بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
كان حديثنا متعلق بقوله -تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [سورة البقرة:165].
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:166، 167] فهؤلاء حينما يُعاينون العذاب في الآخرة، يتبرأ الرؤساء المتبعون من الأتباع إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [سورة البقرة:166] هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يُحبونهم كحب الله لو يرون العذاب يوم القيامة لعرفوا أنهم كانوا في ضياع وذهاب عن الحق، وأنهم كانوا يبذلون المحبة والطاعة والعبادة لمن لا يستحقها، فهنالك يتبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا، ويرون العذاب معاينة، وتتقطع الوصلات التي بينهم.
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ من قرابة في الدنيا واتباع ودين وغير ذلك من الروابط، فكل ذلك ينحل ويتلاشى، ويبقى الواحد منهم منفردًا يواجه مصيره، ويلقى جزاء عمله، عند ذلك تحصل لهم الحسرات، فيقول الأتباع: يا ليت لنا عودة إلى الدنيا، فنُعلن براءتنا من هؤلاء المتبوعين، كما أعلنوا براءتهم منا، ونتبرأ منهم كما تبرؤوا منا.
كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ فيرون هذه الأعمال الباطلة من الشرك، وما كانوا يعملونه، ويتقربون به في الحياة الدنيا إلى غير الله -تبارك وتعالى- مما يرجون به الثواب، وينتظرون عائدته في الآخرة، فكل ذلك يتحول إلى حسرات، كفرهم يرونه حسرات، ومعاصيهم يرونها حسرات عليهم يوم القيامة، فيحصل لهم غاية الندم، ويُخلدون في النار، لا يخرجون منها أبدًا.
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ [سورة البقرة:166] فهؤلاء حينما عبدوا غير الله، واتبعوا من لا يستحق الاتباع، خاب ظنهم، وبطل سعيهم، وحق عليهم عذاب الله -تبارك وتعالى- ولم تدفع عنهم هذه الأنداد، ولا هؤلاء الذين يتبعونهم من دون الله -تبارك وتعالى- شيئًا، ولم يُغنوا عنهم من عذاب الله من شيء، بل يتحول ذلك كله إلى ضرر ونكد وندامة وحسرة، وعند ذلك تحصل البراءة التي يحصل بها غاية الندامة، حينما يتبرأ المتبعون من المُتبعين، فيتمنون لو أنهم رجعوا ثانية ليتبرؤوا منهم في الدنيا، وهكذا العلاقات وكل ما لا يُراد به وجه الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك كله يتلاشى ويزول.
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ إنما يوصل إلى الله -تبارك وتعالى- بالإيمان والعمل الصالح، ومن كان يظن أنه يصل بأعمال مُبتدعة، أو بشرك بالله أو كان يظن أنه يصل إلى الله عبر طرائق مُحدثة، ينتسب إليها من طرق صوفية وخرافة، وما إلى ذلك، فهؤلاء مخطئون فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110] فلا ينفعه عند ذلك متبوع: من شيخ لطريقة، أو من سادن قبر، أو من غير هؤلاء من المُضلين إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166].
وهكذا حينما يُطيع الإنسان أحدًا من الخلق فيما يدعوه إليه، ويأمره به، وإن كان مخالفًا لأمر الله فهؤلاء أيضًا يندمون، ويُدركون يوم القيامة أنهم قد وضعوا الطاعة في غير موضعها، ويتحسرون حيث لا ينفع الندم إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [سورة الأحزاب:67] فهذا العذر لا يُقبل، ولا ينفع، ولا يُجدي عنهم شيئًا، فعلى العبد البِدار في سلوك الطريق التي تحصل بها النجاة عند الله أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [سورة يونس:62، 63] فالإيمان والتقوى والعمل الصالح، والاعتصام بالكتاب والسنة ظاهرًا وباطنًا فهذا هو الطريق.
وتأمل قوله -تبارك وتعالى: إِذْ تَبَرَّأَ [سورة البقرة:166] فجاء بالفعل الماضي بعد إذ إِذْ تَبَرَّأَ [سورة البقرة:166] مع أن هذا الأمر سيقع في المستقبل، سيتبرأون منهم، فعبر بالماضي لأنه متحقق الوقوع، فيُعبر بالماضي عن المستقبل إيذانًا وإشعارًا بتحقق وقوعه وحصوله، كما قال الله في أول سورة النحل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1] يعني: القيامة، والقيامة لم تأتِ بعد، لكنه عبر بالماضي عن مستقبل لأنه مُتحقق الوقوع.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية والتي بعدها: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [سورة البقرة:167] أنه ينبغي للمؤمن أن لا يكون إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، فإن ذلك لا يكون له عذرًا عند الله -تبارك وتعالى- وإنما عليه أن يطلب الحق، وأن يلزمه، وأن لا يتبع غيره في أمر من الأمور إلا إذا تبينه، كما سمعتم في الآية التي كانت في هذه الصلاة: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [سورة الإسراء:36] وَلا تَقْفُ أي: لا تتبع، و(ما) تفيد العموم مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ في قضايا الاعتقاد والعمل، والسلوك، والشائعات والأخبار وما يُنشر وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] لا تقل قولاً لم تتبينه، ولا تحكم بحكم لم تتبينه، ولا تعتقد اعتقادًا لم تتوثق من صحته، ولا تتقرب إلى الله بعمل لم تتيقن مشروعيته، وتعلم ذلك وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36].
ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [سورة البقرة:167] أنهم في هذه الحال يتمنون لو أنهم عادوا إلى الدنيا ثانية، وتخلصوا مما تورطوا فيه، فالعاقل في زمن الإمكان ينبغي عليه أن يعمل بما تمناه هؤلاء الذين خابوا، وأدركوا وعاينوا الحقائق، فيتمنون الرجوع، لكن بعد فوات الأوان، فهذا النفس طالما أنه يتردد، وهذه الروح تعمر الجسد، فلا زال الفرصة مُمكنة، فينظر العبد فيما تمناه هؤلاء الذين قد شاهدوا وعاينوا، ويعمل على حال ينجو منها من مثل هذه الأماني والمواقف، حيث لا ينفعه ذلك التمني.
ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167] فعبر هنا بالجملة الاسمية وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ ولم يُعبر بالفعل، فلم يقل: وما يُخرجون من النار؛ لأن الجملة الاسمية تدل على الثبوت، فهي تفيد أن بقاءهم في النار ثابت باقٍ أبدي سرمدي، فذلك تقنيط لهم من الرجوع إلى الحياة الدنيا، أو الخروج، فهذا الحكم لن يتبدل، ولن يتحول، ولن يتغير، فهم خالدون فيها أبدًا، نسأل الله العافية، فليست مدة معينة يُرجي الإنسان الخروج بعدها، ولو طالت، ولكنه بقاء بلا انتهاء، وبلا أمد، لا يُحد بالزمن الطويل الكثير الذي يمكن أن يصل إليه مدارك البشر في الإحصاء والعد، بل هو شيء لا انتهاء له.
فالإنسان قد يتبرم ويضيق ذرعًا بعلة تنزل به، وشدة تحل به، فكيف بالنار التي تلظى، يبقى فيها أبدًا على هذه الحال؟! فلو بقي الإنسان مدة طويلة بلا انقضاء في العراء والبرد والشمس، ونحو ذلك لأهلكه هذا، ولم يُطق هذا اللون من العذاب، فكيف بنار وقودها الناس والحجارة؟! فهذا لو تفكر به العاقل لاشتغل بطاعة الله وانكف عن كل ما لا يليق، وصار في حال من الإخبات والعبادة والطاعة والانقياد في ظاهره وباطنه، ولكنها الغفلة الغالبة علينا، فهي التي تجعل الإنسان ينطلق ويلهو في هذه الدنيا، ويأخذ، ويقول، ما لا يحل، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك أين فلان؟ يُقال: ارتحل، وعندها يجد أعماله تتمثل له في صور وأشكال، إما أن يُسر بها، وإما أن يُساء.
والعذاب في هذه الدنيا يقع على الجسد بالدرجة الأولى، والروح تبع، وفي البرزخ يقع على الروح والجسد تبع، وفي الآخرة يقع على الروح والجسد على حد سواء؛ وذلك غاية النعيم، أو غاية العذاب والألم، وتجد في صفات العذاب: مُهين، فالإهانة أمر نفسي ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:49] والتبكيت قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] فهذه أمور نفسية.
وكذلك أيضًا بمثل قوله -تبارك وتعالى- في صنوف العذاب: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [سورة القمر:48] فالسحب على الوجه يحصل به إيلام الجسد، ويحصل به إذلال وإهانة، وقل مثل ذلك أيضًا في الأغلال في الأعناق، والسلاسل يُسحبون، وما إلى ذلك هذا كله يقع فيه الإيلام النفسي والجسدي، فكل هذا -نسأل الله العافية- حاصل لأهل النار.
كما أن أهل الجنة يتنعمون من هاتين الناحيتين النفسية والجسدية، فتسليم الله -تبارك وتعالى- عليهم، ورؤيتهم لوجهه التي هي أعظم النعيم، وهكذا ما يلتذون به من النظر إلى صنوف النعيم، على سُرر متقابلين، فالتقابل على السرر، ونحو ذلك، هذه لذات نفسية، واللذات الجسدية من أنواع المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح، وكذلك المساكن الواسعة الفارهة، التي يكونون فيها، فكل هذا تُنعم به الأجسام، كما تتنعم به الأرواح.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.