بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة): وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:155، 156] ولنبلونكم، ولنختبرنكم بشيء يسير من الخوف ومن الجوع، وبنقص من الأموال بتعسر الحصول عليها، أو بذهابها، أو بذهاب بعضها، وكذلك الأنفس بالموت، أو بالشهادة والقتل في سبيل الله، وبنقص من ثمرات النخيل والأعناب والحبوب والثمار بقلة ناتجها، أو بوقوع الآفات فيها والجوائح التي تُذهب الثمرة بكليتها.
وكذلك أيضًا ما يقع من سائر ألوان الآفات في الأنفس والأبدان، وفي الأموال والأولاد، وغير ذلك وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ على هذه الأوصاب والعِلل والأدواء بما يُفرحهم ويسرهم من حُسن العاقبة، والثواب الجزيل في الدنيا والآخرة.
يؤخذ من هذه الآية أن هذا الابتلاء وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أمر واقع لا محالة وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ فهذه اللام تدل على توكيد الكلام وتقويته، وهي مشعرة بالقسم، والله لنبلونكم، فهذا أمر لابد من وقوعه وحصوله.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [سورة البقرة:214].
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [سورة التوبة:16] وكذلك أيضًا في سائر الآيات التي جاء فيها تقرير هذا المعنى وتأكيده؛ ولهذا قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:22] لما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا ما وعدنا الله ورسوله، أشاروا بذلك باسم الإشارة هذا إلى الابتلاء الذي وعدهم الله به[1].
ففهموا عن الله -تبارك وتعالى- هذا المعنى هذا المعنى واستقر في نفوسهم، فلما رأوا الابتلاء واقعًا كان ذلك جوابهم، فكان سببًا للإيمان والإيقان والتسليم وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:22] بخلاف المنافقين الذين تضعضعوا وتزعزعوا وشكوا وارتابوا؛ فإنهم قالوا في وقعة الأحزاب: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12] وعود لا حقيقة لها.
ويؤخذ من هذه الآية: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ "بشيء" فهو شيء يسير، فالابتلاء للتمحيص ورفع الدرجات، وليس للإهلاك، فالله -تبارك وتعالى- يبتلي عبده المؤمن ليُمحصه، ليُنقيه، ليرفعه، ليُطهره، لا ليُهلكه، فإذا وقع بالعبد الابتلاء فينبغي ألا يجزع، وألا يسوء ظنه بربه -تبارك وتعالى- وإنما يعلم أن الله ساق له ذلك من أجل أن يرفعه وأن ينفعه قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [سورة التوبة:51].
وقال ﷺ: عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير خير لنا، لم يقل علينا، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن[2].
فهذه حقيقة الابتلاء، وقد جاء ما يدل على أن الله -تبارك وتعالى- قد يجعل للعبد منزلة عنده عالية في الجنة لا يبلغها بعمله بصلاته بصيامه بصدقته ونحو ذلك، لكنه يُرفع إليها بابتلاء يسوقه الله إليه، فلو علم العبد هذا واستيقنه لاستبشر وفرح ولم يجزع ولم يتسخط.
وهكذا تأمل قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ قدم ذلك وأخبر عنه ووعد به ليكون توطئة وتمهيدًا للنفوس؛ من أجل أن تتلقى الابتلاء، وقد تهيأت له واستعدت فهي تنتظره؛ لأن الله أخبر عنه قبل الوقوع، أخبر عنه قبل حصوله.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ نبلونكم، لما كان الابتلاء هو الاختبار فذلك يحصل به التمييز، لو كانت حياة أهل الإيمان دائمًا على السراء وفي حال من النِعم المُتتابعة والرغد في العيش، والعافية في الأبدان لاختلط الطيب بالخبيث، ولم تميز المؤمن من المنافق، ولكن حينما تقع الابتلاءات هنا يتميز الناس، يتميز بذلك الأخيار من الأشرار، يتميز الأقوياء الثابتون في إيمانهم ويقينهم من غيرهم ممن ليس له إيمان راسخ وثابت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [سورة الحج:11] على طرف مُتزعزع، إذا أصابه أدنى ابتلاء سقط، وهنا يُعلم فائدة وحكمة الابتلاء.
ولاحظ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ الخوف من الأعداء، الخوف من ألوان المخاوف بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ فهو غير مُحدد، قد تكون مخاوف الإنسان من العدو، قد تكون مخاوفه بسبب آخر، فأسباب المخاوف كثير، فهذا كله من الابتلاء بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ لو ابتلاهم بالخوف كله لكان ذلك سببًا لهلاكهم، ولما استقامت معايشهم، فإن الإنسان الذي يمتلئ قلبه من الخوف، لا يقر له قرار، ولا يهنأ بطعام ولا شراب، ولا يستطيع أن يعبد ربه، وأن يشتغل بذكره وبطاعته، لكن بشيء من الخوف والجوع.
لو ابتلاهم بالجوع كله لهلكوا، ولكن بشيء من الجوع، ونقص من الأموال، هذه الخسائر التي تقع في التجارات، والمساهمات، والأسهم والبُورصة، وغير ذلك من العقار وغيره، هذا كله يدخل في هذا، وهو أمر لابد منه كالحر والبرد، فكما يُقلب الناس لابد لهم من حر وبرد واعتدال كذلك يقلبون في مثل هذه الابتلاءات، فأرباح التجارات والصعود في الأرباح، وارتفاع نسب هذه وعلوها لا يستمر لابد له من هبوط في المؤشر تتحرك معه بعض القلوب الضعيفة، وهكذا هذه الزروع التي يبذل الناس فيها الأموال يحصل فيها من الآفات، لربما نزل البرد فكان سببًا لهلاك الثمرة إبان نُضجها وقطافها، ولربما وقع فيها أنواع أخرى من الآفات التي تُضعفها وتُقلل ناتجها.
فكل هذا يبتلي الله به عباده، الدواب، البهائم تمرض تموت، لا يكون لها نتاج، كل هذا من العوارض التي يُبتلى الناس بها عن علم وحكمة، وقد تكون عقوبة لهم، بما كسبت أيديهم، ومثل هذه الأشياء التي تصيب الإنسان إن كانت متولدة من معصيته فهي عقوبة، وما كان متولدًا من طاعة فهو تمحيص وابتلاء، وما لم يكن متولدًا من هذين فيُنظر إلى حال العبد الغالب عليه الصلاح فيُرجى أن يكون هذا من باب الابتلاء، أو الغالب عليه الشر والفساد والمعصية والانحراف والعتو على الله، فيكون ذلك من العقوبة المُعجلة، ناتج عن المعصية، إنسان عمل معصية فأُصيب بسببها بمرض يتعلق بهذه المعصية، فهذا عقوبة معجلة، يشرب الخمر أو يُدخن أو نحو ذلك، فأُصيب بعلة وداء يتعلق بهذا النوع من التعاطي، سرطان في الرئة -نسأل الله العافية- أو البلعوم، أو الفم، فهذا عقوبة معجلة فيما يبدوا، قد يحج ويمرض، فهذا ابتلاء وتمحيص ورفعة للدرجات هذا متولد من الطاعة، فإن لم يكن متولدًا من هذين نُظر إلى حال العبد ما هو الغالب عليه؟
وهكذا، قد يحصل للعبد بعض هذه الأشياء ويحصل للآخر أمور أخرى، هذا ليس عنده زرع لكن نقص الثمرات حصل لهذا، وقد يجد ذلك أو أثر ذلك المجموع في النهاية نقص الثمرات في عام، أو في أعوام ثم يكون ذلك سببًا لارتفاع الأسعار، فيعم ذلك الجميع، وهكذا نقص ألوان الأموال، لو أن هذه البهائم التي يأكل الناس لحومها قلت، أو مرضت، أو نحو ذلك، فإن المعروض منها سيكون قليلاً، وسترتفع الأسعار في السوق، فيطال ذلك الجميع.
والخطاب في قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ للأمة بمجموعها، بما في ذلك أصحاب النبي ﷺ بعض أهل العلم يقول: قيل إنما ابتلوا بهذا ليكون آية لمن بعدهم، فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين اتضح لهم الطريق، لكن الذي يظهر أن الخطاب لعموم الأمة، وأن ذلك مما يوطن النفوس على الاحتمال والصبر.
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ يكون للصابرين من البُشرى بقدر ما عندهم من الصبر، ويكون لهم من صلوات الله تعالى ورحمته بقدر ما عندهم من الصبر.
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:156، 157] فبقدر ما يكون عند العبد من الصبر والاحتساب يكون له من الصلوات والرحمة والاهتداء والبشرى هذه الأربع؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.
إذا العبرة بالصبر وليس بشيء آخر، والناس تظهر عقولهم في أفراحهم وحال المصائب، الأفراح والأتراح، يظهر ما بهم من الجزع في المصائب والضعف والانهيار، هذا الإنسان الذي تراه أحيانًا قامة ومنطق قد يتحول إلى شيء آخر في حال المصيبة، حال من الانكسار والانهيار، والضعف والتلاشي.
وكذلك في حال الأفراح قد يصير الناس إلى حال من الخِفة، فيفقدون صوابهم، ويتصرفون تصرفات السفهاء في أفراحهم لاسيما النساء، يُعرف عقل الإنسان، ونُضج الإنسان في هذه الأحوال التي يختل فيها توازن البعض؛ فإن الحزن الغالب، أو الفرح الغالب قد يختل معه التفكير، فيتصرف تصرفات لا تليق، تُعاب عليه، لا تصدر من العقلاء.
العبرة بالتماسك، بالصبر، عندهم مصيبة مات لهم أحد، كيف حال هؤلاء الناس من السكينة والطمأنينة والصبر والاحتساب، فيُعرف أن هؤلاء على خير، لكن إذا كانوا في حال من الجزع والعويل والانهيار، وذلك لا يرد لهم سليبًا، ولا فائتًا لو عقلوا.
وقل مثل ذلك في حال الفرح، أحيانًا تجد نوعًا من الارتجاج، والاضطراب والخفة، وتجد آخرين في حال الفرح في سكون، سكينة، ولباس لائق -أعني النساء- ويظهر عليهم البِشر والفرح ليسوا بحزن، ولكن تظهر عليهم دلائل العقل، وأمارات الوقار والسكينة، يعني: لا يُصيبهم خفة، لا يفقدون توازنهم، هذا يُعرف بلباس أهل هذه المناسبة، والناس يرمقونهم، وينظرون إليهم كيف يلبسون؟ كيف يتصرفون؟ كيف يستقبلون الناس؟، ما الذي يضعونه في هذه المناسبة؟
فالبعض أحيانًا يتصرف تصرفات لا تصدر عن العقلاء، الحلوى تستورد من بلاد من وراء البحار بقدر كذا وكذا، ولربما كان هذا المكان الذي يُقام فيه هذا الاحتفال بمئات الألوف في ليلة واحدة، اللباس الذي تلبسه هذه المرأة لربما أيضًا بمئات الألوف، وقل مثل ذلك في الأثاث والأطباق والطعام الذي يُقدم، ولربما يفتخرون أنهم يأتون بأمهر الطباخين من بلاد بعيدة في هذه المناسبة، هذا يدل على شيء من البطر، والتباهي، وقلة العقل، هذه هي المعايير الصحيحة.
قد لا يقف عند باب الإنسان كثيرون من المعزين، وقد لا يأتيه وجهاء، وقد لا يأتيه لكن ما حاله من الصبر؟ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ لم يقل وبشر الذين جاءهم معزون كثيرون، وازدحم الناس عندهم لعزائهم، إنما قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:155- 157] فهذه صفتهم، يقولون: نحن عبيد لله -تبارك وتعالى- مملوكون له مُدبرون بأمره وتصريفه، يفعل بنا ما يشاء، وإنا إليه راجعون بالموت ثم البعث والحساب، هذا الموضع الذي نتحدث عنه في الليلة الآتية -إن شاء الله تعالى- في صفة هؤلاء الصابرين.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- تفسير ابن كثير (6/ 392).
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، رقم: (2999).