الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[108] قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا..}
تاريخ النشر: ٣٠ / محرّم / ١٤٣٧
التحميل: 912
مرات الإستماع: 2726

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا يزل الحديث في تحويل القبلة فقد قال الله -تبارك وتعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] قد نرى تحول وجهك أيها الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- في جهة السماء مرة بعد مرة، وذلك أنه ينتظر نزول الوحي في شأن القبلة، فلنصرفك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها وهي المسجد الحرام الكعبة المشرفة، فولي وجهك إليها، وفي أي مكان كنتم وأردتم الصلاة فتوجهوا نحوها، وإن الذين أوتوا الكتاب الذي أعطاهم الله الكتاب من اليهود والنصارى ليعلمون أن ذلك وهو التحول إلى الكعبة أن الحق الثابت من الله بما يجدونه في كتبهم.

وما الله بغافل عن هؤلاء من المعترضين المُشككين، وسيُجازيهم على ذلك.

يؤخذ من هذه الآية: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144] إثبات صفة العلو لله فقد كان النبي ﷺ ينتظر الوحي فيرفع رأسه إلى السماء، وعلو الله -تبارك وتعالى- على عرشه صفة ثابتة في الكتاب والسنة وهي مما تواتر، والأدلة الدالة على ثبوتها تزيد على عشرين نوعًا في الكتاب والسنة، وكل نوع تحته من أفراد الأدلة ما هو معلوم، كما يدل على ذلك أيضًا الفطرة، فإن الإنسان يجد في نفسه نزوعًا إلى العلو حينما يقول: يا الله، فيجد ذلك بفطرته، كما يدل على هذه الصفة أيضًا العقل.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144] "قد" هنا دخلت على الفعل المضارع، قد نرى، وبعض أهل اللغة كما هو مشهور يقولون: إن "قد" إذا دخلت على الفعل الماضي فهي للتحقيق، قد جاء زيد، وإذا دخلت على الفعل المضارع فهي للتقليل قد يجود البخيل، وقد يكبوا الجواد، ولكن هذا ليس محل اتفاق بين أهل اللغة، وبصرف النظر هل هي للتقليل أم لا، فالأمر الذين ينبغي أن نُدركه وأن نعلمه ويكون فيه جواب لإشكال وسؤال يرد في مثل هذه المواضع: هو مضمون القاعدة من قواعد التفسير وهو أن قد إذا دخلت على الفعل المضارع هذه المُسند إلى الله -تبارك وتعالى- كما في هذه الآية فذلك للتحقيق، "قد إذا دخلت على الفعل المضارع المُسند إلى الله فهي للتحقيق دائمًا" فإذا قال الله: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [سورة النور:64] يعني: قد علم، وإذا قال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ أي: قد رأينا، فليس ذلك للتقليل ولا للتكثير وإنما هي للتحقيق، هذا دائمًا، حينما يُضاف ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- وبهذا ينحل إشكال قد يرد في مثل هذه المواضع، فيكون المعنى قد رأينا، والقرآن جاء على نهج العرب في مُخاطباتها وكلامها، والعظيم منهم يُخرج الكلام هذا المخرج ويقصد به التحقيق.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ هذا يدل على ترقب مستمر من قِبل النبي ﷺ حيث كان -عليه الصلاة والسلام- يُرجي أن تحول القبلة، فإن توجهه إلى بيت الله الحرام أحب إليه من التوجه إلى بيت المقدس قَدْ نَرَى وهذا يدل على إثبات صفة الرؤية والبصر لله .

تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ يدل على أن النظر لا إشكال فيه، وليس فيه سوء أدب مع الله تعالى لكن الداعي إذا دعا هنا كان يترقب نزول الوحي وليس معناه أنه يرفع رأسه من أجل الدعاء -والله أعلم- فالداعي إذا دعا فإنه ينظر إلى بطون كفيه هذا في الدعاء، وأما في الصلاة فإنه ينظر إلى موضع سجوده كما هو معلوم، وإذا كان في التشهد فإنه ينظر إلى المُسبحة يُحركها يدعوا بها ويُلقي ببصره إليها، هذا هو المشروع.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] فهنا فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فدخول هذه الفاء للتعقيب لتأكيد الوعد فَلَنُوَلِّيَنَّكَ يعني هنا: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ هذا تمهيد، ثم بعد ذلك جاء الوعد فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] ثم جاء الأمر: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] وقوله -تبارك وتعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا دخلت عليه هنا اللام الموطأة للقسم فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا وهذا فيه مزيد من التوكيد في تحققه ووقوعه فهو أمر لابد من حصوله؛ لأن القسم كما هو معلوم يؤكد مضمون الجملة المُقسم عليها.

فهنا جاء بهذا التدريج: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فالنفس هنا تتشوف إلى ما يكون بعده، قال: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فجاء الوعد، فيحصل للنفس من الانبساط والسرور والانشراح، ثم يأتي بعد ذلك الأمر بالتوجه إلى بيت الله الحرام فيكون ذلك إنجازًا لهذا الوعد فيتوالى الفرح والسرور والاستبشار على نفسه ﷺ ويكون ذلك التدريج آنس للنفس قبل أن يقع المطلوب فجأة، يعني: حينما يقع المطلوب فجأة حينما يقول: ولي وجهك شطر المسجد الحرام هكذا بدون مقدمات فإن ذلك أمر قد يفجأ النفس، ولكن حينما يُمهد له بمثل هذه المُمهدات يصل إلى النفس وهي في حال استبشار وفرح، ويكون ذلك مُتدرجًا معها، وهكذا أيضًا: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً جاءت مُنكرة، وهذا التنكير قد يُفيد التعظيم يُشعر بالتعظيم قبلة.

وكذلك أيضًا نُكرت؛ لأنه لم يسبق ما يُعرف بها أو يدل عليها فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا لكن في بيت المقدس: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا [سورة البقرة:143] لأنها كانت قبلة يستقبلها ويعهدها ويعلمها ويصلي إليها: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا [سورة البقرة:143] وهنا فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً [سورة البقرة:144] هي قبلة جديدة، وهنا أنه قال: تَرْضَاهَا ولم يقل: تهواها فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144].

فالنبي ﷺ إنما يكون هواه تبعًا لمحاب الله وليس مجرد ما تهوى النفس فإن نفسه ﷺ أشرف وأكمل من ذلك، والنفس إذا صار لها ارتياض بالطاعة وارتقت في درجات العبودية، وحصلت لها ألوان الكمالات صار هواها تبعًا لما يرضاه الله -تبارك وتعالى- فقال: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا باعتبار أنها قبلة إبراهيم والنبي ﷺ ينتسب إليه: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فلم يكن ذلك لهوى في نفسه ﷺ باعتبار أن مكة هي أرض الآباء والأجداد، ومنها مُهاجره، وإنما كان ذلك لاعتبارات شرعية.

ثم أيضًا هنا مسألة القبلة وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قبلة إبراهيم هذا يحصل به التميز لهذه الأمة، ويحصل به مُباينة هؤلاء الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الأرض، منهم من يستقبل المشرق كالنصارى، واليهود كانوا كما قيل: يستقبلون التابوت الذي كانوا ينقلونه معهم في مغازيهم وأسفارهم، وإذا كانوا في بيت المقدس وضعوه على الصخرة فكانت الصخرة بهذا الاعتبار يستقبلونها؛ لأنهم كانوا يضعون عليها التابوت، فصارت هذه الصخرة بهذا الاعتبار رمزًا لليهود وقبلة لهم لما يوضع عليها من التابوت، ولا أعلم لها أي مكانة عند المسلمين ولا قُدسية ولا يصح أن يوضع عليها قُبة، ولا أن تُجعل شعارًا يرمز لبيت المقدس، فيتبادر إلى الأذهان إذا ذُكر بيت المقدس أن بيت المقدس هو هذه القبة التي على هذه الصخرة، وهذا ليس بصحيح، فهنا هذه القبلة هي شعار ورمز، فلما حولوا إلى الكعبة كان ذلك تمييزًا لهم عن غيرهم.

ثم يظهر مراعاة الشريعة للاجتماع فإن الله -تبارك وتعالى- قال: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في كل أصقاع الدنيا وفي كل زمان يستقبلون بيت المقدس وهذا أمر والأمر يدل على الوجوب، فيجب استقبال القبلة اللهم إلا إذا اجتهد المجتهد فأخطأ فإن ذلك يكون من المعفو عنه، أو كان ذلك في النافلة فإنه يُرخص كما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنها: "أنه رأى النبي ﷺ وهو جاء من المدينة إلى مكة يصلي على راحلته حيث توجهت به"[1] لكن في الفريضة يجب استقبال القبلة إذا كان ذلك مقدورًا، لكن لو كان مأسورًا لا يستطيع استقبال القبلة كالمريض الذي لا يستطيع الاستقبال، أو المحبوس في مكان لا يستطيع أن يستقبل، أو نحو ذلك، فهذا معذور، وكذلك من خفيت عليه القبلة.

وهكذا أيضًا: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] هذا فيه تهديد مُبطن، هؤلاء يعلمون أنه الحق إذًا كان الواجب عليهم أن ينقادوا له، فالواجب على المرء أن ينقاد إلى الحق إذا علمه وظهرت له دلائله وأماراته ولا يبقى في حال من المُكابرة، فهؤلاء كانوا يقولون: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] وهم يعلمون أنها حق وأنها من الله -تبارك وتعالى.

وجاء بالتوكيد بهذا: وَإِنَّ الَّذِينَ [سورة البقرة:144] فإن هذه مؤكدة بمنزلة إعادة الجملة مرتين وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:144] ولاحظ الالتفات في الآية: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [سورة البقرة:144] يتحدث عن غائب: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] فهذا خبر مُضمن معنى الوعيد والتهديد، فالله -تبارك وتعالى- ليس بغافل معنى ذلك أنه سيُجازيهم ويُحاسبهم ويؤاخذهم على ذلك، هذا ما يتعلق بهذه الآية، - والله تعالى أعلم.

  1. أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة التطوع على الدابة وحيثما توجهت به، برقم (1095)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، برقم (700). 

مواد ذات صلة