بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:152] ذكره هنا -تبارك وتعالى- يحتمل أن يكون المراد به الذكر باللسان، وكما يدل على ذلك قوله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملاءه[1] فهذا ذكر، وهو الذكر باللسان، ذكرني في نفسه يعني: لم يجهر بذلك لم يكن في ملأ، أو كان منفردًا، وليس المقصود به الذكر بالقلب وحده فإن الذكر الشرعي ما توطأ عليه القلب واللسان.
ويحتمل أن يكون المقصود بذلك: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] يعني: اعبدوني أُثبكم، فهذا معنى، فإن الذكر يكون باللسان وبالقلب وكذلك يكون بالجوارح بالعمل الصالح، وهذه المعاني -والله تعالى أعلم- يمكن أن تجتمع تحت الآية، ولكن المتبادر هو الذكر باللسان: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] ولو لم يكن لهؤلاء الذاكرين من الشرف إلا أن الله يذكرهم لكفاهم، لو قيل للإنسان للمخلوق بأن فلانًا ممن يعظمه الناس يذكرك في مجلسه عند كبراء جلسائه ويُثني عليك فإنه يغتبط بذلك، فكيف بذكر الله -تبارك وتعالى- للعبد.
ثم إن هذا الذكر قريب المنال لا يحتاج إلى عمل كثير ولا إلى جهد كبير وإنما مباشرة: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] فرتب عليه هذا الجزاء، ويؤخذ من هذا أن الجزاء من جنس العمل، فذكر العبد لربه يورث ذكرًا للعبد من قِبل ربه وخالقه وشتان بين ذكر العبد للرب وبين ذكر الرب للعبد، ولكنه العظيم الكريم الأكرم الذي من صفاته أنه شكور، والشكور من معانيه أنه يُجازي على الإحسان إحسانًا ويُضاعف في الجزاء.
وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:152] فالعبد بين نِعم يتقلب فيها يحتاج معها إلى شكر، وبين طاعات يوفق إليها وهي أجل النعمتين فيحتاج معها إلى شكر: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:152] فجاء بعده بهذا التعقيب وَلا تَكْفُرُونِ تأكيدًا لهذا المعنى في الشكر، وكل ذلك -والله تعالى أعلم- من أجل تحقيق الشكر الذي لا يُخالطه كفران، ومن أعظم الكفر كفر النعمة من أعظمه أن يستعمل العبد نعمة الله -تبارك وتعالى- عليه بمعصيته، أنعم الله عليه بالسمع والبصر فلا يصح بحال من الأحوال أن يستعين بسمعه وبصره على مساخط الله، أنعم الله -تبارك وتعالى- عليه بالمال فلا يصح أن يستعين بهذا المال على مساخط الله.
أنعم الله -تبارك وتعالى- عليه بهذه المراكب والوسائل التي يُستعان بها على الحاجات والمهمات والملمات فلا يصح أن يستخدم ذلك وأن يستعين به على مساخط ربه وخالقه -تبارك وتعالى- فهذا من كفر النعمة: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:152] فأمر بذكره وشكره، والعبد بين هاتين الحالتين لا يُفارقهما بحال من الأحوال الذكر والشكر، فهو بين نِعم مُتجددة وبين ذكر لربه -تبارك وتعالى- وطاعة يتقرب بها إليه، ولهذا كان أنفع الدعاء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية[2] والحافظ ابن القيم[3] -رحم الله الجميع: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك[4] فإذا أُعين الإنسان على ذكر الله -تبارك وتعالى- فيكون مؤديًا للطاعات، وإذا كان يُقابل النِعم بالشُكر فإنه بذلك يكون في درجة أعلى، فإذا أُعين على حُسن العبادة يكون قد بلغ مرتبة الإحسان فهذه مراتب ثلاث: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
قوله -تبارك وتعالى- بعد ما ذكر تحويل القبلة واعتراض المعترضين على ذلك أمر عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة، وذلك أن مثل هذه الأمور مما يُثيره الأعداء، وهذا الأذى الذي يوجهونه إلى أهل الإيمان هو بحاجة إلى استعانة بالصبر والصلاة من أجل أن يثبت أهل الإيمان على دينهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:153] خاطبهم بالإيمان لأنهم المتأهلون للقبول عن الله -تبارك وتعالى- فهذا الإيمان الذي أعلنوه يقتضي القبول والانقياد والتسليم لربهم وخالقهم : اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سورة البقرة:153] اطلبوا العون من الله في كل أموركم ومطالبكم الدينية والدنيوية بالصبر، أن تصبروا على المصائب والنوائب والشدائد، وأن تصبروا على طاعة الله وأن تصبروا عن معصيته، كل ذلك يُستعان عليه بالصبر والصلاة، فالنبي ﷺ كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ويقول: قم يا بلال فأرحنا بالصلاة[5].
وكذلك أيضًا هذه الصلاة كما أخبر الله : وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45] فهذه الصلاة تُعين العبد على النهوض والقيام بالأوامر الشرعية والتعبد لربه وخالقه كما أنها تُعينه على ترك مساخط الله -تبارك وتعالى- تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذه آثار الصبر والصلاة، أو من آثارهما ولذلك جاء الأمر بالاستعانة بهما، فالعبد قد يضعف قد يتراجع لكنه يقوى ويثبت بالصبر والصلاة.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:153] وهذا فيه إثبات معية الله الخاصة التي تكون لأهل الإيمان، وهي تقتضي التأييد والتثبيت والهداية والنصر وما إلى ذلك.
وأما المعية العامة التي تكون لكل الخلق فذلك بالإحاطة والعلم، ونحو ذلك.
هذه الآية الكريمة من هذه السورة سورة البقرة: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:153] مضى الكلام على شيء من مضامينها في الكلام على الآية التي سبقت من هذه السورة الكريمة: وَاسْتَعِينُوا في الخطاب لبني إسرائيل وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:45، 46] وهنا هذا خطاب لأهل الإيمان، يؤخذ من هذه الآية شدة الاقتران بين الصبر والصلاة، وذلك كما سبق أنهما العون بعد الله -تبارك وتعالى- على تحقيق المطالب الدنيوية والأخروية، فهذه الحياة كبد يلقى الإنسان فيها ما يلقى من المشقات والصعوبات فيحتاج إلى صبر، يحتاج إلى إعانة من الله فإذا كانت صلته دائمة بربه -تبارك وتعالى- فإن ذلك يكون أدعى لقوته ونشاطه وصبره وتحمله.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:153] وهذا تذييل في معنى التعليل، يعني: كأنه يقول استعينوا بالصبر والصلاة لأن الله مع الصابرين، اصبروا ليكون الله معكم؛ لأنه مع الصابرين، وفي ذكر هذا تنشيط للنفوس وتقوية لها وبعث لها على المداومة والثبات والصبر، والاستمرار على طاعة الله -تبارك وتعالى- مع ملازمة الصلة به ودوامها، وأعظم ذلك يكون بالصلاة: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:153] وإذا آمن العبد أن الله معه فإنه يثبت ويقوى وينشط ويُقبل على ربه إقبالاً صحيحًا، فلا ييأس ولا يقنط ولا يُحبط ولا يقلق وإنما يكون دائمًا بحال من الإقبال والعمل والجد في طاعة الله -تبارك وتعالى.
والصلاة التي تنفع وتؤثر هذا التأثير هي التي تكون مستوفية لشروطها وأركانها وواجباتها ولذلك يقول الله -تبارك وتعالى- دائمًا وَأَقِمِ الصَّلاةَ ووَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [سورة البقرة:43] ولا يقول: أدوا الصلاة؛ لأن إقامتها تقتضي الإتيان بها على الوجه المشروع، والحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فبقدر ما يكون من إقامة الصلاة يكون الأثر المترتب عليها، فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، ويحصل له من الصبر والثبات والقوة على تحقيق مطالبه، هذا بالإضافة إلى ذكر الله الدائم المستمر، وكما ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [سورة العنكبوت:45] بعض أهل العلم يقول: ولذكر الله فيها أكبر وأعظم من هذا الأثر المذكور للصلاة وهي أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، يعني: أنها اشتملت على أمرين: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، الأمر الثاني وهو أعظم من هذا وهي مشتملة على ذكر الله.
والمعنى الآخر: ولذكر الله أكبر، يعني: في النهي عن الفحشاء والمنكر، فيؤثر تأثيرًا بليغًا أبلغ من الصلاة، ولا شك أن العبد الذي يُناجي ربه في اليوم والليلة خمس مرات فرضًا، وما شاء الله من صلاة ومناجاة نفلاً أن ذلك يورث قلبه من التقوى والحياء من الله وكذلك التعظيم له والإجلال ما يحجزه ويمنعه من مواقعة ما لا يليق، أو التقصير في حق ربه وخالقه .
هذا ما يتعلق بهذه الآية، ولو لم يكن لهؤلاء من أهل الاستعانة بالصبر والصلاة إلا معية الرب -تبارك وتعالى- لكفى بذلك فضلاً وشرفًا -والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28] برقم (7405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، برقم (2675).
- مجموع الفتاوى (8/ 330).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 100).
- أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستغفار، برقم (1522)، والنسائي، كتاب السهو، نوع آخر من الدعاء، برقم (1303)، وأحمد في المسند، برقم (22119)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير عقبة بن مسلم، فقد روى له البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود والترمذي والنسائي، وهو ثقة" وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1362).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، برقم (4986)، وأحمد في المسند، برقم (23154)، وقال محققوه: "رجاله ثقات، لكن اختلف فيه على سالم بن أبي الجعد".