الأحد 15 / جمادى الأولى / 1446 - 17 / نوفمبر 2024
[139] قوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ..} الآية:184
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 1005
مرات الإستماع: 1977

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى- بعد أن شرع الصيام، وفرضه على عباده، بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183] فكان ذلك من تيسيره وتسهيله، كما ذكرنا سابقًا بأن خفف عنهم، وخاطبهم في غاية التلطف باسم الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [سورة البقرة:183].

كما خففه عنهم بذكر كتْبه على الذين من قبلهم، فليسوا بأول من فُرض عليه الصوم، ثم ذكر لهم علته التي تبعثهم على المُبادرة إليه، فتخف عليهم مشقته؛ وذلك بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183] ثم خففه بعد ذلك بقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184] مدة قليلة، وهي شهر رمضان، ثم خفف عنهم، ويسر عليهم في البداية، حينما شرعه بأن لم يجعله لازمًا على كل مُكلف، وإنما شرعه على سبيل التخيير، فمن شاء صام، ومن شاء أطعم.

كما رخص أيضًا للمُسافر بالفطر، وكذلك المريض، فقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] ولم يُقيد هذا المرض بنوعٍ من الأمراض، وإنما أطلقه، فمتى كان هذا المرض يشق معه الصوم مشقة مُعتبرة، أو أنه يتأخر معه البُرء، فإنه يُباح للإنسان الفطر، فينظم ذلك أنواعًا كثيرة من العِلل الموجودة في ذلك الوقت، وما يجد في المُستقبل.

وكذلك أيضًا السفر لم يُقيده بالسفر الطويل بعيد الشُقة، ولم يُقيده أيضًا بما يحصل معه المشقة الكبيرة المُعتبرة، وإنما قال: أَوْ عَلَى سَفَرٍ فالسفر بمُجرده هو مظنة للمشقة، فيجوز له الفطر ولو لم يحصل له شيء من المشقات، وما حصل من الوسائل بعد ذلك، كما نرى اليوم في وسائل النقل المُريحة، التي قد لا يحصل معها مشقة للمُسافرين، ومع ذلك يُباح لهم السفر، فهذا من رحمته -تبارك وتعالى.

وكذلك أيضًا من لُطفه ورحمته وتخفيفه أنه جعل القضاء غير مُقيد بوقت يُكافئ تلك الأيام في الطول أو القِصر أو الحر والبرد أو في شهر معين، أو بعد رمضان مُباشرة، فحينما ينقضي العيد، وإنما قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ في أي وقت في السنة له أن يصوم قضاء الصيف بوقت الشتاء، مع برد الهواء، وقِصر النهار، وله أن يتخير من الأزمان ما شاء، من شهور السنة وأيامها ومواسمها.

وكذلك أيضًا تأمل هذا التخفيف الآخر الذي أشرت إليه آنفًا وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [سورة البقرة:184] فعلى الأرجح من أقوال المفسرين أن المقصود بذلك أن غير المُسافرين والمرضى من ذوي الأعذار أنه يُباح للمُطيق للصوم أن يُفطر من غير علة ولا عُذر في أول شرع الصوم، ويخُرج فدية بدل الصوم، ولا يحتاج إلى القضاء، يُطعم مسكينًا واحدًا، هكذا كان شرع الصوم في أوله، لكنه أرشدهم إلى المُبادرة إلى الخيرات، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [سورة البقرة:184] سواء كان ذلك من جهة الإطعام وهو أن يزيد على المسكين في المقدار الذي يُخرجه للمسكين، أو أن يزيد في عدد المساكين.

وكذلك أيضًا شرع لهم المُبادرة إلى الخيرات والفضائل والدرجات العالية، بقوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:184] يعني: أن الصوم خير لكم من الإطعام، فهو أفضل كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به[1]، فالصوم من الصبر، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة الزمر:10].

فيُؤخذ من هذه الآية من الفوائد: مشروعية التخفيف والتسهيل والتيسير في المطالب الشاقة، فإذا كان ربنا -تبارك وتعالى- وهو العزيز الحكيم حينما شرع هذه العبادة الشاقة تلطف بالعباد، وخاطبهم بهذا الخطاب، ويسر وسهل عليهم هذه العبادة بهذه الوجوه من التسهيل، ورغبهم فيها بمرغبات متنوعة، فهكذا يُؤخذ منه أن من يُطالب غيره بأمر يشق عليه أن يتلمس وجوه التيسير، وأن يتلطف بالخطاب، وأن يُخفف من وطأة ذلك عليه، سواء كان ذلك في الأهل والأولاد، أو كان ذلك في الأعمال التي تُناط بالآخرين، مما نُكلفهم به، أو غير ذلك.

ولاحظ هنا جمع القِلة أَيَامًا مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184] فالأيام هذه جمع قِلة، فعُبر عن الشهر بالأيام، كل ذلك للتسهيل والتخفيف، وذكر العدد مَعْدُودَاتٍ وهذه أيضًا جمع قِلة، والشيء الذي يُعبر عنه بمثل هذا أَيَامًا مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184] يدل على يسره وقلته، فهو شيء يحتاج إلى قليل من الصبر، ثم بعد ذلك يمضي، وكل ذلك للتخفيف على المُكلفين، والتسهيل عليهم.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: أَيَامًا مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184] سرعة انقضاء الشهر، وكثير منا يتأسف حينما يقرُب رحيل الشهر، ويشعر أنه قد مضى من بين يديه، وتفلت ولم يقض منه نهمته، ولم يستغل الأوقات والساعات من هذا الشهر الاستغلال اللائق به، فنُفرط وتفوت الأيام فينتصف الشهر، ثم بعد ذلك يرتحل فنأسف على رحيله، فهذا يدعو أهل الإيمان إلى الجد والاجتهاد في استغلال لحظات هذا الشهر، والعمر هكذا كله -أيها الأحبة- يمضي سريعًا، وتمضي السنون، وأصبحنا نُخطئ في عدها، وفي حساب الأيام والشهور والأعوام وما يجري فيها، فيلتبس علينا ما كان قبل أربعة أعوام، وما كان قبل عشرة أعوام، ولا ندري ربما ما هو الأول من ذلك، ونُفاجأ أن الأمر الفلاني قد مضى عليه عشر سنوات كأنها ليلة، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى- لاستغلال الأنفاس واللحظات في طاعة مولاه .

فهذه التخفيفات والتيسير كل ذلك مما يُستدل به على أن المشقة تجلب التيسير، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] وهذه من القواعد الخمس الكُبرى المعروفة في الشريعة.

وقوله -تبارك وتعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] يدل في القضاء من جهة حكمه أن من أفطر رمضان يقضي بقدره، وإذا كان رمضان مُكتملاً، فإنه يقضي ثلاثين يومًا، وإذا كان الشهر ناقصًا فإنه يقضي تسعة وعشرين يومًا؛ لأنه لم يقل: فشهر مكانه، وإنما قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] وهذا يشمل من أفطر الشهر بكماله، ومن أفطر بعضه، كما يدل ذلك أيضًا على أنه يتخير في القضاء، فله كما ذكرت أن يقضيَ الأيام الطويلة إذا كان رمضان في موسم الصيف، في فصل الشتاء، حيث قِصر النهار، فإن الله -تبارك وتعالى- اعتبر الأيام فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184].

ويُؤخذ من هذا أيضًا جانبًا تربويًا، وهو مشروعة التدرج للترقي إلى الوصول إلى المراتب العالية، والأعمال والعبادات التي تحتاج إلى توطين النفوس عليها، سواء كان ذلك في الإنسان مع خاصة نفسه، أو كان ذلك مع غيره، فمن الناس من ربما يغلب عليه الاندفاع في لحظات إشراق للنفس، فيريد أن يقوم ليلاً طويلاً، وأن يصوم يومًا، وأن يُفطر يومًا، وأن يختم كل ثلاث، ثم ينقطع، لكن لو أنه يتدرج، فمن لم يكن له عهد بقيام الليل، فإنه يمكن أن يُصلي وقتًا يستطيع أن يستمر عليه، ثم يزيد بعد ذلك حينما تتوطن نفسه على هذا، فإذا توطنت نفسه على ما بعده ترقى بها إلى مرتبة فوق ذلك، حتى يوطن النفس عليها، ثم يرفعها بعده، وهكذا فيجد نفسه يصل إلى مراتب عالية، وقل مثل ذلك فيمن لا عهد له بالصوم، أعني صوم التطوع، فيمكن أن يبتدأ بشيء لا يشق، كصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم يصوم يومًا في الأسبوع، ثم يصوم يومين، ثم له بعد ذلك أن يصوم يومًا، وأن يُفطر يومًا، وهكذا في قراءة القرآن، وغير ذلك، يُدرجها بهذه الطريقة، فيبدأ بجزء في كل يوم، فإذا توطنت نفسه عليه، وصار عادة له لا يُخل بها، انتقل إلى ما هو أكثر من ذلك، شيئًا فشيئًا، حتى يختم في سبعة أيام، أو فيما هو أقل من ذلك.

وهكذا أيضًا يُؤخذ من هذه الآية تفاضل الأعمال وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة:184] فدل على أن الصوم أفضل من الإطعام، ومعلوم على أن هذه الآية على الأرجح نُسخ ذلك منها، فصار الصوم لازمًا بما ذكر الله بعده: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة:185] فصار الصوم حتمًا لازمًا على كل مُكلف مُقيم غير معذور كالمريض.

وحذف المعمول في قوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:184] أي: إن كنتم من ذوي العلم الذي يحصل به الميز بين الأنفع والأرفع والأفضل؛ وذلك من بلاغة القرآن، حيث يختصر الكلام الذي يكون معلومًا لدى المُخاطبين، وهو كثير في كتاب الله -تبارك وتعالى.

وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، الذين يتكلفون الصوم، فيشق عليهم، فالآية ليست منسوخة على هذا القول؛ ولذلك قلت لكم: على الراجح؛ لأنها ليست محل اتفاق أعني قضية النسخ، فبعض أهل العلم يقولون: لا نسخ، فهذه الآية فيمن يتكلفون الصوم؛ ولهذا في قراءة غير متواترة لابن عباس -رضي الله عنهما: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطيّقُونَهُ)[2]، ويطوقونه يعني: يتكلفون الصوم، ويتجشمونه بصعوبة وكُلفة، فهؤلاء يُطعمون مسكينًا، كما نُشاهد بعض كبار السن من أهل الإيمان يشق عليه جدًا أن يُفطر مع الكُلفة البالغة التي يجدها في الصوم.

فهؤلاء يُذكرون بهذه الرُخصة، فتجد الواحد منهم يُعاني ويُكابد، ومع ذلك لا يُفرط في الصوم، هؤلاء ارتاضت نفوسهم على الطاعة، بينما من كانت نفسه لا زالت طُلَعة للخروج عن حدود الله التي حدها يفرح إذا لاح له عُذر، بل تجد من يفرح إذا لم يُعلن دخول الشهر، وكذلك يفرح إذا أُعلن خروج الشهر؛ لأن نفسه لا زالت غير مروضة، فالصوم بالنسبة إليه عِبء ثقيل؛ ولذلك هؤلاء إذا أراد الواحد منهم أن يصوم الست يجد أنواع المُعاناة، فبعضهم يريد أن يصوم من اليوم الثاني؛ ليتخلص بزعمه، ويجعل آخر ذلك عيدًا آخر، وبعض هؤلاء يجعلها مُفرقة بزعمه من أجل أن لا يشعر بها، والبعض لا يصوم أصلاً،.

وهكذا لو أن الواحد من هؤلاء أراد أن يصوم عاشوراء مثلاً فهو يتحدث كثيرًا، ويسأل طويلاً: هل يصوم التاسع؟ وهل يلزم صيام التاسع أو لا؟ وهل يكفي عاشوراء؟ ومتى عاشوراء؟ ومتى ثبت دخول الشهر؟ فاليوم بالنسبة إليه يعني الشيء الكثير، يحمل همًا، وبعضهم يذكر أنه يتكدر في اليوم الذي قبله، يعني: لا يكون في حال من الراحة والسعادة والأُنس في اليوم الذي قبله، إذا كان يريد أن يصوم يوم الخميس ويوم الأربعاء، يكون مهمومًا مغمومًا؛ لأنه سيصوم الخميس، هذه نفوس ما تروضت، والمجاهدة لا بد منها، وإلا إذا استرسل الإنسان مع نفسه، فتشق عليه حتى الفرائض من الصيام والصلاة والزكاة، وغير ذلك.

وكبير السن الذي لا يستطيع الصوم ومعه عقله فإنه يُطعم عن كل يوم مسكينًا، وأما بالنسبة للمرضى فهم أنواع، إن كان المرض لا يُرجى بُرئه فإنه يُطعم عن كل يوم مسكينًا منذ دخول الشهر، أو يؤخر ذلك إلى آخر الشهر، فيُطعمهم كما كان يفعل أنس بن مالك ، فلو مات هذا المريض المرض الذي لا يُرجى بُرئه، وهو لم يصم ولم يُطعم عنه يُقال ذلك يُخرج من تركته، فيُطعم عنه ولا يُصام؛ لأن حقه الإطعام، وإن كان المرض يُرجى بُرئه، فإنه لا يُطعم، فإذا مات في أثناء شهر رمضان، أو مات يوم العيد، أو مات وقد استمر به المرض بعد رمضان، يعني لم يكن هناك وقت لإمكان القضاء، فإنه لا قضاء ولا إطعام، فليس عليه شيء، إنسان أفطر رمضان لمرض يُرجى بُرئه فمات في الشهر، أو يوم العيد، أو مات بعد رمضان بشهر، لكن المرض مُستمر ما استطاع أن يقضي، أو امرأة كانت نُفساء ما استطاعت أن تقضي، ففي هذه الحال لا قضاء ولا إطعام، لكن من الذي يقضي؟ هو من كان به مرض يُرجى بُرئه فبرأ فأمكن القضاء فهنا يقضي، فإذا مات ولم يقض مع الإمكان فالنبي ﷺ يقول: من مات وعليه صيام صام عنه وليه[3]، وهذا في ظاهره عام، فيشمل النذر، وفرض الصوم من رمضان.

أسأل الله أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره، وحُسن عبادته، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم برقم: (1904) ومسلم في الصيام، باب فضل الصيام برقم: (1151).
  2. المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها (1/ 118).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم رقم: (1952) ومسلم في الصيام باب قضاء الصيام عن الميت رقم: (1147).

مواد ذات صلة