُبرى، وكذلك ما يتبعها من الحاجيات والتحسينيات، فتتحقق مصالح الدنيا والدين، وتكون حياتهم على استقامة، وعلى حال من الكمال والتمام، مما يليق بهذا المخلوق الذي خلقه الله في أحسن تقويم.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى-: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] فلاحظ هل يملك الإنسان خاتمته؟ ونحن نسمع في بعض العبارات وبعض التغريدات، وربما يتداولها بعض الناس ويُعجبون بها، يقول: أنت الذي تستطيع تحديد خاتمتك، هذا الكلام غير صحيح، فالإنسان لا يملك خاتمته، ولا يستطيع أن يُحدد، فو الله إن أحدكم - أو: الرجل - يعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب يعني: القدر فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها[1].

فالإنسان لا يستطيع أن يُحدد الخاتمة، ويسأل ربه دائمًا أن يختم له بخير، وأن يُحسن خاتمته وعاقبته، ونحو ذلك، لكن يموت الإنسان عادة على ما عاش عليه، فيكون ذلك من باب بذل الأسباب، أن يجتهد الإنسان في أن يستقيم على أمر الله وطاعته، فيكون ذلك سببًا لحُسن خاتمته، فالنهي هنا توجه فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] إلى أمر لا يملكه المُكلف، وخطاب الشارع إذا توجه إلى المُكلف في أمر لا يدخل تحت طوقه وطاقته، والله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، فإنه يتجه -هذه القاعدة- إما إلى سببه، أو إلى أثره، ففي هذا المثال: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] يتجه الخطاب إلى السبب، بأن يلزم الإسلام في حياته، ويستقيم على شرع الله  فيكون ذلك سببًا لحُسن خاتمته، أما توجهه إلى أثره، فكما قال الله في سورة النور: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [سورة النور:2] إقامة الحد في شرعه، وذلك في إقامة الحد على الزُناة الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النور:2] فهنا الرأفة تتسلل إلى القلب من غير إرادة، فالرأفة أرق الرحمة، فقد يرحم هذا المحدود والمجلود الذي أوقف أمام الخلق يتفرجون إليه في السوق، أو بعد صلاة الجمعة، فهل يُؤاخذ الإنسان بهذا؟

الجواب: لا؛ لأن ذلك لا يملكه، فيتوجه الخطاب هنا إلى الأثر، ألا يُلغى الحد، ولا يُقلل العدد، ولا يُخفف يعني في الصفة، فيُضرب ضربًا خفيفًا، تحلة القسم، يقولون: مسكين هذا ضعيف، هذا يكفيه هذا، انظروا إلى جزعه وحُزنه وخوفه واضطرابه، يُقال: لا وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فتوجه الخطاب هنا إلى الأثر، لكن هذه الرحمة التي تقع في القلب لا يُؤاخذ الإنسان عليها.

فهنا نهي عن الموت على غير دين الإسلام، وأيضًا التوكيد لمعنى النهي بنون التوكيد المُشددة فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] فيحتاج الإنسان دائمًا إلى لزوم أمر الله وطاعته، مع كثرة الاستغفار والتوبة؛ لأنه يبدر منه، ويقع التقصير دائمًا والمعصية والخلل، ويُجدد التوبة، فيكون ذلك محوًا لخطاياه وسيئاته وتقصيره، فإذا كان عند الوفاة يكون خفيف الحمل، والظهر، فيُرجى له أن يموت على خير، وأن يموت على الإسلام.

من مات على خير -أيها الأحبة- على السنة غير مفتون، فذلك الذي يُغبط، لا سيما في أوقات الفتن، مثل هذه الأوقات، لكن كما ترون الفتن خطافة: فتن الشهوات، والشبهات، والأعمال بالخواتيم فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132].

هذا ما يتعلق بهذه الآية، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب القدر، باب في القدر برقم: (6594). 

مواد ذات صلة