الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[143] تكملة قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ..} الآية:186
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 1028
مرات الإستماع: 1558

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنواصل الحديث عن قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186].

إجابة الدعاء: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، تكون عن صحة الاعتقاد، وكمال الطاعة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[1]، لأن الله ذكر الأمرين بقوله: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي، فذكر الإيمان وذكر أيضًا الطاعة والاستجابة، وهذه الطاعة والاستجابة هي التي فيها مصلحة العبد، وقوام سعادته في الدنيا والآخرة، وأما ما سأل فقد يكون فيه مصلحة له قد يكون فيه مضرة كما قال الله -تبارك وتعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ [سورة الإسراء:11]، فالإنسان قد يدعوا بشيء يسأل شيئًا قد يكون مضرة عليه، أما الاستجابة لله -تبارك وتعالى، والإيمان به فذلك مصلحة على كل حال، هذا الذي يحصل به سعادة الدنيا والآخرة، واستقامة الأحوال كما لا يخفى.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، هو ما قيل له: داعٍ إلا لأنه دعا، فلاحظ هنا: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فسماه داعيًا ثم علق بالشرط بقوله: إِذَا دَعَانِ، فهذا ذكر بعض أهل العلم أنه يُشعر بمعنى الإقبال على الله -تبارك وتعالى- بالدعاء، والسؤال والطلب مع الصدق في ذلك، وحضور القلب، والافتقار إلى الله -تبارك وتعالى، فهذا يمكن أن يؤخذ من هذه الجملة: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، يعني: إذا صدق في دعاءه وإقباله على ربه -تبارك وتعالى- مع شعوره بالافتقار إلى ربه والانطراح بين يديه فإن الله يُجيب دعاءه: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فيحتاج إلى إخلاص في هذا الدعاء مع حضور القلب والصدق في الرغبة لا يدعوا دعاء المُجرب، ولا يكون هذا الدعاء من قلب غافل يرفع يديه وقلبه بعيد عن هذا الدعاء والسؤال.

وتأمل هنا قوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، لم يُقيده بالمشيئة ما قال: إن شئت وإنما مُباشرة: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، لكن في موضع آخر: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [سورة الأنعام:41]، فبعض أهل العلم يقولون: إن هذه الآية: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [سورة الأنعام:41]، جاء التقييد بالمشيئة؛ لأنها في دعاء الكفار فقيده بذلك، أما هذه فهي خطاب للمؤمنين الذين خوطبوا بالصيام وأضافهم إلى نفسه إضافة تشريف: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186]، فهنا جاءت هذه من غير تقييد بالمشيئة، فدعاء المؤمن لا يُرد إلا إذا كان بإثم أو قطيعة رحم، أو إذا حصل فيه العجلة كما قال النبي ﷺ: يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، وفسر ذلك بقوله ﷺ: يقول دعوت فلم يُستجب لي[2]، يعني: يستبطأ الإجابة.

وتأمل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186]، جاء عن خالد الربعي -رحمه الله- أنه قال: "عجبت لهذه الأمة، أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة وليس بينهما شرط[3]، يعني: أن البشارة مشروطة بالإيمان والعمل الصالح، لكن هنا في الدعاء ليس هناك شرط: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60]، بلا شرط، لم يذكر شرطًا في الآية، فما بينك وبين ربك -تبارك وتعالى- إلا أن ترفع يديك وتقول: يا رب.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي، هنا فليستجيبوا لي بالإيمان وطاعة المعبود ، والعمل بشرائع الدين، والكف عن ما حرم الله -تبارك وتعالى، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، وذكر هذا بعد الدعاء والوعد بالإجابة مُشعر بأن ذلك من جهة أنه -تبارك وتعالى- مُستحق للاستجابة لأنه يستجيب دعاءكم، ومن جهة أيضًا أن من أراد أن يُستجاب دعاءه وأن يُحقق سؤله فعليه أن يستجيب لربه -تبارك وتعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24]، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، إذا دعاك أمرك الله بشيء فيجب عليك أن تمتثل، وتقول: سمعنا وأطعنا.

وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ من أجل أن يحصل لهم الرشد وذلك كمال الحال واستقامة الأمور والأعمال في هذه الدار في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فإن الاستجابة لله -تبارك وتعالى- مؤذنة بصلاح الدارين، تستقيم أحوال الناس وتكون أرزاقهم دارة وبلادهم قارة ويكون هؤلاء الناس على حالة مرضية تنتفي عنهم العقوبات الربانية وتكون أعمالهم مُسددة، وأقوالهم مُسددة، ويكون الناس في حال من الصلاح والاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى، هذا هو الرشد لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، وفي الآخرة يكون ذلك بالفوز برضا الله -تبارك وتعالى- وجنته.

فهذه الآية الكريمة تضمنت هذه المعاني، ونحن أحوج ما نكون إلى التبصر بذلك في مثل هذه الأوقات التي تكثر فيها الشرور والفتن، أن يُكثر المرء من دعاء الله  وسؤاله أن يُنجيه، وأن يُسلمه، وأن يُخلصه، وأن يُصلح قلبه وعمله، وأن يُسدد لسانه، ويهدي قلبه، فيسلم من الضلالات والآفات والآثام وسائر الشرور والمُوبقات، المؤمن أحوج ما يكون إلى هذا في أوقات الفتن فهو كالذي يركب البحر فهو يقول: اللهم سلم اللهم سلم، يسأل ربه السلامة والعافية، ويسأل ذلك أيضًا لإخوانه المسلمين، ولا يكون شغله بغيره يشمت بهذا، ويسخر من هذا أو نحو ذلك، كما جاء عن بعض السلف: "لا تنظر إلى ضلال من ضل كيف ضل، ولكن انظر إلى نجى كيف نجى[4]، انظروا ما يجري وما جرى في هذا اليوم وفي غيره.

لو شاء ربك أيضًا كنت مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمنِ[5]

كيف يرتكب الإنسان ما يُزين له الشيطان، وتُزين له نفسه، ثم بعد ذلك تكون عاقبته إلى حال غير مرضية، فيحتاج العبد إلى أن يُجدد التوبة دائمًا، ويُكثر من الاستغفار ويُراجع نفسه وينظر في طريق النجاة كيف يسلم كيف يلقى الله سالمًا من الشرور والفتن، فهي تكثر أيها الأحبة في آخر الزمان، وكثرتها مؤذنة بتساهل الناس فيها وقلة المُبالة، وكثير من الناس ليس له في ذلك من البصر وحُسن النظر في الأمور، والاعتبار والتعقل إنما شُغله أن يقفوا ما ليس له به علم، والله يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [سورة الإسراء:36].

وإذا كان أشرف الخلق -عليه الصلاة والسلام- يُكثر أن يقول ﷺ في سجوده: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[6]، فكيف يقول من هو من المقصرين المُخلطين المُذنبين من أمثالنا، فنحتاج إلى صدق مع الله، وإخلاص، ومُحاسبة للنفس، وكثرة الدعاء بالهداية، والنجاة، والسلامة من مُضلات الفتن.

فنسأل الله أن يحفظنا وإياكم وسائر المسلمين بحفظه، وأن يكلأنا برعايته، وأن يُجنبنا وإياكم وسائر المسلمين من الشرور والفتن المُضلة، وأن يُصلح أحوال هذه الأمة، وأن يجمع كلمتها على الحق، وأن يحفظ للمسلمين أمنهم وأمانهم وإيمانهم، وأن يُجنبهم مُضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يُدر أرزاقهم، ويُكثر خيراتهم، ويصرف عنهم شر الأشرار، وكيد الفجار، إنه سميع مُجيب.

هذا ما يتعلق بهذه الآية، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه

  1. مجموع الفتاوى (14/ 33).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، برقم (6340)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول: دعوت فلم يستجب لي، برقم (2735).
  3. تفسير القرطبي (2/ 309).
  4. أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 72) بلفظ: "يا بني لا تعجب ممن هلك كيف هلك، ولكن اعجب ممن نجا كيف نجا".
  5. نونية ابن القيم (الكافية الشافية) (ص: 20).
  6. أخرجه الترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، برقم (2140)، وبرقم (3522)، وابن ماجه، أبواب الدعاء، باب دعاء رسول الله ﷺ، برقم (3834)، وأحمد في المسند، برقم (12107)، وقال محققوه: "إسناده قوي على شرط مسلم"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2091).

مواد ذات صلة