بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر القبلة واعتراض المعترضين عليها، ذكر بعد ذلك ما يُثبتهم على قبلتهم وإيمانهم، ثم امتن الله -تبارك وتعالى- على عباده، وذكرهم بِنعمه وأمرهم بذكره بألسنتهم، وقلوبهم وجوارحهم يقول الله -تبارك وتعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:151، 152].
كما أنعمنا عليكم باستقبال القبلة وهديناكم إلى ذلك أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم الآيات المُبينة للحق من الباطل، التي لا تدع في الحق لبسا، ويُطهركم من أدناس الشرك والكفر والمعاصي ويُعلمكم الكتاب والسنة التي هي الحكمة وأحكام الشريعة ويعلمكم من أخبار الأنبياء وقصص السابقين ما كنتم تجهلونه، يُعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من ألوان العلوم والهدايات التي تحتاجون إليها فيما يتصل بالعلم بالله -تبارك وتعالى- وهو أجل العلوم وأعظمها وما يتصل بتفاصيل الصراط المستقيم الذي رسمه لعباده من أجل سلوكه، وكذلك أيضًا ما يتصل بأمور آخرتكم التي تصيرون إليها، وما يحتف بذلك ويتعلق به مما قصه الله -تبارك وتعالى- من أخبار الرسل مع أُممهم وما ضرب من الأمثال وما هدى إليه في هذا القرآن.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [سورة البقرة:151] الرسول ﷺ منا فهو بشر، وهو أيضًا من العرب فهو من الأُميين -عليه الصلاة والسلام- كما امتن الله -تبارك وتعالى- ببعثه أُميًّا بقوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] وذلك أن هؤلاء أعني الأُميين لو أنه بُعث إليهم من غير الأُميين لكان ذلك شاقًا عليهم، فبعثه ﷺ أُميًّا لا شك أنه أدعى إلى القبول والأخذ والفهم عنه؛ لأنه يكون مُشاكلاً لهم في طبائعهم وما يعهدون في مُخاطباتهم ونحو ذلك، هذا بالإضافة إلى ما فيه بعثه منهم من إظهار المعجزة فإن مجيء هذه الشريعة وهذا الوحي وهذا القرآن على يد رجل أُمي هذا أمر من غير مقدور البشر، إضافة إلى ما فيه أيضًا إلى إعجاز آخر، وذلك أنه جاء موافقًا لصفته التي جاءت في الكتب المتقدمة.
وكذلك أيضًا بمجيئه منهم من إعزاز هذه الأمة الأُمية التي كان الفُرس والروم من حولها لا يعبئون بها، ولربما أُطلق على هؤلاء العرب ذُباب الصحراء؛ لقلة شأنهم، ولمهانتهم على الناس، فلما بعثه الله ﷺ منهم كان ذلك بعثًا لهذه الأمة فتحولت إلى الريادة والقيادة بعد أن كانوا أوزاعًا من قبائل متناحرة، متناثرة في جزيرة العرب، يتقاتلون على أتفه الأسباب، فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [سورة البقرة:151] فاللائق بهؤلاء العرب اللائق بقبيلته قريش أن يكونوا أول من يؤمن به، وأول من يُقبل على دعوته، وأول من ينصر هذا الرسول ﷺ لاسيما أنهم يعرفونه، يعرفون نشأته ويعرفون خُلقه، فهو ليس بمجهول بالنسبة إليهم خبر أمانته وأوصافه؛ ولهذا وبخهم الله -تبارك وتعالى- على الكفر به ووصفهم بالضلال؛ وذلك أنهم رموا هذا النبي -عليه الصلاة والسلام- بالأوصاف القبيحة، فكان جواب الله -تبارك وتعالى: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [سورة النجم:2] وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [سورة التكوير:22].
وفي قوله: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً [سورة البقرة:151] هذا الرسول هنا بهذا اللفظ جاء مُنكرًا وهذا يُفيد التعظيم، هذا بالإضافة إلى ملحظ آخر وهو أن ما ذُكر بعد ذلك من الأوصاف تكون جارية عليه كأن كل صفة مُستقلة فهي نعمة خاصة، ولهذا قال: يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:151] فلفظ الرسول نكرة فعُرفت بما بعدها من الوصف، وهذه أوصاف متعددة، فكل وصف يُعرفها ويُضيف إليها من القيود بحسب ما ذُكر فيه، ويُلاحظ هنا أيضًا تكرار الفعل يُعلم، يعلمكم: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:151] فتعليم الكتاب والحكمة غير ما جاء بعده من قوله: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:151] يعني: لو أنه قال: يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون، يعني: من الكتاب والحكمة، لكن لما قال: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:151] فإن ذلك أدل على أن هذا التعليم غير تعليم الكتاب والحكمة.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [سورة البقرة:151] هنا التلاوة المقصود بها القراءة يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا والتلاوة في كتاب الله -تبارك وتعالى- تُطلق تارة ويُراد بها التلاوة القراءة والعمل والاتباع اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ [سورة العنكبوت:45] يعني: القراءة والاتباع وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [سورة النمل:92] القراءة والاتباع إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ [سورة فاطر:29] يعني: القراءة والاتباع، أما هنا فالمقصود به القراءة فحسب يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ [سورة البقرة:151] الآيات هنا الآيات القرآنية، والتزكية هنا التربية على معاني القرآن وهداياته، وذلك بتخليص النفوس من الشرك والكفر وأدران المعاصي وسائر المُدنسات وتعمير القلوب بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والأخلاق الزاكية وما إلى ذلك، فإن التربية تنتظم هذين فإنها تعني التخلية وذلك يكون تهيئة وتنقية للمحل؛ ليكون قابلاً للزرع والنماء، ثم يكون الجانب الآخر وهو عمارة هذه القلوب بالإيمان والنفوس كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[1] إنما خُلقت لتعمل، وأما الترك فهو مقصود لغيره وليس بمقصود لذاته.
فهذا الفرع في التربية الجانب الأول وهو ما يتعلق بتخليص النفوس من الشوائب هذا مقصود لغيره؛ ليكون المحل مُهيئًا قابلاً للنماء وزكاء الزرع ونحو ذلك، لكن المقصود الأساس والأصل هو عمارة النفوس بالإيمان أن تكون النفوس عامرة، ولذلك لابد من الأمرين فتكون الدعوة والتربية وما إلى ذلك تشمل هذا وهذا؛ لأنه لا يكون قيام الثاني إلا بتحقق الأول كالأرض لا يمكن أن تُزرع إلا إذا كانت قد نُقيت من النباتات الطُفيلية وما إلى ذلك مما يُحتاج إلى إزالته، فتكون هذه الأرض قد حُرثت وهُيئت ونُقيت فإذا وضع فيها البذر فإن ذلك يزكوا ويمرع.
فهنا قوله: وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:151] هل هذا تكرار مع قوله: يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:151]؟
التعليم هنا الفقه في الدين، تعليم معاني الكتاب، وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ التي هي الحكمة، فصار ذلك على ثلاث مراتب، وهي لابد منها في هذه العملية التي يحصل من مجموعها الارتقاء بالنفوس إلى المراتب العالية في العبودية وذلك بالتلاوة أولاً وهذه التلاوة تشمل تلاوة الآيات حينما يتلوها النبي ﷺ عليهم فيتلقونها عنه، ويشمل ذلك الحفظ؛ لأن مصاحفهم في صدورهم كانوا يتلقون ويحفظون عنه ﷺ فهذه هي المرحلة الأولى التي هي التلاوة والتلقين والحفظ، ثم بعد ذلك يأتي التربية على معاني القرآن فهذا لابد منه، ولهذا جاء عن ابن عمر [2] وجاء أيضًا عن جُندب[3] ما حاصله أنهم كانوا يتلقون الإيمان قبل القرآن.
ثم بعد ذلك وجد من يتلقى القرآن قبل الإيمان فكانت النتيجة أنهم يقرأون من فاتحته إلى خاتمته لا يعرفون آمره ولا زاجره وما إلى ذلك، فالمقصود أن مثل هذا لابد منه التزكية التربية على معاني كتاب الله -تبارك وتعالى.
الأمر الثالث: وهو الفقه في الدين، تعليم معاني الكتاب والسنة، فهذا لابد منه، وتلاوة من غير تربية لا تكفي وتلاوة مع التربية من غير فقه في الدين أيضًا لا تكفي، فإذا اجتمع للمرء هذه الأمور الثلاثة فقد حصل له الكمال الذي يكون فيه بأعلى مراتب أهل الإيمان فإن العمل يكون متحققًا بالتزكية المذكورة، فهذه التزكية يحصل معها الامتثال والعمل والتقوى وطاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله ﷺ فهذه حقيقة التزكية، هذه حقيقة التقوى.
وبعض أهل العلم لاسيما في آية الجمعة في قوله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة الجمعة:2] قالوا: هذه تلاوة القرآن، كما في هذه الآية وَيُزَكِّيهِمْ [سورة الجمعة:2] التزكية المذكورة هنا، وكذلك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] بعضهم قال: يُعلمهم الكتاب يعني الكتابة؛ لأنهم أمة أُمية، فلما بُعث النبي ﷺ كان الذين يُحسنون الكتابة كانوا قلة قليلة، لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، فلما كان في يوم بدر وأُسر من أُسر من المشركين فكان من يعرف الكتابة يفدي نفسه بتعليم عشرة من أبناء المسلمين، ففشت الكتابة وانتشرت، وكان ذلك بسبب بعثه ﷺ ولهذا قالوا: إن هذا على سبيل الامتنان، قالوا: والقرينة في ذلك هو قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [سورة الجمعة:2] قالوا: من أجل أن لا يكون تكرارًا مع الأول تلاوة الآيات، قالوا والتأسيس مقدم على التوكيد، لكن لا يخلو من نظر، والأقرب أن ذلك يُراد به التفقه في الدين، تعليم الأحكام، وشرائع الإيمان لاسيما أنه ذكر معه الحكمة، فإذا ذُكرت الحكمة مع الكتاب فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة، هذا الذي جاء في كتاب الله -تبارك وتعالى- في سائر المواضع، - والله تعالى أعلم.
تأمل أيضًا قوله -تبارك وتعالى- هنا في هذه الآية على هذا الترتيب: يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا فذكر تلاوة الآيات أولاً، ثم ذكر التزكية ثانيًا، ثم ذكر التعليم ثالثًا وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:151] وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:151] فهنا مع الآية السابقة التي في دعاء إبراهيم قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة:129] فأخر التزكية فكانت الثالثة في هذه المذكورات في دعاء إبراهيم فما وجه ذلك؟
بعض أهل العلم قال: إن هذه الآية ذكر التزكية بعد تلاوة الآيات، يعني: ذكرها في المرتبة الثانية أن هذا في مقام الامتنان من الله -تبارك وتعالى- على المسلمين فقدم فيها ما يُفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهو ما يحصل من زكاء النفوس وتهذيب الأرواح، فهذا نتيجة وأثر لهذا الوحي الذي أنزل الله على رسوله ﷺ فكان كالمطر الذي نزل على الأرض الجدباء فأنبتت من كل زوج بهيج.
وأما دعوة إبراهيم فقالوا: إن ذلك جاء مرتبًا رُتبت فيه الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج، يعني: أن الترتيب: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة:129] فإذا عرفوا مراد الله -تبارك وتعالى- من هذه الآيات ومن هذا الوحي المنزل حصل لهم الزكاء بعد ذلك، فيقولون: هذا لا يحصل هذا الزكاء إلا بعد الفقه في الدين، فهذا بالنسبة للخارج فجاء مرتبًا بهذا الاعتبار، لكن هنا في مقام الامتنان قدم التزكية؛ لأنها ثمرة فكأن ذلك من باب تعجيل البشرى -والله تعالى أعلم.
هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، ويمكن أن يُضاف إلى ذلك إضافات لكن يكفي ما ذُكر -والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 126).
- انظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (4/ 418).
- انظر: المصدر السابق (4/ 419).