الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
[127] قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا..}
تاريخ النشر: ٢٩ / صفر / ١٤٣٧
التحميل: 1088
مرات الإستماع: 1649

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- حال أهل الإشراك بمحبتهم لمعبوداتهم من دون الله -تبارك وتعالى- وما يؤول إليه حالهم من العذاب، الذي يتحسرون عنده، على ما كانوا عليه من الشرك، وعبادة غير الله -تبارك وتعالى- وعندها يتبرأ المتبوعون من الأتباع، ويتمنى الأتباع كرةً ليتبرأوا منهم، وينخلعوا من رِبقة اتباعهم وطاعتهم.

ثم بعد ذلك وجه الخطاب إلى الناس بالأكل مما في الأرض حلالاً طيبًا، وترك اتباع خطوات الشيطان في التحليل والتحريم، والقول على الله بلا علم، وعبادة غير الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه- وبيّن أنه إنما يأمر بالسوء والفحشاء والقول على الله -تبارك وتعالى- بلا علم.

ثم عاد الحديث إلى حال المشركين وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [سورة البقرة:170] إذا قال لهم الرسول ﷺ: اتبعوا ما أنزل الله من الهدى الكامل والوحي، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فآثروا تقليد الآباء، واقتفاء آثار هؤلاء الجُهال بالله -تبارك وتعالى- وبشرعه على ما أنزل الله  فالله يُنكر عليهم ويقول: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [سورة البقرة:170] فجاء بهمزة الاستفهام الدالة على الإنكار أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [سورة البقرة:170] فهل يسوغ لهم اتباعهم، واقتفاء آثارهم، ولا يهتدون إلى شيء صحيح في باب الاعتقاد، أو العمل والتشريع، فهم في عمى، وجهالة تامة.

ثم قال في بيان مثل هؤلاء في حال دعوتهم، حينما توجه إليهم الدعوة وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة البقرة:171] مثل الذين كفروا أي: شبه هؤلاء الكفار حينما توجه إليهم الدعوة، فيكون هذا المثل على قول مشهور جدًا في التفسير، هو أن هذا المثل مضروب لداعي المشركين، مع هؤلاء الذين لا يعقلون، ولا يسمعون سماع انتفاع، ولا ينطقون بحق، ولا يُبصرونه، فهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، كمثل الراعي الذي ينعق بغنمه، فهي لا تسمع إلا جرس صوته، ولكنها لا تعقل منه شيئًا.

فهؤلاء الكفار حينما يسمعون صوت الداعي إلى الله -تبارك وتعالى- يدعوهم إلى الإيمان وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ هم بمنزلة تلك الأنعام مع راعيها، لا ينتفعون، ولا يعقلون، وعلة ذلك هي ما ذكره الله -تبارك وتعالى- صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [سورة البقرة:171] فهم صُم لا يسمعون سماع انتفاع، وبُكم لا يتكلمون ولا ينطقون بالحق، ولا يتكلمون بشيء ينفعهم، وعُمي لا يُبصرون الحق، كما قال الله -تبارك وتعالى- في أول هذه السورة الكريمة: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:7] فصار هؤلاء في حال من العمى والضلالة، بحيث لا يكون المحل قابلاً لتوجيه الخطاب، أو الاستجابة والانتفاع بما يُخاطبون به، فهم لا يعقلون عن الله، ولا يعقلون الخطاب، ولا ينتفعون بشيء من ذلك.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ [سورة البقرة:170] لم يُحدد القائل، فلم يقل: وإذا قال لهم الرسول ﷺ: اتبعوا ما أنزل الله ليصلح ذلك لكل داعٍ، في كل وقت وحين، هذا حال أولئك الذين قد أصمهم الله، وأعمى أبصارهم، فهم لا ينتفعون إذا وجه إليهم الخطاب، ودعوا إلى الله -تبارك وتعالى- سواء كان الذي يُخاطبهم هو الرسول ﷺ أو كان المُخاطب غيره من الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- من أصحاب النبي ﷺ أو ممن يأتي بعدهم، فهؤلاء جوابهم واحد وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ [سورة البقرة:170].

ولاحظ التعبير هنا بالأمر بالاتباع؛ لأن مبنى ذلك على التسليم والانقياد، فالذي يتبع غيره يكون خلفه، تابعًا له، يقفو أثره، وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان مع الوحي في غاية التسليم والانقياد، فيكونون في حال من الاستجابة لا يحصل معها التمنع أو التردد إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النور:51] وهذه هي حقيقة الإسلام فهو الاستسلام الكامل لله -تبارك وتعالى- ظاهرًا وباطنًا، لا يكون في القلب أدنى اعتراض على تشريع الله في أحكامه الدينية، ولا على أقداره الكونية، وإنما هو الرضا والتسليم.

وكذلك أيضًا فيما يتعلق باتباع الرسول ﷺ فالمؤمن حاله هي الاتباع للرسول، و(ما) هذه تُفيد العموم، فالمؤمن مُطالب باتباع كل ما أنزل الله دون أن يكون له اختيار آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ولاحظ التعقيب: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285] استجابة كاملة، ومع ذلك قالوا: غفرانك؛ لأنه لا يخلو من تقصير وتفريط وضعف وعجز.

ويُؤخذ من هذا إثبات صفة العلو لله -تبارك وتعالى؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل.

ويُؤخذ منه أيضًا: أن القرآن مُنزل من عند الله -تبارك وتعالى- وليس كما يقول بعض المنحرفين أن الله خلقه، وألقى المعنى في نفس محمد ﷺ وعبّر عنه بأسلوبه وعبارته، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، فهذا كلام الله بألفاظه ومعانيه.

اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فهو القرآن والهدى الذي تضمنه، ويدخل في عموم ما أنزل الله الوحي الآخر، وهو ما أوحاه إلى رسوله ﷺ من الحكمة، وهي السنة التي تشرح القرآن.

اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [سورة البقرة:170] هذا هو جوابهم ومردودهم، ولاحظ التعبير نظير ما طولبوا به، وخوطبوا به اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [سورة البقرة:170] فهذا الذي يُسمى بشرك الطاعة والاتباع، فهم يتبعون الآباء في التحليل والتحريم والتشريع من دون الله -تبارك وتعالى- فيستحلون الحرام، ويحرمون الحلال، والله جعل ذلك شركًا أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [سورة الشورى:21].

وفي مسألة ربما تبدو يسيرة جرت المحاورة والمناظرة بين فريق الإيمان وفريق الكفر من أهل الإشراك، في الذبيحة، فالكفار قالوا: إنكم تزعمون أن ما ذبحتم بأيديكم حلال طيب طاهر، وأن ما ذبحه الله -تبارك وتعالى- بيده الشريفة حرام، ويقصدون الميتة، إذًا: أنتم أحسن من الله، هذه الشبهة، فالله -تبارك وتعالى- نهى أهل الإيمان، فقال: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [سورة الأنعام:121].

فشياطين الجن تُلقي الشُبهة على شياطين الإنسان من أجل أن يُجادلوا أهل الإيمان، فبعض الشُبه مُلقاة من بعض شياطين الجن وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] فحكم عليهم بالإشراك إذا أطاعوهم في مسألة تحليل الميتة، فكيف بالتشريع الكامل؟! بَلْ نَتَّبِعُ مَا فـ(ما) تفيد العموم مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [سورة البقرة:170] فيدخل في ذلك كما وجدوا عليه آباءهم؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء الجاهلين: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا [سورة الأعراف:28] هذه هي الحجة عندهم، وجدنا الآباء على الفاحشة وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا فأثبت لهم الأول، وأقره وسكت عنه؛ لصحته، ونفى الثاني قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:28] والقاعدة: أن ما ذُكر من مقالات القائلين في القرآن إذا جاء معه في السياق أو السباق أو اللاحق ما يدل على رده وإلا فهو صحيح غالبًا، يعني: إذا أُقر لم يأتِ الرد، فهنا ذكر قضيتين إحداهما باطلة، والأخرى صحيحة، فرد الباطلة، وسكت عن الصحيحة، كما في قوله -تبارك وتعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فلم يقل: رجمًا بالغيب ففُهم منها كما قال شيخ الإسلام أنها هي المقالة الصحيحة.

بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [سورة البقرة:170] يعني: ما وجدنا عليه آباءنا، ولم يذكر الأمهات باعتبار التغليب، أو باعتبار أن الآباء هم الذين تكون لهم الطاعة والاتباع والاقتداء والاتساء، فيكون الآباء هم المقدمون عندهم، وإنما يعتزون بآبائهم في المحافل، ويتفاخرون بهم، فيقولون: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [سورة البقرة:170] هكذا تُرد دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بهذه الحجة الواهية، فيأتي الرد من الله -تبارك وتعالى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [سورة البقرة:170].

فهؤلاء الآباء الذين يتبعونهم وينقادون لهم مستعيضين بذلك عن وحي الله وهداه أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [سورة البقرة:170] فالنفي جاء مُطلقًا (شيئًا) نكرة في سياق النفي، يعني لا يعقلون شيئًا أبدًا، لا قليلاً ولا كثيرًا؛ لماذا؟ لأنهم صُم بُكم عُمي، هم يعقلون في الأمر المعيشي، وفي أمور الحياة، ومتطلبات المعايش والمكاسب، ونحو ذلك، ولكنه فيما يتصل بالهدى لا يعقلون شيئًا وَلا يَهْتَدُونَ [سورة البقرة:170] فلا يتوصلون إلى حق، فهم أعمى الناس، وأجهل الناس عن ذلك.

وهكذا حال كل من أعرض عن هدى الله والوحي الذي أنزله على رسوله ﷺ فهو ممن لا يعقل شيئًا ولا يهتدي، ولو كانت عنده العلوم والمعارف الدنيوية، ولو كان بيده أنواع الثروات، أو يعلم وجوه المكاسب، ونحو ذلك الواقع أنه لا يعقل شيئًا، ولا يهتدي فكفى ترفيعًا وتعزيزيًا وتعظيمًا لأقوام ممن لا يهتدون بهدى الله من الوثنيين وغيرهم، فيُضرب بهم المثل لأهل الإيمان في كل شيء للأسف، تُحطم هذه الأمة وكأنها لا تملك مقومات، ولا يوجد عندهم مكتسبات، ويُضرب لهم الأمثال بأقوام من الوثنيين الشرقيين وغيرهم برسائل يتواصلها الناس ويتراسلون بها عبر وسائل، يُقال لهم: أين أنتم من هؤلاء؟

وكأن الأمة صارت هي التي لا تعقل شيئًا، وهذا الكلام غير صحيح، إن أولئك من الكفار والوثنيين قد حصلوا من أسباب المعايش الدنيوية والمكاسب وبناء وعمارة الدنيا، لكنهم كانوا أجهل الناس في أهم المهمات، وأعظم الأمور، وهو معرفة المعبود وعبادته وطاعته، والإيمان به، وكذلك الاهتداء بوحيه الذي أنزله على رسوله ﷺ هم لا يعرفون هذا، ولا يرفعون بذلك رأسًا، فهم أحط الناس لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون.

فمن جهل هذه القضايا الكِبار والمهمات العِظام فهو لا يهتدي مطلقًا، ولا يعقل شيئًا، ولو كان قد جمع الدنيا بيديه، فالله أخبر عن الأولين وهؤلاء الذين حدث عنهم كانت لهم علوم ومعارف في أمور دنيوية من وجوه المكاسب والتجارات، وما إلى ذلك، والله ذكر رحلة الشتاء والصيف، وكان لهم من الذكاء وما إلى ذلك لكنهم أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء، أوتوا عقولاً ولم يؤتوا فهومًا، نسأل الله العافية.

فقد يكون البليد خير من الذكي الأريب إذا كان هذه البلادة توصل إلى الله، وإذا كان الذكاء يصرف عنه اغترارًا بهذا الذكاء، أو اغترارًا بما حصله الإنسان من المعارف والعلوم، أو إذا كان الغِنى والكسب المادي الدنيوي يورث الغرور، فيصد صاحبه عن ربه وطاعته والإيمان به، فهذا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [سورة البقرة:170]. 

ولاحظ أنه قال: وَلا يَهْتَدُونَ ولم يقل: ولا يهتدون في أوصاف المعبود أو في وحدانيته، أو لا يهتدون إلى الدار الآخرة، أو لا يهتدون إلى شرائع الإسلام، فحُذف المعمول، وحذف المُقتضى يُحمل على أعم معانيه المناسبة في كل موضع بحسبه، فهم لا يهتدون إلى شيء من الهدى الذي يُطلب، والذي يُنتفع به، وتتوقف السعادة في الدنيا والآخرة عليه، ولا يهتدون إلى الله ووحدانيته، ولا يهتدون إلى وحيه، ولا إلى شرعه وصراطه المستقيم الذي رسمه لعباده من أجل سلوكه، هم لا يهتدون إلى شيء من ذلك، فأطلق، وهذا الإطلاق الأصل أنه محمول على العموم، كما قلنا، فهو كالعموم الذي قبله في قوله: لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا فما دام أنهم لا يهتدون بأي نوع من أنواع الاهتداء، فهم أبعد الناس عن العقل الصحيح الذي ينفع، وهم أيضًا أبعد الناس عن الاهتداء، وهذا يدل على أنهم أضل الناس.

وانظر إلى ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن الفلاسفة، مع أنه أقر أنهم من أذكياء العالم، وأثنى على علومهم الرياضية والطبية، وما أشبه ذلك من علوم الفلاسفة قديمًا، وأن كلامهم فيها في الغالب جيد كما يقول، ولكن لما ذكر الإلهيات قال: هم أضل الناس، فأضل الطوائف هم الفلاسفة، يعني: أضل أيضًا من المشركين من مشركي العرب؛ لأن مشركي العرب يؤمنون بالله، ولكن يُشركون معه غيره.

أما هؤلاء الفلاسفة فهم يقولون: إن الذي يُدبر العالم هي العقول العشرة، ويذكرون: العقل الفعال، وما يكون تحته مما يسمون من العقول، ويزعمون أن الكواكب التي يذكرونها بعينها أنها تؤثر في الأحوال الأرضية، وأنها تُدير أمر هذا العالم، وما أشبه ذلك، فهم أضل الناس في هذا الباب، لا يعرفون الله، مع أنهم في غاية الذكاء، وعلوم الفلاسفة كثيرة جدًا، منها هذه العلوم النافعة من الطب والرياضيات والهندسة والجبر، وما أشبه ذلك، ومع ذلك هم أضل الناس، فكل من لم يعرف الله ولم يهتد بهداه فهو لا يعقل ولا يهتدي شيئًا، وإذا وضعت ذلك نُصب عينيك وضعت الأمور بنصابها، وأعطيت الناس أقدارهم، كما جاء عن النبي ﷺ: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة[1] ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان[2].

فالمعيار والمقياس عند الله -تبارك وتعالى- يختلف عن مقاييس أهل الدنيا من الماديين، فالإيمان والعمل الصالح هو الأصل والأساس الذي أوجد الله الخلق في هذه الحياة، وخلقهم من أجله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات: 56] فمن ضيع هذا الأصل، وغفل عنه، فقد ضيع الهدف الأساس الأكبر من إيجاده، فتكون خسارته مُحققة؛ ولذلك تجد هؤلاء مساكين في حال من البؤس والشقاء.

وهذا الرجل الذي ألف هذا الكتاب الذي سار مسير الشمس "دع القلق وابدأ الحياة" هذا الرجل قرأت كتابه لكثرة ما يُذكر على الألسُن ويُشاع ويُذاع، فرحمت المؤلف، كل ما يذكره هو في بعض آية من كتاب الله فرحمته ورحمت هذه الأمثلة التي يذكرها من أجل أن يوسع المجال والمدارك للناس ليأنسوا ويسعدوا في الحياة، ولا يقلقوا بسبب المصائب، وما يُلم بهم، ماذا كانت نهاية هذا الرجل؟ الانتحار، فهو لم يجلب السعادة لنفسه؛ لماذا؟ لأنه لا يوجد في نفسه مصدر للنور اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ يعني: هداه، نور في قلب المؤمن كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ [سورة النور:35] فهؤلاء يفتقدون مثل هذا، فلا يوجد في قلوبهم شيء، فقلوبهم مُظلمة، فجاءت أعمالهم مُظلمة، وأصبحت وجوههم مُظلمة، فأظلمت الدنيا في أعنيهم، وهكذا الظلمة في قبورهم، كما قال النبي ﷺ مُخبرًا عن القبور: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها[3] ثم بعد ذلك يكونون في ظلمة، فيتهاوون في النار في محشرهم.

فالعقل في القلب فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [سورة الحج:46] فهذا العقل في القلب ومادته التي يستمد بها العلوم والمعارف، فيعقل عن الله -تبارك وتعالى- أو يعقل ما يراه من الآيات المشهودة، كل ذلك عن طريق السمع والبصر، فبالسمع يسمع الآيات المتلوة، وبالبصر يرى الآيات المشهودة، فهذان مصدران للعقل والعلم والمعرفة والهدى، فإذا وجد المحل القابل وهو القلب الحي، فإن ذلك يُثمر فيه، فينتفع الإنسان بهذه الآيات، ويعقل عن الله.

وأما إذا كان المحل غير قابل، فإن هذه الأسماع والأبصار تكون معطلة، فلا يُبصر إبصارًا ينتفع به، ولا يسمع سماعًا ينتفع به، لكنه لا يصل إلى قلبه، ويُشاهد الأشياء والعِبر والعظات، ولكنه بمنأى عن الله -تبارك وتعالى- انظروا الآن إلى ما توصل إليه الناس في هذا العصر من أنواع العلوم الدقيقة، وما كشفته العلوم من العجائب الدالة على قدرة الله، وعظيم خلقه، في قعر البحار، وفي جسم الإنسان، وفي هذا الكون الذي نُشاهده، ومع ذلك هل تحول هؤلاء إلى مؤمنين مستجيبين مذعنين؟ الجواب: لا؛ لماذا؟

لأن هؤلاء قد عطلت الأسماع والأبصار عندهم، فلا ينتفعون، بل قد يعزوا بعضهم هذا إلى الطبيعة بعيدًا عن الخالق -تبارك وتعالى- وهكذا ما يُرسله الله من الآيات، وما يحصل من مد البحار الذي يحطم كل شيء، فيجعل الديار بلاقع في لحظات، وكذلك أيضًا ما يحصل من الزلازل والآفات السماوية والأرضية هذه آية توقظ قلوب أهل الإيمان؛ ولهذا كان النبي ﷺ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي ﷺ إذا رأى مخيلة في السماء، أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه، فعرفته عائشة ذلك، فقال النبي ﷺ: ما أدري لعله كما قال قوم: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ [سورة الأحقاف: 24] الآية[4]

فهؤلاء قالوا: عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [سورة الأحقاف:25، 26] فكان يخشى -عليه الصلاة والسلام- وهو أعلم الناس بالله، لكن حينما يكون الإنسان أجهل الناس بالله إذا رأى السحاب فرح وضحك بملأ فيه، وإذا رأى الخسوف والكسوف لبس نظارة تُمكنه من النظر والرؤية دون ضرر في العين، وأخذ الكاميرا ومُكبر الصور، ثم ذهب إلى الأماكن الفسيحة، وشواطئ البحار، ونحو ذلك؛ ليلتقط الصور، أو يُشاهد ويستمتع بالنظر إلى كسوف الشمس.

هكذا حينما ينعدم الإيمان، ويضمحل في نفس العبد، لا تؤثر هذه المشاهد والآيات المتلوة والمرئية، وهكذا إذا كان القلب مريضًا، فإن هذه تمرض أيضًا معه؛ لأنه ملك الجوارح، فإذا مرض القلب مرض السمع والبصر، فتضعف الاستجابة والتأثر؛ ولهذا تجد الإنسان يسمع القرآن من أوله إلى آخره، ولا يُحرك فيه شعرة، فأين هذا ممن وصف الله -تبارك وتعالى- وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [سورة الإسراء:109] وقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الزمر:23]؟ فأين هذا من حالنا وما نُعانيه من قسوة القلوب؟! والله المستعان.

ومرض القلب يكون بسبب الشبهات تارة، ويكون بسبب الشهوات تارة، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [سورة آل عمران:7] الزيغ يعني: الانحراف والمرض، وكذلك فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [سورة البقرة:10] فهذا مرض الشبهة في أهل النفاق، وأما مرض الشهوات فذلك في قوله في سورة الأحزاب: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] لما نهى عن الخضوع بالقول، والمقصود به الميل المحرم إلى النساء.

فينبغي للمؤمن أن لا يُصغي بقلبه إلى الشبهات، وأن لا يقرأها، ولا يتابع تلك الحسابات، أو يدخل في تلك المواقع؛ لأن ذلك يعلق بقلبه، فلا يستطيع أن يستخرجه منه، وكلام السلف كثير في هذا مع أنهم جبال في العلم، كان الواحد يضع أُصبع في أُذنيه، ولا يسمح لأحد أن يُلقي شبهة في قلبه؛ ولهذا كان الإمام أحمد يعيب على الحارث المُحاسبي أنه كان يعرض الشبهة، ثم يرد عليها، فكان يقول: لا آمن أن تقع في قلب رجل، ثم بعد ذلك لا تخرج منه، وقد يأتي الرد قاصرًا، وقد لا يقتنع هذا الإنسان بهذا الرد، فالشبهة كما قيل خطافة، فيُعرض الإنسان ويبتعد، ويطلب السلامة من الشُبه.

وإذا جاءك إنسان ويستحلفك أن تُشاهد هذا المقطع، أو تقرأ هذا الكلام لبعض المُضلين المُنحرفين امسح مُباشرة، وحلفه لا قيمة له، ولا تُعرض قلبك لهذه الشبهات ابتداء للوقاية، وإذا وقعت الشبهة في القلب فذلك نوعان: نوع هو من قبيل الوساوس يُلقيه الشيطان، فهذا لا يضره، هي وساوس مُقلقة، يأتيه الشيطان ويقول له: كذا وكذا، فينزعج، وإذا قرأ القرآن ألقى في قلبه أشياء فيتألم لذلك، فهذا الذي قال فيه النبي ﷺ: ذاك صريح الإيمان[5] وقال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[6] فيطمئن المؤمن ولا يسترسل مع ذلك، ويُعرض عنه، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويشغل نفسه بأمر آخر مباشرة.

النوع الثاني: ما وقعت الشبهة فيه بسبب عارض في شبهة قرأها أو سمعها، أو نحو ذلك، ولُبس عليه الحق، فهذا يحتاج إلى كشفها، فيذهب إلى من يعتقد أنه يكشف ذلك بالعلم، فإن جلاء هذه الشبهات هو العلم، وأما الشهوات فجلاءها بالتوبة والاستغفار والانطراح بين يدي الله، ولزوم طاعته، فهذا تُكشف الشبهة بالسؤال الذي يُطلب فيه الاسترشاد، وليس الامتحان أو التعنت، أو نحو ذلك، فيُبين له الحق بأقرب طريق، دون الخوض في أمور لا يحسن الخوض فيها.

فنسأل الله أن يهدينا بهداه، وأن يُعيننا على ذكره وشكره، وحُسن عبادته، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [سورة الكهف:105] الآية برقم: (4729) ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم كتاب صفة القيامة والجنة والنار برقم: (2785).
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب إذا بقي في حثالة من الناس برقم: (6675) ومسلم في كتاب الإيمان باب رفع الأمانة برقم: (284).
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب الصلاة على القبر بعد الدفن برقم: (2174).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [سورة الفرقان:48] برقم: (3206) ومسلم في صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم برقم: (899).
  5.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها برقم: (132).
  6.  أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب في رد الوسوسة برقم: (5112) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة