بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:155- 157].
تحدثنا في الليلة الماضية عن قوله -تبارك وتعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:155] وذكر صفة هؤلاء بأنهم إذا أصابتهم مصيبة وقع لهم ما يكرهون قالوا: إنا لله، نحن عبيد له مملوكون لربنا وخالقنا يتصرف فينا كما شاء، ثم سنصير إليه ثانية، ونرجع إليه في القيامة.
يؤخذ من هذه الآية: فضل الصبر، وما لأهله من البُشرى، وما سيكون لهم من ألوان الهدايات والصلوات، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] فهؤلاء هم أهل الاهتداء، وأهل الصلوات، وأهل الرحمة، كل ذلك جعله لأهل الصبر.
فالصبر مع كونه واجبًا من الواجبات إلا أنه أيضًا من أفضل الأعمال وأجلها، ويكفي هذا الموضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- هذه الآية في بيان عظيم منزلة الصبر وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أما الرضا فهو فوق الصبر، والأرجح أنه لا يجب مرتبة الرضا، فالصبر واجب، والرضا مُستحب، والشكر فوقهما يعني أن يشكر الله -تبارك وتعالى- على المصيبة، وقد جاء هذا عن بعض السلف، فالمرء لا يتمنى البلاء، ولكنه إذا اُبتلي صبر، وكان هؤلاء يغتبطون بالبلاء كما يغتبط غيرهم بالسراء والنعماء؛ لأنهم يعتقدون أن ذلك من اختيار الله -تبارك وتعالى- وهو العليم الحكيم، وأنه لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وأن الله يُمحصهم بذلك ويرفعهم إلى الدرجات العالية؛ ولهذا تجد مثل معاذ بن جبل لما وقع الطاعون في الشام كان يُقبل ذلك الموضع من يده لما أُصيب بالطاعون على المنبر أمام الناس[1].
والمنقول عنهم في هذا كثير، وقد ذكرته في الكلام على الأعمال القلبية، وذكرت نماذج كثيرة من هذا في الصبر والرضا والشكر، وكيف كان صبرهم؟ وكيف كان رضاهم؟ وكيف كان شكرهم لله على السراء والضراء؟ وقد قال الحسن البصري -رحمه الله: "الرضا قليل، ولكن الصبر معول المؤمن"[2].
يعني: لا يتقاصر دونه، ولكن الرضا قد لا يصل إلى مرتبته أكثر الناس، فكيف بالشكر حال المصيبة، هذه درجات عالية جدًا لا يصل إليها أكثر أهل الإيمان، لكن الناس يشكرون على النعماء، وهذا واجب بلا شك، وأما الرضا فهو مُستحب، لكنه إن تسخط على أقدار الله فإن ذلك يُخرجه عن الصبر، وليس الرضا فحسب.
وحينما يتأمل المؤمن مثل هذه الآية: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ البشرى هنا ما قال لأهل النعمة، ولأهل العطاء، ولأهل المِنح من المحاب، وإنما قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ فإذا استشعر المؤمن مثل هذا فإذا وقع له ما يوجب الصبر من الأمور المكروهة تذكر البشرى وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ خصهم بالبِشارة؛ وذلك للربط على قلوبهم وتثبيتها في حال المصائب والمكاره والآلام، وقد جُبلت هذه الحياة على ذلك.
جبلت على كدر وأنت تريدها | صفوًا من الأقدار والأكدار |
هذا لا يتحقق ولا يتأتى لأحد، فالدنيا لا تصفوا لا للأنبياء، ولا لغير الأنبياء، لا تصفوا للكبراء، ولا للصعاليك، فالكل يُكابد فيها والكل سيرحل، ولن يبقى إلا وجه الله فإذا أيقن المؤمن بمثل هذا وهذه البُشرى؛ فإنه يتفاءل، ويحسن ظنه بربه -تبارك وتعالى- فقوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:155، 156] مع قوله: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] فهذا كله مما يروض النفوس ويوطنها على تحمل الصِعاب والمصائب والمكاره، وأن ذلك جميعًا يُقابل بالصبر الذي يعقبه الأجر والرفعة، ولو عقل المرء ونظر في أن الجزع لا يرد له فائتًا، وأن التسخط لا يعود عليه بطائل لرضي وصبر، واطمئن قلبه، وارتاضت نفسه، وأن التدبير بيد العليم الحكيم، فهو في أمان وراحة وطمأنينة؛ لأن الذي يُدبره هو ربه وخالقه، وهو أرحم الراحمين، ولذلك انظروا تعليق ذلك بهذين الاسمين الكريمين بأرحم الراحمين حينما يكون ذلك مستشعرًا لدى أهل الإيمان؛ فإن ذلك يعني بالنسبة إليهم أن الله أرحم بهم من أنفسهم.
ويؤخذ هذه الآية أيضًا: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:156] هذه الآية تضمنت من المعاني الجامعة من توحيد الله -تبارك وتعالى- والإقرار له بالعبودية، والبعث والنشور من القبور، واليقين بأن رجوع الأمر كله لله -تبارك وتعالى- كما هو له إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:156] فكل ذلك يورث الطمأنينة في نفوس أهل الإيمان، وقد جاء عن سعيد بن جبير -رحمه الله: أنه لم يُعط هذه الكلمات نبي قبل نبينا[3].
قالوا لو أُعطيتها يعقوب لما قال: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ [سورة يوسف: 84] [4].
ويؤخذ من هذه الآية ومن التوكيد فيها: قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ يعني: إننا لله، فإن هذ تفيد التوكيد، فالمقام مقام يقتضي التوكيد، هو مقام اهتمام وعناية إِنَّا لِلَّهِ وكذلك أيضًا اللام هذه للِملك، نحن من أملاكه، يملكنا الله والمالك يتصرف في ملكه كما شاء، فهذا يُنسيه الألم والمصيبة، ويهولها في نفسه اللام للملك إِنَّا لِلَّهِ.
ثم توكيد مرة أخرى بـ "إن" وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فجعل هذه جملة مستقلة، وهذا جملة مستقلة، وأكد الجملة الثانية بالاسم رَاجِعُونَ باسم الفاعل فذلك يدل على الثبوت أن هذا الرجوع مؤكد، وأنه أمر ثابت؛ فإذا كان الجميع سيرجع إلى الله -تبارك وتعالى- وأن الآخرة هي دار القرار والنعيم المقيم، أو العذاب الأليم فما قيمة هذه الحياة الدنيا؟ وما قيمة هذه المصائب التي تقع فيها؟
عن أم سلمة، أنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله ﷺ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله ﷺ...[5].
أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] أولئك الصابرون الذين يقولون عند المصائب: إنا لله وإنا إليه راجعون عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ هذا بعد البُشرى لهم، صلوات، فصلاة الله على عبده أن يذكره في الملأ الأعلى، وذكر الرب لعبده في الملأ الأعلى يُنسيه كل شيء، وإذا ذكره في الملأ الأعلى فلا تسأل عن الألطاف التي تتوجه إلى هذا العبد، لا تسأل عن هذه الألطاف، الإنسان -أيها الأحبة- من أهل الدنيا حينما يُمنى بمصيبة، حينما يُصاب بمصيبة، ثم بعد ذلك يأتيه العزاء ممن يُعظمه؛ فإن ذلك يُخفف عليه المصيبة، لما يتصل عليه من يُعظمه، يُخفف عليه المصاب، أو حينما يُقال له إن فلانًا يُقرئك السلام، ويُبلغك تعازيه، ويذكرك بالأوصاف الكاملة؛ فإن ذلك يهون عليه مصيبته، ونحن نشاهد بعض الناس بل كثيرًا منهم لربما جاءه من له قدر في نفسه فيُصرح بأن ذلك أنساه مصيبته، هذا من مخلوق، فكيف بالله -تبارك وتعالى- حينما يذكر عبده في الملأ الأعلى؟
هذه صلاة الله على عبده، وهي تقتضي نزول الألطاف والرحمات بهذا العبد، والصلوات هنا نُكرت للتعظيم، وجُمعت للتكثير، صلوات وما خص هذه الصلوات في الدنيا، فهي في الدنيا وفي البرزخ، وفي القيامة، وفي الجنة، تتنزل عليهم هذه الصلوات وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] للصبر والرضا والاحتساب أن يعلم أنها من عند الله -تبارك وتعالى- فيرضى ويصبر وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [سورة التغابن:11] كما فسرها السلف يعلم أن هذه المصيبة من عند الله فيرضى ويُسلم.
أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ لاحظ الإشارة إليهم بالبعيد؛ لرفعة منزلتهم ومكانتهم، وعلو مرتبتهم؛ فإن الإشارة بأولئك هي للبُعد، فهؤلاء بهذه المرتبة والمنزلة وذلك لصبرهم واحتسابهم.
وهكذا أيضًا هذه الصلوات التي تكون لهم فإنه يكون بمقتضاها ألوان الهدايات، والرشاد، والتوفيق، والتسديد والألطاف الربانية.
ولاحظ مرة أخرى بالإشارة للبعيد وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] فكرر اسم الإشارة للبعيد لإظهار كمال العناية بهؤلاء، وأن مرتبتهم في الاهتداء قد بلغت الدرجات العالية، فهم في أعلى مراتب المهتدين، ودخول ضمير الفصل هنا: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] دخول أل كما ذكرنا في عدد من المناسبات يُفيد دخول ضمير الفصل وَأُوْلَئِكَ هُمُ لتقوية النسبة بين طرفي الجملة، نسبة الاهتداء إلى هؤلاء، ودخول أل يُشعر بالحصر، كأنه لا مُهتدي غير هؤلاء، كأنك تقول هذا هو الكريم، هذا هو العالم، هذا هو البر، ونحو ذلك.
فهذا كأنهم قد حازوا الأوصاف الكاملة في الاهتداء، وجاء التعبير أيضًا باسم الفاعل الْمُهْتَدُونَ ليدل على الثبوت، فالهداية وصف راسخ ثابت لهم.
فالذي يجزع كم يفوته من هذه الرحمات، والألطاف، والأوصاف الكاملة ومراتب الكمال، وكم يفوته أيضًا من الأجر مع أنه لو عقل لم يستدرك شيئًا بجزعه.
أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ولاحظوا أنه فرق هنا بين الصلوات والرحمة، فالصلوات هي ذكر العبد في الملأ الأعلى، والرحمة نزول الألطاف، مع أن ذلك من مقتضيات الصلوات، لكنه صرح بها بهذه العبارة، كل ذلك للعناية بهم والاهتمام بشأنهم وتطمين نفوسهم بهذه الأجور والجزاء العظيم وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157].
أخر هذه الجملة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ يحتمل أن يكون ذلك نتيجة لهذه الصلوات، فيعقبها الاهتداء، ويحتمل أن يكون هذا من أسباب صبرهم، هذا الاهتداء هو سبب لصبرهم الذي حصل بسببه هذه الصلوات، فذكر الجزاء أولاً تطمينًا للنفوس، وأخر الوصف الذي أوجب لهم مثل هذه المراتب، والله تعالى أعلم.
ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصبر واليقين، والثبات على الحق، وأن يرزقنا وإياكم الرضا والشكر، إنه سميع مجيب، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- مسند أحمد (3/ 225)، رقم: (1697).
- الزهد لهناد بن السري (1/ 234).
- تفسير القرطبي (2/ 176).
- زاد المسير في علم التفسير (1/ 125).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، رقم: (918).